عكير الدامر هدية البحر لللنيل …. بقلم: أسعد الطيب العباسي

 


 

 

assdaltayib@hotmail.com

ضاق البحر على اتساعه على رزق الهدندوي ابراهيم اوكير، فهجره كأنما يسافر من دمه، وعلى أكتافه متاعٌ قليل، وفي قلبه عقيدة أنصارية ثقيلة. بهذا الحمل ضرب في الأرض باحثاً عن الرزق والقرن الثامن عشر يضرب بأخفاف سراع نحو قرن جديد ليرحب به وينزوي، وهواتف الهدندوي المثقل بهمومه تهتف له من اعماقه هتافاً قوياً وتصيح به: "النيل.. النيل.. عذوبته ستنسيك ملوحة ماء البحر، وعنفوانه سيلهيك عن ثبجه العاتي، هناك ستحرر آمالك المكبلة وستبلغ بأمانيك المدى".

وعندما تردد الهتاف بأصداء ملأت كل الدنيا قابلها الهدندوي برضى غامر وسار ليضع عصا ترحاله على قرية من قرى النيل، تقرب أو تلتحم مع مدينة الدامر العريقة، وقد بدت في ذاك الزمان بائسة بمنازلها البدائية الطينية المتفرقة، واستوت على حيطانها (الزبالة) وبنيت سقوفها بجرائد النخيل وسعفه وأعشاب التبس وسيقانه وشقائق أشجار الدوم وجذوعهن وسرعان ما يعتلي كل هذا خليط الزبالة بروث ابقاره وبعر أغنامه وحميره.

هي منازل تفتقر الى الأسوار، وتضربها في المواسم القاسية سافيات الرياح وهجير السموم، غير أن (العشير) رغم ذلك قرية غنية بأهلها الكرام الطيبين.. ونسيجها الاجتماعي الفريد، فلم يجد الهدندوي مشقة في ان يلج الى هذا المجتمع المضياف المتسم بالبساطة والعفوية، وأن يصير ضمن نسيجها القوي، فأضحى فاعلاً يأخذ معولاً وفأساً يحتطب الأشجار حيناً ويفلح الجروف أحياناً. وعندما ادركته قيمة العمل النبيلة وتوالى عليه الكسب الحلال، بدأت آماله تتحرر، وأخذت أمانيه تتحرك نحو غاياتها، وفي أوصاله دبت السعادة لتغمره في كل يوم وهو يتلقي من أهل العشير أجمل الهدايا هي ابتساماتهم العريضة التي تشع من وجوههم البشوشة وكلماتهم الطيبة وهي تخرج من دواخلهم البيضاء.. ولشد ما كان يود أن يعبر عن مشاعر غبطته بهذه الهدايا اليومية الثمينة تعبيراً صارخاً بيد أن لسانه البيجاوي الذي لم يتعود بعد على لهجتهم ذات الأصول العربية كان يحول دون ذلك، غير ان قطرات من الدمع كانت تنيب عن مشاعر الامتنان وتسرف في التعبير عنها، فبلغ الاطمئنان والاندماج حدوداً قصية، والهدندوي يتخذ من مناحيهم زوجة صالحة كان اذا نظر اليها سرته وإن أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته في ماله وعرضه. إنها آمنة الجعلية، انها الوعاء الذي حمل هدية الشرق للشمال، هدية البحر للنيل، انه علي الذي عرف فيما بعد بالشاعر (عكير الدامر). فعندما بدأ علي يغادر بطن أمه كلؤلؤة من محار لا يجود بها الزمان الا مرة واحدة كل ألف عام، كانت آمنة الجعلية مغطاة بحبيبات العرق من أعلاها حتى أخمص قدميها تعاني آلام الوضع والحبل القديم يشدها الى أعلى.

وما أن صرخ وليدها صرخته الأولى وانسابت اليها كنغمة مموسقة ترددت كقافية موزونة طروب، حتى انزاحت معاناتها وارتسمت على شفيتها ابتسامة تهزأ من ذلك الحبل وتستخف بكل ألم. وقيل إن الزهر في ذلك اليوم قد نبت في غير موسمه وإن سماء العشير البخيلة جادت بالمطر، حدث هذا والقرن العشرون يقبر من أعوامه المائة ستة أعوام، وعرف علي كيف يتمسك جيداً بثدي امه ويرتشف بنهم، ولا ندري أكان ذلك حليباً صرفاً أم أنه ممزوج بماء السحر والشعر، الشعر الذي قال يصفه عندما تضخمت موهبته وتكاثفت حتى ملأت الآفاق:

الشعر أصلو كلمات في القلب تتلمَّ

وعند الحوبة زي بلح استوى واترمّ

تنضما زي عقد على بعض تنضمَّ

وتصبح بكرة طيب والفيهو طيب بنشمَّ

نشأ علي في ربوع العشير والدامر التي التصقت باسمه التصاقاً تاماً، فعرف بـ(عكير الدامر) وأصبح الاسمان كتوأمين سياميين لا ينفصلان. كان طفلاً هادئ الطبع جميل المحيا، يقول أترابه إنه كان يبني على الشاطئ منازل من الرمل والطين والطمي كمهندس معماري خبير، يصبر على عمله حتى يرضى عنه، وعندما يسلك في لهو آخر يوائم حجارته ويتخير احجامها المتساوية لتتراصَّ أمامه كمربعات شعرية.. لا بد ان هذا الطفل سيصبح شاعراً جهيراً، فروحه كانت تحدثنا بذلك منذ أن كان في المهد.

عندما كان يرعى عكير الدامر الأغنام في طفولته المتقدمة، كان يطوف بها على مواطن الكلأ ويسقيها من أطراف النيل، وكم كان ألمه عظيماً وهو يرى تمساحاً يخرج من النيل كالمارد ويختطف في لمح البصر شاة من شياهه العزيزة على نفسه، فهاله المنظر وأحزنه، فصمم على الانتقام الذي استحال في نفسه على مر الأيام الى هواية، فأصبح يهوى صيد التماسيح، ويصطادها كما يصطاد شوارد القوافي، وامتدت هذه الهواية لتشمل صيد البر كالأرانب الخلوية والغزلان وغيرها، وكان له في ذلك ادوات، فامتلك أفضل البنادق التي كان يجيد التصويب بها اجادة تامة، وينتاش اهدافه بمهارة فائقة، كما امتلك اجود كلاب الصيد وأسرعها وصادقها وتغنى لها. قال عن كلبة من كلاب صيده:

حافظة الود وفي جيرانا مي نباحة

طول اياما ما نسبت علينا قباحة

باقية هدية ثابتة وفي القنيص رباحة

أسرع من بروق العينة في شباحه

قبل أن يلحقه والده بالخلاوي كان يغذيه دائماً بعقيدته الأنصارية حتى أورثها له، وهذه حقيقة استطعنا ان ندركها بسهولة من خلال أشعاره، فقد الفيناه يقول:

رحم الله والدي البي الرشاد جلاّني

مسّكني الطريق الحق وفات خلاّني

يومو المات وصية سمحة بيها ملاني

راتب المهدي سوّي في جيبك الجوّاني

وصارت عقيدة عكير عهداً وميثاقاً ومحبة، وهذا واضح في شعره الكثير الذي خص به الإمامين عبد الرحمن المهدي وابنه الصديق، غير اني لم أجد في شعرنا القومي قاطبة مربعاً يطلب الكمال الشعري ويضج بعهود ومواثيق غليظة يستحيل نقضها كقوله وهو يخاطب السيد عبد الرحمن المهدي ويعاهده:

عهدنا معاك كنداب حربة ما بتشلّخ

عقدة عين جبل ملوية ما بتفلّخ

كان ايدينا من القبضة فيك تتملّخ

السما ينتكي وجلد النمل يتسلّخ

بدأ عكير الدامر يرتاد مدارس التعليم المدني بمدرسة الدامر الابتدائية، وانتهى خريجاً في كلية غردون التذكارية، وهو يستوي شاباً وسيماً طيب النفس معتداً بها وبلغته الإنجليزية الراقية، وبدت على سيمائه مخائل الفروسية التي عبر عنها بشارب ينتهي على جنبات وجهه معقوفاً الى أعلى كمنقاري صقر، وبأشعار فتوة وحماسة، فعندما قال عكير عن نفسه:

قالوا الدود قرقر حبس الدرب

سار الشعراء على هديه الحماسي، وأضافوا أقوالاً على قوله، وصارت القصيدة كقوس قزح متعددة الألوان، غير ان عكير يلون القصيد بلون فاقع، وبفخامة شعرية فريدة، وبفتوة طاغية. يقول:

يا فحل بقر الجواميس المراقدو اللخ

من قومة الجهل ما بخوفوك بي أخ

بتدخل الوكرة ام لباساً جخ

قرنك يفتح الهامة وبمرق المخ

ذاع أمر القصيدة ليلقطها الثنائي الخالد ميرغني المامون وأحمد حسن جمعة، وصارت معلماً من معالم غناء الحماسة السوداني.. ولم يترك الثنائي شاعرنا عكيراً فأخذا منه كثيرا من الشعر الحماسي بعد ذلك.

عندما بلغ عكير اول الصبا استمر في ذات اقباله على الدنيا بحب وانفعال، وهي ذات الدنيا التي قال عنه عندما عركته وعركها وأصبح كلاهما في تراشق وطعان قصيدة تربو على الأربعة عشر مربعاً، فبدت لنا الدنيا كشمس مظلمة، وكسمكة ميتة تتلألأ تحت ضوء القمة، ومنها نجتزئ المربعات التالية:

درقة الرغوة كم دمّرتِ ناس ومساكن

كم ذليتي بعد العزة شامخ وماكن

كم صبحتِ قلباً حي متلج وراكن

وكم صبحتِ عمران زي مباني سواكن

****

خيرك ما بدوم يا البهرج الغشاشة

يا مطر المنية الديمة سابقة رشاشه

كم قصراً جميل انوارو تضوي بشاشة

دمرتيهو أصبح فاقد المقشاشة

****

سرورك ما بتم تابعاهو ديمة الفجعة

ظاهرك لينا شكر الا طعمك وجعة

كم طفشت مرتاح قلبو مابي النجعة

روحو تشابي وإنت قطعت خط الرجعة

****

شمس حسنك مخنقة ما بدوم اشراقه

يا لعبة شليل عضم اب قبيح براقة

كم لي الليهو منزل في جنان وراقة

خنت اسيادو هجّوا ولجّوا يا الغراقة

احتفظ عكير بنجوميته الشعبية رغم وظيفته المرموقة كمترجم للبعثة العسكرية، وتقلبه في وظائف عديدة، كان آخرها باشكاتب القيادة الشمالية بشندي، وأخيراً قاضيا بمحكمة الدامر الشعبية، اذ انه كان بدوي الطبع رغم انه كان حضرياً في علمه وثقافته، يسعده الجلوس على الأرض وارتياد مجالس القهوة والسمر على ضوء القمر والهواء الطلق، غير انه كان انيقاً في ملبسه ومسكنه ومركبه، وهذا انعكاس لروحه الجميلة الشاعرة.

 

آراء