علاقة جبال النوبة بالمركز .. وأسباب التحاقها بحركة التمرد .. وفي ظل تداعيات السلام

 


 

 

 

بقلم / آدم جمال أحمد – أستراليا

 

   الحديث عن جبال النوبة يجب أن يثير لذهن القارئ والمستمع , حديثنا عن المنطقة التي تمثل جنوب كردفان .. وتشمل ولاية جنوب كردفان زائداً محافظة لقاوة التابعة لولاية غرب كردفان .. أي أن منطقة جبال النوبة تضم ست محافظات هي تلودي ، أبوجبيهة ، رشاد ، كادقلي ، الدلنج ولقاوة . هذا الامتداد الجغرافي المتسع يمكن إعتباره نموذجاً جيداً للتعدد الثقافي والعرقي والاجتماعي في السودان .. مما جعلها تعيش أعظم فترة سلام أمني واجتماعي ولحقب طويلة.

 

 التحق لفظ الجبال باسمها لكثرة الجبال التي تلتف بها .. فهي تضم مجموعة كبيرة  من السلاسل الجبلية , أما أسم النوبة فمرده للقبائل النوبية التي سكنت تلك المنطقة واستطاعت أن تروض هذه الجبال الوعرة وتجعلها مكاناً للسكن والمرعي ، وخلقت المعابر والطرق .. وجبال النوبة منطقة للتعايش الديني بين الإسلام والمسيحية والوثنية رغم أن معظم سكان المنطقة من المسلمين ، ولكن رغم ذلك الحكومة وصفت المعارضين لها من أبناء النوبة بالكفار ومارست ضدهم أبشع الجرائم والانتهاكات لحقوقهم الإنسانية.

 

  توجد في منطقة جبال النوبة مشكلة حقيقية تتمثل في عدم التواصل بين المركز والإقليم .. فحكومات المركز تتعامل مع ساكني جبال النوبة بواحد من مفهومين .. إما أن يقف مسانداً للحكومة .. أو ضدها فيتم التعامل معه كطابور خامس ، وهذا ما أحدثته أخطاء الإدارات التنفيذية  والأمنية في بداية حكومة الجبهة الإسلامية ، مما أدت إلي فقدان الثقة بين إنسان جبال النوبة والحكومة.

 

 ومن أكبر المشاكل التي زادت  فقدان الثقة بين المركز وإنسان جبال النوبة انه لا يجد الإحساس بمشاكله من قبل المسئوليين الذين يتم تعينهم من المركز باعتبارهم من خارج المنطقة ، وهذا ليس من باب العنصرية أو الجهوية ..؟! . لكن حديثي هذا أقوله مستنداً علي الفترة التي قضاها المرحوم محمود حسيب في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري ، التي ما زال الناس يتحدثون عنها لما قدمته من خدمات جليلة ، وهو أحد أبناء المنطقة الذين يحسون بمعاناة إنسانها .. فأستطاع أن ينجز الطريق الوحيد بين الأبيض وكادقلي ، هذا بجانب خطابه المباشر لإنسان جبال النوبة ، فأستطاع حسيب أن يقنع مواطن جبال النوبة بأهمية اللبس كإنسان . وهذا ما تفتقده الحكومات التي تعاقبت علي جبال النوبة بعد رحيل حسيب .. فأصبحت العلاقة بين المركز ومنطقة جبال النوبة يعتريها الضعف ، وأسباب ذلك عديدة .. تتمثل في تخلف البنية التحتية للمنطقة من طرق واتصالات .. فالاستعمار ساهم في ذلك بإتباعه سياسة المناطق المقفولة ، لكن الحكومات الوطنية أسهمت بصورة أكبر في تخلف المنطقة التي تعاني النقص الكامل في الخدمات الصحية والتعليمية والمياه .. فهل يصدق شخص أن ولاية مثل جبال النوبة ( جنوب كردفان ) لا يوجد بها مستشفي تخصصي.

 

 ولقد ساهم ( التكنقراط ) القائمون بإدارة المنطقة إلي اليوم في تخلفها !! لأنهم ينظرون لتنمية المنطقة بالفهم الاقتصادي وفقاً لمصلحة المركز ضاربين بمصلحة أهل المنطقة عرض الحائط .. الاقتصادية .. والاجتماعية .. لذلك أصبح هامش التخلف يزداد إتساعاً بين المركز والإقليم ، وهذا هو السبب الحقيقي لتدهور العلاقة بين المركز والإقليم . بالرغم من ذلك لقد ظل مواطني جبال النوبة يعيشون في سلام وأمن اجتماعي ولا توجد جهة تدعي السيطرة علي الجبال فالكل يعيشون جنباً إلي جنب .. لكن البعد الحالي لمشكلة جبال النوبة جاءت بعد إنتقال حركة التمرد لمنطقة جبال النوبة عام 1986 ، فلقد كانت في الماضي المشاكل تحل بالجودية ( عرف متعارف في الصلح بين الأطراف المختلفة ) .. لذلك ظلت قضية المنطقة منحصرة في صيحات أبنائها الذين شكلوا عدداً من الكيانات السياسية الإقليمية التي تعبر عن رفضهم لواقع المنطقة وتخلفها في ركب التقدم .. فظلت منحصرة في التخلف والظلم الاجتماعي إلي أن تطور الأمر بانضمام مجموعة من أبناء النوبة إلي الحركة الشعبية في عام 1984 والذي جاء نتيجة لجهود مضنية وعمل سري منظم مما أعطي القضية بعداً جديداً تمثلت في أبعادها السياسية والعرقية مما أدي إلي تفتح عيون أبناء النوبة والالتفات لقضيتهم .. بدلاً من مشكلة خدمات وبنيات أساسية .. فكانت رحلة التحاق أبناء النوبة بالحركة الشعبية لتحرير السودان وإنضمام أبناء النوبة للحركة الشعبية لها أسباب عديدة هي :

 

1-    الظلم الاجتماعي :  فعلي مستوي المركز تبدأ بسياسة المناطق المقفولة التي أنتهجها الاستعمار لمنطقة جبال النوبة وذلك بسن قوانين يحرم فيها دخول المنطقة إلا بإذن من السلطات الاستعمارية في ذلك الوقت ، فأدت للعزلة وخلق الفوارق بين الجماعات النوبية والعربية بإنشاء مدارس للنوبة وأخري للعرب وكذلك داخل قوة دفاع السودان هناك وحدات خاصة بالنوبة .. أدي كل ذلك إلي الظلم الاجتماعي . كما أن تهميش المنطقة وعدم نيلها حظها في التعليم والتنمية بصورة متوازنة منذ عهد الاستعمار ومروراً بكل الحكومات الوطنية المتعاقبة أدي إلي تخلفها مما دفع معظم أبناء النوبة إلي الهجرة إلي المناطق الشمالية ليمارسوا المهن الهامشية .. فالجيل الذي تعلم في الشمال وما زال مرتبطاً بأهله في جبال النوبة والذي اصطدم بالواقع المرير للمنطقة وتهميشها كان سبباً في انضمام عدد كبير منهم لحركة جون قرنق عندما ظهرت علي مسرح الأحداث رافعاً دعوته ( تحرير السودان ) لأنهم كانوا يعتقدون أن إخوانهم في الشمال هم سبب تعاستهم .

 

2-  سياسات المركز والحكومات الوطنية :  لم تحاول الحكومات الوطنية العمل علي محو الآثار السياسية الاستعمارية لكسر الحاجز النفسي بوضع مناهج للتربية الوطنية وتوزيع الخدمات الضرورية للمواطن بصورة عادلة تحفظ له حقوقه في التنمية وتوزيع السلطة حتى يتحقق للنوبة المشاركة في السلطة وفي الثروات القومية والخدمات الأخرى مما ولد لدي أبناء النوبة الإحساس بالغبن . ونتيجة لتراكم عوامل التخلف والتهميش المقصود وغير المقصود ، فقد كان هناك شعوراً قوي وسط النوبة بالظلم السياسي والاجتماعي وقد تعزز هذا الشعور عند المتعلمين فكانت الاستجابة للشعارات التي رفعتها الحركة الشعبية بإنصاف الأقاليم المظلومة والتخلص من هيمنة العناصر المتسلطة وجاء ذلك بالانضمام الفعلي والعملي للحركة الشعبية بدخول أبرز قادة تنظيم النوبة إلي الغابة ( حزب العمل ) علي رأسهم المرحوم يوسف كوة مكي ثم دانيال كودي وآخرون .

 

وكذلك اتخذ اليسار السوداني ( الشيوعيون ) إستراتيجية تقوم علي جعل العناصر الأفريقية سلاحاً يستخدمه في مواجهة الزحف الإسلامي فكان تركيزه علي منطقة جبال النوبة بأساليب وتكتيكات متعددة كان من ضمنها انضمام عدد من كوادر اليسار من أبناء المنطقة إلي الحركة الشعبية.

 

كما لعبت الحكومة الديمقراطية الثالثة دوراً أساسياً في تهميش المنطقة وإبعاد المناويين لها بشتى الطرق والأساليب ، فكانت سبباً من أسباب الفرقة والشتات وذلك لضيق أفق الحكومة الحزبية في ذلك الوقت مما أدي إلي تثبيت أقدام التمرد في جبال النوبة ، فقد قام فضل الله برمة ناصر بتسليح القبائل العربية وسعي إلي إقامة ما سمي ( بالحزام العربي ) ونتج عن ذلك انضمام أعداد كبيرة من النوبة إلي الحركة الشعبية بغرض الحصول علي السلاح لرفع الظلم الذي وقع عليهم من القبائل التي حظيت بالسلاح وقامت بتصفية حساباتها مع خصومها من النوبة أو التحرش بهم بحجة أنها سياسات في إطار مقاومة التمرد ؟!! ..

 

إلا إن الشعارات التي رفعت من قبل الحكومة الحزبية والكيفية التي عولجت بها المشكلة أدي إلي تأجيج هذا الصراع فكان مدخلاً خاطئاً .. لأنه كان مدخلاً أمنياً بحتاً ولم يكن لديها أي تصور لحل المشكلة علي أساس سياسي مما زاد الوضع توتراً وبرز ذلك في عدم تحري الدقة في التمييز بين التمرد الحقيقي والصراع القبلي مع التعسف في استخدام القوة ضد بعض العناصر وأحياناً لبلاغات كيدية من بعض الأفراد ، مما أدي بكثير من المواطنين أن يتصور بأن الحكومة وأجهزتها الأمنية منحازة بالفعل إلي العناصر العربية في حربها ضد العناصر الزنجية.

 

3-    غياب التعليم والجانب الإعلامي :  هناك غياب تام في الجانب الإعلامي لأجهزة المركز ( المسموعة والمقروءة والمرئية ) عن منطقة جبال النوبة وغياب في التنوير من المسئوليين فأصبح المواطنين لا يعلمون بما يدور ويجري داخل السودان وخارجه . وكذلك نسبة لتدهور التعليم وازدياد الفاقد التربوي أستعطف التمرد أبناء النوبة بدعوى التعليم إلا أنهم تم تدريبهم وصاروا وقوداً للحرب كما هم أيضاً وقوداً لحرب الحكومة .. وهنا لابد من التأكيد علي أن غياب التعليم جعل الباب مفتوحاً أمام ساكني الجبال للتمرد .

4-    الظلم السياسي :  شعر أبناء النوبة بظلم سياسي كبير لحق بهم في عدم مشاركتهم في الحياة السياسية علي مستوي الأجهزة التنفيذية العليا في الدولة .. نجد أن وجود تمثيل أبناء المنطقة ضعيف جداً رغم مساهماتهم التاريخية في النضال الوطني ، إذ لم يمثل النوبة في أي مواقع سيادية منذ الاستقلال فلم يبرز في ظلها عدد من أبناء المنطقة في الأجهزة الإدارية العليا المدنية والعسكرية إلا في ظل الحكومة الديمقراطية الثالثة وحكومة الإنقاذ والتي شغل فيهما أبناء النوبة بعض من المراكز والتي تعتبر ضعيفة بحجم ومساهمات أبناء المنطقة وتتمثل في الآتي :     

- وزارة المواصلات التي شغلها المرحوم محمود حسيب في عهد حكومة نميري .

- وزارة السياحة والفنادق والتي تبادل عليها كل من أمين بشير فلين ومحمد حماد كوة في أواخر    

  حكومة الصادق المهدي.   

-    وزارة الشباب والرياضة وعضوية مجلس قيادة الثورة التي شغلها العميد إبراهيم نايل ايدام .

-    وزارة التربية والتعليم التي شغلها د. كبشور كوكو قمبيل في عهد حكومة البشير .

-    وزارة التجارة الخارجية واستشارية السلام التي شغلها مكي علي بلايل في عهد حكومة البشير .

-    منصب الوالي بجنوب كردفان والتي تبادل عليه كل من اللواء باب الله بريمة وزيدان كومي . 

  

حدث هذا في وطن يجب أن تكون فيه الموازنة السياسية بين القوميات ذات الخصوصية أمراً محتوماً مما جعل  أبناء النوبة ينهضون للمطالبة بحقوقهم عن طريق بعض التوجهات الإقليمية التي تطورت فيما بعد وجعل البعض منهم يحملون السلاح كوسيلة قد تؤدي إلي نتائج إيجابية في المستقبل ، رغم أنه أدي فيما بعد إلي معاناة مواطني منطقة جبال النوبة.

 

5-  الاستعلاء الثقافي والعرقي :  تعتبر من الأسباب المباشرة التي دفعت أبناء المنطقة للتمرد حيال شعورهم بطمس هويتهم وثقافتهم ومحاربة لغاتهم والتقليل من شأنهم وعرقهم .. لأنه قد شهدت منطقة جبال النوبة ضريبة لم تدفعها أي منطقة في السودان وهي ضريبة ( الدقنية ) وقد فرضها الاستعمار واستمرت لسنوات بعد الاستقلال وكانت تدفع عن كل رأس بشري ، وكذلك ازدواجية المعايير تجاه أحداث تاريخية قام بها بعض أبناء النوبة فقمعت المحاولات الانقلابية التي شاركوا فيها بعنف ووصفت بالجهوية والعنصرية.

 

6- تجاوزات الأجهزة الرسمية السياسية والأمنية :  انضم بعض أبناء النوبة نتيجة كرد فعل لعمل طائش قام به بعض الأفراد داخل الأجهزة الرسمية السياسية أو الأمنية ومن أمثلة ذلك احتكاك الفاتح بشارة في خصوماته الشخصية مع ممثل جنوب كردفان في مجلس الشعب الإقليمي يوسف كوة ومحاولة تجريده من حصانته الدبلوماسية ومحاكمته ، وكما أن هناك الكثير من البلاغات الكيدية ضد أفراد بعينهم مما ولدت مرارات في نفوس البعض.

 

7- الترغيب والتهديد:  انضم البعض تحت تأثير الترغيب بأنهم حكام الغد وأمانيهم ستتحقق لا محالة بمقاعد السلطة والجاه والمال ، وفئات أخري تحت تأثير الترهيب والتهديد فلقد سيقت مجموعات كبيرة من الشباب عنوة إلي معسكرات التدريب وآخرون هروباً من العدالة وطالة القانون لمخالفات ارتكبوها.

 

8-    الضعف الإداري والواقع الاقتصادي وغياب الوجود الرسمي في المنطقة :   الغياب الإداري المستمر للأجهزة الرسمية في المنطقة ساعد علي تدهور وإفراط الأمن حيث قلصت الوحدات الإدارية مع تركيز السلطة في شمال كردفان حيث رئاسة المركز والمديرية في بداية السبعينات .. وسحب معظم الموظفين ترك فراغاً إدارياً ساعد في فقدان السيطرة علي المواطنين مع تكرار بعض الممارسات الخارجة عن القانون دون أن تجد المسئول الذي يتصدى لها في حينها ، مما قادت إلي أحداث السلب والنهب لخيرات المنطقة ودخول بعض العناصر المشبوهة لزعزعة الأمن والاستقرار . بالإضافة للقضايا الإدارية الأخرى المتعلقة بالنزاعات علي الحدود الإدارية ، فلم تشهد المنطقة أي جهود جادة للتنمية الاقتصادية في مجال المشاريع الزراعية الآلية في محيط الفقر الذي يعيشه معظم السكان .. فلم تراع الحكومة أي اعتبارات ذات صلة بالعدالة الاجتماعية في توزيعها لمشاريع مناطق هبيلا ، كرتالا ، أم لوبيا ... الخ حيث أكثر من 80  %  من الأراضي تم تمليكها لجهات وأفراد غير السكان الأصليين للمنطقة ( الوافدين ) .. فلم تساهم هذه المشروعات في تنمية المجتمع المحلي بل تذهب إلي خارج المنطقة مما أدي إلي وقوع السكان المحليين لأسباب كثيرة تحت طائلة استغلال بعض التجار ( الجلابة ) .. وذلك بتبخيس هذه الفئة لمنتجات المواطنين المحلية حين شرائها وفي نفس الوقت رفع أسعار بضاعتهم عند البيع مما ولد شعوراً بالكراهية تجاه الجلابة باعتبارهم ( فئة هدامة ) . . لذلك عزف التمرد علي وتر الظلم في تقسيم الأراضي لأن العقلية القابضة علي دفة الحكم بالولاية ساهمت في تمكين ( الوافدين ) وتمليكهم ألاف الأفدنة الزراعية والمواقع الاستثمارية والسكنية . أضف لذلك تحويل الموارد المحلية للمنطقة لميزانية الحرب فازداد التخلف وانهارت كل المؤسسات الخدمية ، مما زاد الشعور بالغبن ويظهر ذلك حتى في اتفاقية سويسرا لوقف إطلاق النار وعدم التزام وإيفاء الحكومة بتنفيذ بنودها لكسب جزء من ثقة أبناء النوبة ، فلقد تعاملت معها بسياسة نقد العهود وازدواجية المعايير.

 

أما الحديث عن أن ثمة سياسات تمت دفعت أبناء جبال النوبة لاتخاذ واحد من موقفين .. إما مع الحكومة أو الحركة الشعبية هذا صحيح ..!!

سببه الشعور بالغبن الموجود أصلاً بالإضافة إلي مساندة إنسان جبال النوبة لحكومة الإنقاذ التي وعدته بالكثير لكن التنفيذ دون الطموح ، فلم ينجح المسئوليين والتنفيذيين في امتصاص ذلك الغبن لأنهم لم يتفهموا التركيبة النفسية لإنسان المنطقة . وعلي سبيل المثال لقد تمت سياسات التفريغ والتهجير القسري في بعض المحافظات ، لكن بكل تأكيد تصرفات فردية من بعض التنفيذيين لكنهم تعاملوا معها كخطة دولة استهدفت حياة مواطني المنطقة وصمتت عليها الحكومة فهذا لا يعني إعفائها وعدم تحملها للمسئولية التاريخية في حق شعب أعزل.

 

الحركة الشعبية استطاعت بذكائها أن تستغل التباين الثقافي والاجتماعي الشديد في المنطقة بعد ظهور واقع اجتماعي جديد عقب سنوات الجفاف التي ضربت المنطقة في الثمانيات ، فتحولت بعض القبائل العربية الرعوية إلي قبائل تمتهن حرفة الزراعة بعد أن فقدت مواشيها .. هذا الواقع فرض ضرورة التوزيع الجديد للموارد .. فإتباع سياسة ( الحكر ) في الأراضي أدي إلي ظهور بعض الأصوات النشاز في المنطقة مما زاد الشعور بالظلم المركزي والمحلي ، مما جعل حركة التمرد تستغل هذا الواقع لجذب أبناء المنطقة لصفوفها وخاصة أن معظمهم بلا تعليم أو عمل ، حتى أصبحت الحركة الشعبية في قطاع جبال النوبة واقعاً تتأثر به المنطقة وشارك فيها أعداد كبيرة من أبناء النوبة.

 

  وهنا لا أقول بأن الحركة هم الذين يمثلون مشكلة إنسان جبال النوبة .. لكننا نعيش في عالم أصبح صوت السلاح والبندقية فيه عال . . وكما للحكومة مواقف تجاه أبناء جبال النوبة ، فكذلك للحركة الشعبية مواقف تجاه أبناء منطقة جبال النوبة .. فلذلك نود أن نؤكد بأن أشواق أبناء منطقة جبال النوبة لم تتحول جنوباً ، لأن النوبة أقرب للشمال جغرافياً وثقافياً ودينياً .. لكن فشل محاولات الإصلاح الإداري والخدمي والتنموي وظلم ذوي القربى جعل أهل جبال النوبة يبحثون عن القوة ، فاستغلت الحركة الشعبية هذا التناقض لمصلحتها لجذب أبناء المنطقة . . وأبناء المنطقة الآن رغم اختلافهم العرقي والسياسي إلا أن الذي يجمع بينهم هو ضرورة إيجاد معادلات للتعايش السلمي بالمنطقة .. ولا سبيل لتحقيق التنمية وتضييق شقة التخلف إلا في ظل الاستقرار والسلام.

 

 فمشروع السلام والحديث عن التغيرات القادمة والتحولات التي سوف تطرأ علي الخارطة السياسية النوبية وفي ظل سنوات الفترة الانتقالية يتطلب الوقوف عند بعض المحطات لتحقيق السلام الحقيقي في المنطقة .. يجب إشراك جميع الأطراف من أبناء منطقة جبال النوبة ويجب أن يكون في إطار الحل السياسي الشامل لكل الأزمة التي تعاني منها المنطقة ، وأن يكون حلاً بعيد المدى وليس وقف الحرب لتندلع مرة أخري .. ليكون حلاً ناجعاً وليس مسكناً في ظل التعايش السلمي والديني مع الاعتراف باللغة والثقافة والأعراق والهوية واحترام العادات والتقاليد والموروثات المختلفة والتقسيم العادل في السلطة والثروة وعدم احتكارها دون الآخرين .. إذا ارتضينا العيش في سلام وفي ظل السودان الموحد.

 

كما يجب علينا الانتباه لمعرفة كل النوايا والخطط الآنية والمستقبلية للحكومة وصمتها وهي تقدم ( أرتال ) من التنازلات للحركة الشعبية وذلك خوفاً من مغبة نواياها والأسلوب الذي يفكر به قبطان سفينتها من ( مثلث برمودا ) في صمت ، وهم ينصبون شرك المصيدة ونحن تنقصنا التجربة السياسية والحكم لوقوع أبناء النوبة في الفخ وذلك بإشعال نار الفتنة والصراع بين النوبة حول السلام القادم .. وخاصة سوف يظهر علي السطح السياسي أطراف عديدة من مختلف الاتجاهات في المنطقة.

   

فلا بد من تحكم العقول وتنسيق الرؤى وتوحيد الجهود بين كل الأطراف والدفع بالسلام بعد التوقيع النهائي لنعيد الخارطة السياسية والاجتماعية لجبال النوبة مع توفير ضمانات للسلام العادل والشامل في ظل العدل والمساواة لكل حقوق المواطنة والواجبات تحت سقف ومظلة منطقة جبال النوبة ( جنوب كردفان ) وفي ظل السودان الجديد بالفهم الشمولي وتفويت الفرصة علي المتآمرين وتجار الحرب وزبائنة الفتن ، وفضح وإحباط خطط الحكومة وبطانتها ، ولا بد من صحوة البعض من غفوتهم وهم يحسبون بأن الحكومة وأجهزتها أصبحوا محتارين لكن لا بد من التعامل مع الحقائق والوقائع بتجرد وشفافية ووضعها علي ميزان العقل وعدم الانقياد وراء الشعارات البراقة .. لأن الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني لهذه المنطقة يتطلب جلوس كل الأطراف من أبناء المنطقة بمختلف ألوان طيفهم السياسي للوصول لمعادلات التعايش السلمي وتوفير المزيد من الموارد لتقليل هامش التخلف التي تعاني منه منطقة جبال النوبة . 

 

القاهرة 7 يوليو 2002 م

 

 

آراء