عقلية الفساد: تغليب آنية الانتهاز على استدامة المنفعة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
ابتليت مجتمعاتنا بأن آل امر الحكم والعلم فيها إلى أناس أفسدوا قيم المجتمع وأفسدوا الذمم واختلط على الشباب اليافع ما هو صالح وما هو طالح, والشبل اليافع والإبن في البيت وفي المدرسة يرى ما يمارسه كبراؤه من كذب وغش وتدليس وظلم وأكل أموال الناس بالباطل ثم يقومون للصلاة وكأنها أمور عادية يبيحها الإسلام الذي يمتطونه لتبرير فسادهم. فتربت أجيال على هذه القيم الخاطئة وفسدت المجتمعات وفسدت القيم بفساد القيمين عليها من حكام وعلماء السلطات (ليس هذا حكما معمما على الكل هناك بالطبع الكثير من المستقيمن) لكننا نتحدث هنا عن الغالب الأعم من الناس في الممارسات اليومية main stream.
المجتمعات التي يستشري فيها الفساد هي قطعا مجتمعات آيلة إلى الزوال وذهاب ريحها بسبب الإنهيار الذي يلحقها من الممارسات الفاسدة التي بطبيعة الحال لا تقدم بل تؤخر دوما. الغريب في أمر المجتمع الذي يستشري فيه الفساد أن أفراده يسعون لإنتهاز الفرص السانحة الآنية مثل الرشوة وجلب المنفعة فى الوظيفة والعمل والمال والتراخيص عن طريق الواسطة والمحسوبية والتعدي على المال العام وإستقلال المنصب لجلب المصلحة الذاتية, كلها طرائق يتبعها الغالب الاعم من الناس, هذه المصلحة الإنتهازية الآنية التي يحصل عليها الفرد تتصف بالصفات التالية: هي غير مشروعة, دنيئة, ملتوية, أنانية, وهي في ذات الوقت ضئيلة في المبنى والمعنى إذا ما قيست بالمصلحة التي تتحقق في ظروف صحيحة معافاة وفي مجتمع يأخذ كل فرد فيه حقه بمشروعية وحسب القانون, فهذه تتصف بالصفات التالية: عفيفة مشروعة مستقيمة كريمة وهي في ذات الوقت كبيرة ومستدامة.
الحاكم هو السبب الأول والاخير في استشراء الفساد في المجتمع:
الحاكم هو الذي يسعى لإفساد المجتمع حتى يسهل عليه قياده. يعمد الحاكم إلى استمالة من لديهم الإستعداد للفساد بإغراءات السلطة والجاه والسلطان والوظائف. فيؤم دولاب الحكم في الدولة أناس ملتوون ليس بسبب كفاءاتهم ومقدراتهم, بل بسبب تسبيحهم بحمد السلطان وتمجيدهم اياه, وبسبب موالاتهم له والسكوت على ظلمه وبطشه وتعدياته, ومشاركته في أفعاله الشنيعة في الظلم والفساد وأكل أموال الناس بالباطل. ويظل ذلك ديدن الدولة من أعلى هرمها إلى أسفل سلم فيها – دولاب حكم فاسد – لا يأبه بمقدرات الأمة ولا حقوق الناس, بل يعتبرها غنيمة سانحة, ولا أحد يسأله, حيث تنعدم المساءلة accountabilityبالدولة الفاسدة لأن الفساد عم كل الهرم, ولا يستطيع من هو في أعلى الهرم مساءلة من هو دونه, لأن كل واحد منهم عارف بعورة الآخر. فتصير حقوق العباد في أيادي عصابة من النهّابين فتضيع حقوق الناس. ومن يريد أخذ حقوقه من الرعية عليه أن يدفع: من أراد أمرا من الأمور في دواوين الدولة عليه أن يدفع رشوة ليأخذ حقه, ومن أراد وظيفة أو عمل هو حق أصيل له عليه أن يدفع رشوة أو يأتي بواسطة أو بحسيب أو قريب. ومن أراد ترخيصا أو تجارة أو أرضا عليه أن يدفع أيضا كل بثمنه.
وحين يفسد المجتمع تشيع فيه أخلاق الفساد مثل الغش والخديعة والنفاق وانعدام المروءة والظلم والتجسس والتحسس والحسد والضغينة والخوف والمراوغة والرذيلة وغيرها من الأخلاق الذميمة – التي هي في مجملها ما قصد الحاكم أن ينبت في المجتمع الذي غرسها فيه حتى يقطف ثمارها مجتمعا خائفا خانعا منافقا يسهل عليه ترويضه وشراؤه وتوجيهه حسب ما يشاء. ولكن في نهاية المطاف يجني هذا الحاكم الفاسد مجتمعا هزيلا ضعيفا خائرا لا يقوى على دفع الضر عن نفسه, ولا عن بلده حين يجد الجد وتدلهم الأمور. فسوف لن يجد الحاكم الذي أفسد شعبه لن يجد حوله من يشد من أزره ويعضده, بل سوف يتخلى عنه السدنة الإنتهازيون في أول سانحة ويتخلى عنه الشعب لما أذاقهم من ذل وهوان.
العجب كل العجب لأمة ترتضي أن تتعايش مع الفساد وتمارس أساليبه المختلفة في حياتها اليومية. الممارسات الفاسدة يمكن أن يحصل بها المرء على منفعة آنية هي حق أصيل له (inalienable right) . السؤال البديهي: لماذا لا يحصل المرء على حقه الأصيل هذا بطريق مشروع ونظيف؟ لماذا عن طريق ملتو وفاسد؟ الإجابة على هذا السؤال واضحة وهي: أن الدولة فاسدة ولا يمكن الحصول على الحقوق المشروعة إلا بأساليب فاسدة. الشيء الغريب أن المجتمع الفاسد بدلا من مواجهة الفساد والعمل على إجتثاثه – بإزالة الحاكم الفاسد – يتحول المجتمع كله إلى ممارسة الفساد تمشيا مع رغبة الحاكم في إفساد المجتمع. في هذه الحالة المجتمع كمن يقول: حكامنا فاسدون, والناس على دين ملوكهم.
إجتثاث الفساد بإزالة الحاكم الفاسد هي ليست نصرة للحق والعدل فقط, بل هي نصرة للمرء نفسه لمروءته وأخلاقه ونصرة لحقوقه الأصيلة وإستدامة هذه الحقوق في ظل حكم عادل رشيد يحفظ على الناس أخلاقهم قبل حقوقهم.
Fadl8alla@yahoo.com
الاربعاء 6 [بريا 2011 الموافق 2 جمادى الأولى 1432ه