علاقات السودان الخارجية المأزومة

 


 

 


​جاء فى آخر أنباء الخرطوم أن الرئيس عمر البشير وجّه دعوة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لزيارة السودان؛ وإذا قرأت ما بين السطور فإنك سرعان ما سوف تكتشف أن نظام الخرطوم يتطلع لما وراء هذه الزيارة، وهو بالتحديد دعوة البشير لرد الزيارة إلى موسكو، وتلك مناسبة للسفر خارج الحدود حتف أنف محكمة الجنايات الدولية، وبلوغ حاضرة أوروبية ذات شأن وشوكة، خاصة وأن الطيران إليها يخترق أجواءً سليمة فوق دول صديقة وأخرى ذات مصلحة، إذ غالباً ما سوف تتسلل طائرة الرئيس البشير عبر ممر يحلق بها عبر السماء المصرية، ثم البحر المتوسط فتركيا فروسيا. وهكذا يستطيع الرئيس السوداني أن ينعم بالأمان المؤقت وعدم العزلة وبأنه شخص طبيعي مثل سائر البشر غير المطلوبين للعدالة.

​وقراءة أخرى بين السطور ترتاد بك آفاق العلاقات التى يحرص نظام الإخوان المسلمين السوداني على ترسيخها مع مخلفات الشيوعية متمثلة فى روسيا والصين وأوكرانيا؛ إذ تشكل هذه الدول – بالإضافة لإيران –المصدر الأساس للأسلحة والذخيرة والآليات العسكرية وقطع غيارها بالنسبة لحكومة البشير منذ استيلاء الإخوان المسلمين على السلطة فى يونيو 1989. وكذلك يعود الفضل للفيتو الروسي والصيني ضد كثير من العقوبات التى حاول مجلس الأمن إصدارها فى حق الحكومة السودانية بسبب ممارساتها القمعية الفظة المستمرة وجرائمها ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التى ظلت ترتكبها بمناطق العمليات فى جنوب السودان ولاحقاً بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق. أضف إلى ذلك أن الصين هي التى استخرجت النفط السوداني وشيدت المصافي والأنابيب، فى مقابل احتكاره أمس واليوم وغداً، بمعنى أنها قد اشترت من السودان ( عن طريق آلية بيع السَلَم، بفتح السين وتشديدها وفتح اللام، أي "تحت الحضور") كل ما ينتجه من النفط لسنوات عديدة قادمة، ليس نقداً بالدولار، إنما على طريقة التجارة البكماء، فى مقابل الطائرات والسفن الحربية وغيرها من الأجهزة والعتاد، بالإضافة للأفيال البيضاء البرجوازية التفاخرية مثل القصر الجمهوري الجديد واليخت الرئاسي. ولا تنسي ما ظلت الصين تقوم به من إغراق للأسواق السودانية بالمنتوجات الصينية قليلة الجودة ومحدودة الصلاحية وذات التأثير السلبي على المنتجين وصغار التجار المحليين. (راجع ورقتي بعنوان "دبيب النمل الصيني في إفريقيا" فى الصحف السودانية الإسفيرية بتاريخ 3/9/2015).

​وتركض حكومة الإخوان المسلمين نحو روسيا، واستقطبت مستثمريها خاصة فى مجالات التعدين "المعطوبة" وفق صفقات مشبوهة وترتيبات تفوح منها روائح الفساد والنوايا السياسية المستبطنة، خاصة بعد أن اكتسبت روسيا سمعة جديدة في سوريا – ألا وهي نصرة الطواغيت الذين يفتكون بشعوبهم مهما علا الصوت المعارض من قبل الأسرة الدولية، وقد وصلت النصرة لدرجة الاشتراك الفعلي في عمليات الحرب الأهلية الداخلية جواً وبراً وبحراً. وإذا أمعنت النظر في خريطة الشرق الأوسط الجديدة فإنك سوف تلمح حلفاً يتشكل بقيادة روسيا ومعها إيران وسوريا نفسها ( لو نجحت في الإبقاء على الأسد بعد إطفاء النيران الحالية)، مع تأييد مستتر وخجول حتى الآن من قبل مصر والسودان، كما تشير العديد من الدلائل والمؤشرات؛ فإيران وروسيا تدعمان نظام بشار الأسد بكل ما لديهما من قوة وجبروت، ولم تتخذ مصر موقفاً واضحاً إزاء ما يجري في سوريا، (ويبدو أنها مشغولة بأجندتها الأمنية الخاصة، مثل مشكلة الإرهاب الإخواني المدعوم بقناة الجزيرة، والتحدي المسمى "سد النهضة الإثيوبي"، وقضية المحافظة على مثلث حلايب المنتزع من السودان عام 1995؛ ومن غير المتوقع أن يتعاون الغرب مع مصر فيما بعد انتفاضة 30 يونيو الشعبية التى أعادت للغرب أشباح ثورة 23 يوليو التقدمية، ولا مفر من إعادة العلاقات التسليحية مع روسيا التى بدأت عام 1955 عندما قام جمال عبد الناصر بكسر احتكار الغرب لتزويد مصر بالسلاح، وأقام تحافاً مع الإتحاد السوفيتي استمر إلى ما بعد نكسة يونيو 1967، وتحديداً حتى قام أنور السادات بطرد الخبراء العسكريين الروس فى الثامن من يوليو 1972، ووضع حداً لذلك الحلف الإستراتيجي مع الاتحاد السوفيتي.)

​وعلى كل حال، ذلك مشروع حلف يمكن أن يتجمع فعلياً على أرض الواقع إذا ادلهمت الخطوب ودقت طبول الحرب الكونية الثالثة، وبالطبع ستنضم إليه دول نووية أخرى ذات أجندة مشابهة، وهي تحديداً الصين وكوريا الشمالية. وإلى أن يتبلور الشكل النهائي لهذا المحور الشرير، فإنه يعمل فى إطار التعاون السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري الذى يمليه الظرف المعين، وفق مصالح وأطماع هذه الدول؛ فهي تتعاون الآن وتتناغم مواقفها، على سبيل المثال، في مجلس الأمن إزاء العديد من القضايا، مثل الأزمة السورية، حيث ظلت روسيا والصين تقفان ضد أي حل يستوجب رحيل الأسد، شأنهما شأن إيران. وتتوافق روسيا والصين فى موقفهما الداعم للنظام الدكتاتوري السوداني، حيث يلتقيان هناك مع إيران التى أقامت حلفاً استراتيجياً مع نظام الإخوان المسلمين السوداني منذ أول أيامه في السلطة قبل ربع قرن. ولا يغرنك ياهذا أن البشير قد وعد بالانسحاب من حلفه مع إيران عربوناً لصداقته الجديدة مع السعودية ودول الخليج العربي؛ إنها مجرد مضمضة كلامية lip service إذ أن ارتباطه بإيران زواج كاثوليكي يصعب الفكاك منه. (إن الدخول في الشبكات هين، ولكن التأمل في الخروج.)

​وهنالك بالطبع قواسم مشتركة عظمى بين الدول التى يتألف منها المحور الجديد – روسيا وإيران (وتابعيهما سوريا والسودان)، بالإضافة للصين وكوريا الشمالية:-
• فجميعها تقف على النقيض من الديمقراطية اللبرالية (نموذج وستمنستر الذى ترسخ فى الهند منذ 1947، ولاحقاً فى دول عديدة مثل جنوب إفريقيا وإندونيسيا والبرازيل وتونس وبوركينا فاسو)؛ كما تقف على النقيض من الغرب فى جميع الأصعدة السياسية والإقتصادية والاجتماعية، على الرغم من المواقف البرجماتية التى كثيراً ما تدعوها للتعامل مع الغرب، خاصة فى مجال التجارة ونقل التكنولوجيا.
• ومعظم هذه الدول ورثت نظامها السياسي الراهن من أنظمة آحادية و شمولية، خاصة روسيا والصين، (والأخيرة لم يكتمل تحررها من النظام الإيديولوجي المهيمن منذ نجاح الثورة الماوية الاشتراكية عام 1949)، ولم تترك إدارة الدولة للاقتصادوطغيان الأجهزة الأمنية، وفلسفتها الإقتصادية لازالت في إطار سيادة القطاع العام بقدر الإمكان، وإذا تم فكّ الارتباط مع جهاز الدولة في أي مؤسسة فإنها لا تملك إلا أن تسقط في أيدى ضباط الكي جي بي السابقين الذين أصبحوا من أغنى أغنياء الدنيا بين عشية وضحاها، مثل خضروفسكي، وذلك الملياردير الجهبذ الذي امتلك فريق تشلسي اللندني، وعلى رأس هؤلاء فلاديمير بوتين نفسه الذى ورث الاتحاد السوفيتي برمته.
• وتشترك كل هذه الدول، بما في ذلك السودان، في الطغيان والميول العدوانية المتأصّلة: (أنظر لروسيا ومواقفها من الجمهوريات التي خرجت من الإتحاد السوفيتي؛ وإلى الصين وموقفها من شعب التبت ومسلمي غرب الصين وهنق كنقوتيوان؛ وانظر إلى السودان وما يفعله بالأقوام الإفريقية المسلمة المقيمة بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، وما يفعله بشار الأسد بالمسلمين السنة في سوريا).
• وتستبطن مصر قدراً من هذه الميول العدوانية على الرغم من أنها قد أصبحت دولة (ديمقراطية)، حسب منطق الهبّة  الشعبية في 30 يونيو 2013 التي قضت على الإخوان المسلمين؛ إذ يتحدث الإعلام كثيراً هذه الأيام عن سد النهضة الإأثيوبي وضرورة إزالته من الوجود (كما فعلت إسرائيل مع المفاعل النووي العراقي الصدّامي في 7 يونيو 1981). وهنالك إشارات إلى أن جميع ألوان الطيف المصري تتفق حول هذا الموقف المتنمر تجاه دول أعلى النيل، خاصة إثيوبيا؛ فقد جاء في المقابلة التي أجراها السيد الصادق المهدي بصحيفة الوطن القطرية (الأربعاء 23 ديسمبر 2015) أنه كان قد نقل رسالة ودية غير رسمية من الرئيس الإثيوبي ميليس زيناوي إلى الرئيس حسني مبارك عام 1997، عندما كان معارضاً لنظام البشير ومقيماً بالخارج كجزء من التجمع الوطني الديمقراطي، فحواها أن إثيوبيا متضررة من تقسيم مياه النيل الذي تمّ بموجب إتفاقية 1959 بين السودان ومصر التي لم تضع بلاده في الحسبان، ولو استمر هذا التجاهل فإن إثيوبيا ستضطر للتصرف بشكل إنفرادي؛ فقال له حسني مبارك: "من يمد يده للنيل سنقطعها"، وفي ذلك بالطبع تهديد لا مضغ للكلمات فيه لكل من إثيوبيا والسودان ممثلاً في الصادق المهدي الذي كان رئيساً للوزراء قبل ذلك ببضع سنوات.

       والإشارة الأخرى كنت شاهداً عليها عندما كنت مترجماً بوازرة الخارجية الإماراتية عام 2013، إذ زارها في نوفمبر من ذلك العام أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصرية الأسبق ليقدم محاضرة عن حرب أكتوبر 1973، ولكنه فجأة غادر الموضوع الرئيس digressed وخاطب الحضور بقاعة المحاضرات بديوان الوزارة من تنفيذيين ودبلوماسيين وموظفين قائلاً:-

(على فكرة، لما كنت وزير خارجية مصر أيام الرئيس مبارك بعثت برسالة رسمية لسمو السيد وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة طالباً عدم تقديم أي دعم أو عون للسودان أو لأي دولة تقع على النيل جنوب مصر تنوي أن تشيد مشروعاً يعتمد على مياه النيل، سواء كان لتوليد الكهرباء أو للزراعة؛ وقد بعثت برسالة مشابهة لكل من المملكة العربية السعودية وقطر والكويت.)

​   ولم يتوقف الأمر هنا، أمر التحريض والتحفز ودق طبول الحرب، إنما حدث شيء آخر مدهش في فترة النقاش عندما أخذ أبو الغيط يرد على استفسارات ومداخلات الحضور، فقد سأله شاب مصري يعمل موظفاً إدارياً قائلاً: (هل هنالك نية لضرب سد النهضة الإثيوبي بالطائرات الحربية المصرية؟)، ورد أحمد أبو الغيط قالاً بلا تردد:(إن الأمر يتوقف على تعاون السودان، إذ أن طائراتنا لا تستطيع أن تقطع المسافة من الحدود المصرية إلى إثيوبيا بدون تزويد بالوقود في الجو أثناء الطيران، وهذه خدمة غير متوفرة لدى سلاح الجو المصري.) والجدير بالذكر أن ذلك قد حدث بعد ستة أشهر من استقرار الرئيس السيسي في الحكم على إثر انتفاضة 30 حزيران 2013 التى أطاحت بحكومة الدكتور مرسي العياط؛ ولا بد أن أبو الغيط كان مستصحباً الموقف الحكومي المصري من مسألة السد الإثيوبي وغيره مما يمس العلاقات المصرية بجيرانها من الدول المشاطئة للنيل.

​عموماً، إن الطيور على أشكالها تقع، وبهذا المنطق يسعى النظام السوداني لتمتين علاقاته بالدول ذات الوازع الأخلاقي المنخفض فيما يختص بحقوق الإنسان، وذات المواقف الدبلوماسية النشاذ والانتهازية والتي لا تتقيّد إلا بالمصالح الذاتية، وليذهب السلام العالمي وإعلان حقوق الإنسان إلى الجحيم. ومن هذا المنطلق، ارتبطت حكومة الإخوان المسلمين السودانية بالنظام الروسي والصيني والإيراني.

​أما فيما يتعلق بالعلاقة مع الجار الجنب مصر فقد مرّت بعدة مراحل في السنوات الأخيرة:
- ارتعدت فرائص النظام أيام الربيع العربي الذي اجتاح تونس ومن بعدها مصر في مطلع عام 2011، وكنت شخصياً من الذين كتبوا بالصحف الإسفيرية مرشحاً السودان كالدولة التالية فى مسار تسونامي الربيع العربي. ولقد لاذ الإعلام السوداني بصمت القبور إزاء ما كان يدور في تونس ثم مصر ومن بعدهما اليمن من زلازل كانت مرشحة للتأثير على الوطن العربي برمته ولهزّ ميزان القوى بالشرق الأوسط، وربما قلبه رأساً على عقب. ولكن سرعان ما تسلل الإخوان المسلمون لصدارة الثورات الثلاث، بتونس ومصر واليمن، وجاءت الإنتخابات في مصر وتونس بنصر واضح لتنظيمات الإخوان المسلمين. وعند ذاك تنفس نظام البشير الصعداء، وأخذت وفوده تتقاطر على مصر المحروسة للمزيد من الاستزادة من تآمر ومكر الإخوان المسلمين المصريين.وجاء الرئيس محمد مرسي للخرطوم زائراً إمبراطورياً ليس له شبيه إلا محمد علي باشا الذي زار السودان بعد بضع سنوات من غزوه عام 1822؛ وبدا واضحاً أن العلاقة بين النظامين المصري والسوداني تمر بأسعد لحظاتها، وأخذا يخططان للتكامل الإقتصادي والسياسي الشامل، وبأسرع فرصة ممكنة.
- وجاءت المرحلة الثانية في أعقاب انتفاضة 30 يونيو 2013 التي وضعت حداً لحكم الإخوان المسلمين وأودعت معظم كوادرهم سجن لومان طرة ومعتقلات الصحراء الغربية. وقعت هذه الأنباء وقع الصاعقة على الإخوان المسلمين السودانيين ورجّتهم رجّاً وأصبح أمرهم فرطاً؛ وتراوحت مواقفهم بين الصمت المريب والتجاهل كأن شيئاً لم يحدث في مصر، وبعض التظاهرات الضئيلة للمتشددين من منسوبيهم الذين نظموا موكباً واحداً توجه للسفارة المصرية بالخرطوم، وبعض خطب الجمعة التي رددت صدى الخط المعادي لثلاثين يونيو الذي تبنته قناة الجزيرة. وفجأة قام الرئيس الجديد الفريق السيسي بزيارة للخرطوم، ويبدو أن الموقف الرسمي لحكومة البشير أصبح مؤيداً للوضع الجديد في مصر، وتمت العديد من الزيارات الرسمية للقاهرة، وعادت المياه إلى مجاريها. بيد أن الرئيس البشير وأعوانه تظاهروا تقيةً بالوقوف مع النظام المصري، في الوقت الذي كانوا يصوبون العديد من الضربات الخاطفة تحت الحزام للجارة مصر؛ إذ فجأة أعلن البشير في إحدى خطبه النارية تأييده التام لإثيوبيا فيما يختص بسد النهضة، بلا أي تحفظات من النوع التي أثارها الدكتور كمال علي وزير الري السوداني السابق (الذي تربطه صلة مصاهرة بالرئيس البشير.) كما أثارت الخرطوم فجأة كذلك موضوع حلايب بعد صمت دام عشرين سنة بالتمام والكمال، ولم يكن ذلك إلا دعوة حق أريد بها باطل، وهو بالتحديد التشويش على حكومة السيسي وإرباكها لمصلحة الإخوان المسلمين الذين ما انفكوا يتآمرون للعودة للسلطة، بالإرهاب والتفجيرات وقتل الأبرياء والمدنيين في سيناء ومحاربة الإقتصاد بإشاعة الأجواء الطاردة للسواح والمنفرة للمستثمرين.. إلخ.
- المرحلة الراهنة التي تمر بها العلاقات مع مصر دشنتها قفزة في الظلام أقدم عليها نظام البشير، وهي الإعلان المفاجئ الخاص بالإنضمام للمحور الذي يضم العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر الذي شرع في حزمة أنشطة دبلوماسية وعسكرية تهدف لدحر الإنقلاب الحوثي الصالحي، ولإستعادة الشرعية بذلك البلد المستغيث. وفي هذا الخضم، أعلن السودان ( تقية) قطع علاقاته المشبوهة بإيران، وتبرع بقوات برية وصلت بالفعل إلى اليمن وتموضعت إلى جانب الجيش اليمني الشرعي والقوات المناوئة للحوثيين وفلول المخلوع ع ع صالح. وبينما يشير هذا الموقف لقيطعة واضحة مع فكر وتنظيم الإخوان المسلمين، وإلى محاولة صريحة للتماهي مع النظام المصري الذي أصبح نظام البشير يقف معه في نفس الحندق، إلا أن الشكوك والريب العميقة ما زالت تتحكم في العلاقة بين النظامين، كما بيّنت الأحداث الأخيرة بمصر حيث تم الإعتداء على عشرات السواح السودانيين من قبل القوات النظامية متهمة إياهم بالتلاعب بأسواق العملة الصعبة بهدف زعزعة الإقتصاد المصري.

   هل فعلاً تخلى نظام البشير عن التزاماته الإخوانية وعن حلفه مع إيران وعن ارتباطه بتنظيم الإخوان المسلمين العالمي؟ هل تحول نظام الخرطوم إلى شيء كالنظام المصري، يسعى لإرساء قواعد الديمقراطية اللبرالية وللإحتكام لدستور مدني ديمقراطي علماني؟

  لا وألف كلا؛ فما زالت الكوادر الإخوانية العتيقة التي كانت ممسكة بمفاصل الدولة منذ ربع قرن، مازالت آمرة وناهية بأروقة حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ويتم تلميعها على الدوام للعودة مجدداً للحقائب الأساسية بالحكومة: علي عثمان محمد طه ونافع علي نافع وعوض الجاز ومهدي إبراهيم ومصطفى عثمان اسماعيل وقطبي المهدي... إلخ. وبينما يدعو النظام أصدقاءه للحوار الوطني، لا تشمل دعوته القوى المعارضة الحقيقية فى التحالف والجبهة الثورية والمناضلين بالمنافي والحركة النقابية الشرعية الموجودة بالظل؛ بل تذهب دعوات النظام ومحاولات الاستقطاب للعناصر الهشة والمتعهرات والمرتشين بغرض زرع الفتنة في صفوف المعارضة والفت في عضدها، كما ظل النظام يفعل طوال فترة حكمه الربع قرنية.

وعموماً، لا تهتدي السياسة الخارجية لنظام البشير بفلسفة محددة متماسكة وثابتة ولها رأس وقعر طوال ربع القرن المنصرم، ولكنها قشة في مهب الرياح، تشرّق وتغرّب عشوائياً حسبما تملي الضرورات الماثلة، أياً كانت، ولا يحركها سوى البحث عن سبل تدعم بقاء النظام في السلطة إلى أبد الآبدين، مهما كان الثمن التي تدفعه البلاد.

بدأ النظام في أول أيامه باللهث وراء الغرب (على الرغم من خطابه المتشنج آنئذ: "أمريكا قد دنا عذابها"). وبالفعل شهدت العشر سنين الأولى من عمر النظام تقارباً مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية، كان من دلالاته محاولة تسليم أسامة بن لادن للحكومة الأمريكية التي رفضت العرض وشكرتهم عليه، فتوجه إبن لادن ورهطه إلى تورا بورا بأفغانستان.

وبعد غزو العراق أيام جورج بوش الإبن وإعلان حربه على الدول الداعمة للإرهاب، تملّك الرعب نظام البشير، وشرع مدير أمن الدولة في رحلات مكوكية إلى رئاسة السي آي إي بواشنطن دى سي، وقام بتسليم الأمريكان كل ما لديه من ملفات وبيانات خاصة بالتنظيمات الأصولية ذات العلاقة، كما قام بترحيل العديد من الكوادر الإخوانية العربية والآسيوية التي لجأت للسودان هاربة من جحيم أفغانستان. وفي ذلك السياق، تم تسليم الإرهابي كارلوس ذي جاكال للحكومة الفرنسية، كما تمت السمسرة والتآمر مع المخابرات الكينية لاعتقال المناضل الزعيم الكردي أوجلان وتسليمه للاجهزة الأمنية التركية.

ولكن شيء من ذلك لم يشفع لحكومة السودان إزاء ما ارتكبته من فظائع في جنوب دارفور بدءاً من عام 2003، إذ زارت وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس معسكرات اللاجئين الدارفوريين بالحدود الغربية للسودان وفي تشاد عام 2005، وجاء فى معيتها الإعلام الأمريكي ومنظمات حقوق الإنسان والجمعيات الخيرية التي تعاطفت مع جماهير دارفور المسحوقة، وكان من نتيجة تلك الحملة العقوبات الإقتصادية التي فرضت على السودان والتي لا زالت سارية المفعول حتى اليوم؛ كما نتج عن ذلك تحويل ملف السودان لمحكمة الجنايات الدولية التي أصدرت أمراً باعتقال الرئيس البشير بتهمة الجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية وجرائم الحرب، كما صدرت أوامر مماثلة ضد بعض متنفذي حكومة السودان وقادة الجنجويد، المليشيا شبه العربية المدعومة من نظام الخرطوم والتي نفذت العديد من جرائم الإبادة الجماعية بجنوب دارفور، مع ما صاحبها من عمليات اغتصاب جماعي وتقتيل للأطفال.

هذه هي آ خر صورة ترسخت لدي الغرب عن النظام السوداني، ومن جراء ذلك اتجه النظام صوب جهات بديلة كالصين وروسيا، ناسياً أن عصر القطبين قد انتهى بنهاية الحرب الباردة قبل ربع قرن، وأنه قد احتمى بسحابة صيف عما قريب تنقشع (او كمن احتمى براكوبة قش في الخريف). وفي هذه الأثناء، تضررت مصالح السودان كثيراً وحاق الدمار بكل مفاصل الاقتصاد، وعانى أهل السودان من العنت والعوز، لاسيما في الأطراف الملتهبة، سواء في بؤر الصراع بدارفور وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، أو في كافة المناطق الهامشية الأخرى بشمال وشرق ووسط السودان.

لاسبيل والحالة هذه إلا أن يذهب نظام الإخوان المسلمين إلى مزبلة التاريخ فوراً، حتى يستعيد السودان علاقاته المعافاة مع باقي العالم وفق مبادئ الحياد الإيجابي ونصرة الشرعية الدولية والسلام العالمي والاحترام الكامل لحقوق الإنسان، ووفق مفهوم الندية مع كل القوى كبيرها وصغيرها، ووفق مصالح السودان المتبادلة مع كافة دول العالم.

والسلام.


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء