بسم الله الرحمن الرحيم
في السنة الماضية كنت في إحدى مراكز شرطة عُمَان السلطانية أنتظر العقيد المسؤول لأكمال أجراء معين بخصوص تجديد بطاقة الأقامة .
وبينما أنا كذلك أجلس داخل المكتب الفخيم أنتظر العقيد ، دخل علينا مواطن عماني .
كان هذا المواطن يشتكي لأحد العساكر ( المعاونين للضابط ) من ضخامة المبلغ الذي تم رصده و تسجيله عليه كمخالفات سير في الطريق العام ، راجيا منهم التخفيف بسبب عدم قدرته دفع كل هذا المبلغ الكبير مشيرا بطريقة غير مباشرة بأنه من أصحاب الدخل المحدود.
وعد العسكري المواطن بكل تهذيب خيرا ، و طلب منه الجلوس بجواري و أنتظار العقيد ، لأنه صاحب الكلمة الفصل ( الأولى و الأخيرة ) في تحديد ما إذا سوف تتم مراعاة ظرفه و تخفيض المبلغ ، أم أنه يتوجب عليه دفعه كاملا .
بعدها بثلث ساعة تقريبا دخل علينا العقيد و أعتذر بكل لباقة عن غيابه ، فجاءه العسكري وبدأ يشرح له شكوى المواطن ، فنظر للمواطن و أراد أن يستمع له مباشرة ، فبدأ يرجوه بأن يتم تخفيض مبلغ الغرامة المطلوب منه بسبب أحواله و إلتزاماته المعيشية الصعبة و المتعددة .
ما أسترعى ملاحظتي و شد أنتباهي لهذا المشهد و جعلني مشدوها و مفتونا به في آن واحد ، ليس لأنه جرى أمامي فقط ، ولكن بسبب المنهج الراقي الذي تعامل به الضابط مع المواطن .
أبدى العقيد أثناء أستماعه لشكوى المواطن صبرا طويلاً و تواضعاً جماً حيث ظل مصغياً له بشكل هادئ و جميل دون أن يحاول طوال عرض الأخير لشكواه أن يقاطعه أو يستعجله أو حتى مجرد تصحيحه و توجيهه في أسلوب كلامه .
وظل العقيد حتى أنتهى المواطن من كلامه على هذا الحال مرخياً أذنيه عن قرب للمواطن حتى لا يجبره على رفع صوته لأسماعه أثناء عرض حاجته ، فًيُحرج بذلك أمام كل من كان في المكتب .
ثم كان ختام هذا المشهد أروع من بداياته .....
لم يكتفي العقيد بالموافقة على تخفيض المبلغ ، و لكنه طلب منه تحديد حجم التخفيض الذي يناسبه ، ثم قال له في الأخير إن شرطة عمان السلطانية تعمل ليل نهار من أجل خدمتكم ، و صون و الدفاع عن كرامة المواطن لا إذلاله أو التضييق عليه بمثل هذه الجزاءات .
أستعادت ذاكرتي هذا المشهد الذي مضى عليه أكثر من عام سريعا بعد أن قرأت خبرًا عن ردود أفعال متباينة و جدل كثيف ، أثارتها حلقات برنامج ( عليك واحد ) الذي تبثه قناة سودانية 24 في هذا الشهر الفضيل ، ثم قرأت أيضا خبراً آخر أن خلافا تفجر و دار بين جهاز الشرطة و إدارة القناة التي تعرض نفس هذا البرنامج للموسم الثاني على التوالي ولكن بفكرة جديدة .
البرنامج في موسمه الأول شاهدت منه حلقة واحدة أو حلقتين ، فأعرضت عنه و نأيت بنفسي عن مشاهدته لأسباب سوف نوردها لاحقا في هذا المقال .
لكن مادفعني للكتابة دفعا رغم قناعتي أنه لا فائدة يمكن أن تُرجَى للقارئ الكريم من مقال يُخَصَص لنقد برنامج كاميرا الخفية في وطن تراصت فيه الصفوف مرة أولى للخبز ثم ثانية أخرى للبنزين و أخيرا وليس آخراً للغاز ، هو أن الحبكة الهزلية التي أبتكرها بطل البرنامج و نُفذت في الضيوف حملت من الدلالات ما تجاوز بالأمر مسألة كونه مجرد برنامج كاميرا الخفية قُصِدَ به الترفيه للصائمين في هذا الشهر الفضيل !!؟
تدور فكرة البرنامج في موسمه الثاني هذا العام على أستدعاء ضيف غالبا ما يكون من الفنانين أو المذيعين لشركة تقوم بأنتاج و تصوير إعلانات ، و مشاركته في إعلان معين .
تتم بعد ذلك مداهمة الشركة من قبل رجال الأمن على أنها وكر للترويج و المتاجرة بالمخدرات ، فيتحول الضيف الى متهم مع موظفي الشركة بسبب تواجده الزمني و المكاني في هذا الوكر ، و العثورعلى الهيروين في سيارته بعد أن يتم وضعه فيها أثناء تواجده داخل الشركة .
بداية ومن حيث الشرع يحرم ديننا الحنيف مبدأ ترويع المسلم لأخيه المسلم ولو مازحا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ) من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى يدعه وإن كان أخاه لأبيه وأمه ) رواه مسلم .
كما روى عبد الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ : حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ ، فَفَزِعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ) رواه أبو داود.
وقد عدَّ بعض أهل العلم ترويع المسلم لأخيه المسلم ولو مازحا من الكبائر، كابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتابه الكبائر .
كما أن الضحك و السخرية من ردة فعل الضيف العفوية بسبب خوفه أو هلعه من المأزق النفسي و الشرفي التي وقع فيه ، مسألة محرمة أيضا شرعا لقوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ .
قطعا هذه الأدلة الشرعية لم و لن تكن لتغب عن ذهن و معرفة و أدراك إدارة القناة و على رأسهم مديرها المعروف بتوجهه الأسلامي ، ولذلك جعلنا البعد الشرعي لرأينا النقدي مجرد أستهلالا للعرض و هأنذا نطلب من القارئ الكريم التكرم بالصبر علينا لنطرق أبعادا أخرى تتجاوز هذا الجانب الشرعي للمسألة .
عندما عرضنا المشهد الذي جرى أمامنا داخل أحد مراكز شرطة عمان السلطانية بين الضابط و المواطن أردنا أن نسوق مقارنة سريعة و مهمة في آن واحد .
فقد رأينا أمامنا حقيقة و بأم أعيننا أسلوب تعامل الضباط والعساكر العمانيين مع المواطن حتى لو كان مذنبا ، ثم جحظت أعيننا بعد مشاهدتنا لما سعت كاميرا البرنامج لعرضه تمثيلا ( بوعي أو من دون وعي من المعد ) للأسلوب الذي يمكن أن يصل للمشاهد داخل و خارج السودان من أساليب تعامل الشرطة السودانية مع مواطنيها .
هذا الأمر حدا بالشرطة و على لسان ناطقها الرسمي الفريق حقوقي عمر المختار ، بمطالبة القناة بإيقافه بعد أن أساء لهذا الجهاز الخدمي و الوطني ، خصوصا أنه قدم للمشاهدين صورة غير حقيقية لرجال القانون ، و وجد موجة كبيرة من الأستنكار في الأواسط الشرطية .
كانت أنتقادات الشرطة في رأيي الخاص في محلها تماما وهي تتلخص في المشاهد التي أظهرت رجالهم وهم يتعاملون بشكل فظ و عنيف مع المواطن مما يرون أنه سوف يرسخ بذلك صورة ذهنية سيئة من قبل المشاهدين بكآفة أعمارهم تجاه الشرطة السودانية .
فقد وضح رئيس هيئة التوجيه و الخدمات الفريق شرطة حقوقي عمر المختار أن البرنامج به الكثير من ضوابط العمل الشرطي التي تم تمثيلها بشكل غير صحيح أبتداءً من الزي الشرطي و ليس أنتهاءً بالأعمال الجنائية و الأدارية المصاحبة لأي نشاط أمني ، مطالبا القناة في الأخير بوقف البرنامج لمراجعته خصوصا أنه لم يتم التصديق له من جهات الأختصاص .
في جانب آخر من المسألة ، وبعيدا عن الحقوق الأدبية للشرطة ، يعرف أي أنسان متعلم أو مثقف أن هناك خصائص نفسيّة و عقلية و جسدية تميّز المرأة عن الرجل في تكوينها الذاتي ممّا أوجب تفارقاً طبيعيا في أسلوب التعامل و توزيع الوظائف لكلٌّ منهما في حقل الحياة بناء على الدين والأعراف و المعتقدات و المواثيق الدولية .
فمعطيات المرأة النفسية و الخُلُقية بطبيعتها الاُنوثيّة المُرْهَفَة الرقيقة تختلف قطعا عن معطيات الرجل بطبيعته الصلبة الشديدة .
فنعومة طبعها و ظرافة خُلُقها تجعلها سريعة الانفعال تجاه مصطدمات الأمور , على خلاف الرجل في تريثه و مقاومته عند مقابلة الحوادث .
البرنامج للأسف الشديد ضرب بعرض الحائط كل هذه الثوابت العلمية و العضوية و العُرفِية ، بل ذهب أبعد من ذلك كثيرا حيث تابع المشاهدين في الحلقات التي يتم فيها أستضافة نساء سواءً فنانات أو مذيعات ، كيف أن قائد القوة الأمنية يقوم بإجبار الضيفة في آخر الحلقة في لفتة غريبة ونشاذ وبأصرار عجيب و مقزز ، الركوب في الخلف بين الرجال في البوكسي بشكل مهين و قبيح و مؤلم ، دون وضع أي أعتبارات للعرف السوداني التقليدي الذي يفرض علينا كونها أمرأة أنه يجب أن توقر و تحترم أو حتى لوضعها النفسي كشخصية عامة !
والسؤال الذي يجب نوجهه لأدارة القناة في هذه الجزئية تحديدا ...
ألم يكن بالأمكان لمعد الحلقات الطلب من قائد المجموعة الأمنية التقيد ولو قليلا بالأدب والعرف السوداني بأن يطلب من ضحيته الجلوس في المقعد الأمامي المجاور لمقعد السائق ، ريثما يصل هذا العقيد الوهمي لموقع الحدث ، و الأكتفاء فقط بفكرة ترويعها دون إضافة مرمطتها و إذلالها و التهوين من قدر أنوثتها على هذا النحو البشع !!؟
ما هي الصورة و الأنطباع السلبي التي يمكن أن يعكسه هذا التمثيل البربري و الهمجي تجاه المرأة و الذي تم تكراره مع عدد من الضيفات أمام أعين البسطاء من العامة و الذين يشاهدون هذه الحلقات ؟؟؟؟؟
بل ما هو تاثير ذلك التمثيل السيئ الذي لا يراعي لا دين ولا ذمة ولا أدب ولا أخلاق على نظرة شعوب العالم لنا ، و نحن نصور لهم كنموذج كيف يتعامل رجال القانون في السودان مع المواطن ، ليس الذكر فحسب ، ولكن حتى مع المرأة ، و فريق عمل البرنامج يجبر أي ضيفة أن تجلس مُكَوَمة وسط عدد من الرجال في البوكسي خلفاً ؟
و تبقى المفارقة المضحكة و المبكية و المؤلمة في صعيد واحد و التي يتوجب علي أن أذكرها هنا طالما نقلنا للقارئ الكريم في بداية المقال مثالا قصصيا من سلطنة عمان ، هو أن قانون المرور و الشرطة في هذا البلد الطيب يحرم بتاتا ركوب أي أنسان في الصندوق الخلفي لأي عربة بوكسي لأنهم يعتبرونها من عربات النقل التي تستعمل للبضائع و الحيوانات فقط .
وقد يعلم معظم المشاهدين المتابعين لهذا البرنامج أن فكرته و أسلوبه هو إعادة مشوهة لبرامج الممثل المصري رامز جلال التي تعرضها شبكة قنوات mbc .
حتى أن مازن تامر صاحب فكرة البرنامج وبطله الرئيسي، ظل يقلد نفس أسلوب رامز جلال في التعليق على ردود أفعال الضيف و دخوله في الخدعة ثم أكتشافه اللاحق لها ، دون وضع أي أعتبارات للفوارق النفسية و الحياتية و المادية للضيوف الذين يستضيفهم رامز جلال و يتقاضون نظير الحلقة المسجلة معهم مبالغ مالية كبيرة ومعظمهم يعلم بالمقلب ، وبين الضيوف الذين يستضيفهم مازن و الذين لا يعلمون بالمقلب ولا يخرجون منه إلا بالمذلة و المرمطة ، ثم بعدها كوب من الشاي أو العصير لتطييب الخواطر .
والعجيب في الأمر أن كل هذا يحدث في قناة صدعت السودانيين ليل نهار و طيلة الشهور الماضية و حتى يومنا هذا بدعاوى محاربة الأستعلاء و الأستعداء و الأستفزاز المصري للسودان من خلال برامج الحوارات الساخنة و المسلسلات التي ينتجها إعلامهم ، في الوقت الذي يقومون هم أنفسهم بتمرير نسخة مشوهة من برنامج مصري في قالب سوداني للمشاهد المحلي ، رغم أنه برنامج ملعون و مغضوب عليه حتى من قبل قطاع كبير من العوام و المثقفين المصريين .
و هنا يبرز السؤال الأهم الذي نود أيضا أن نوجهه لإدارة القناة .......
كيف لنا يا قناة سودانية 24 أن نثبت كينونتنا الخاصة و مقدرتنا الثقافية للأبداع و الأبتكار للعالم العربي ، و دحر فكرة التبعية السودانية البلهاء لكل منتج مصري ، و قناتكم التي تتصدر الأعلام المرئي السوداني حاليا تنحو هذا النحو في إعادة أنتاج الأفكار الفاشلة المصرية ؟
قامت تسوية بين الشرطة و القناة تترجمت بالسماح لهم بالأستمرار في عرض باقي الحلقات مع الألتزام الأدبي من القناة بوضع ديباجة توضيحية تفيد بأن المشاهد التمثيلية التي يتضمنها البرنامج لا تمت لعمل الشرطة بصلة، لفك الارتباط بين الواقع والتمثيل.
و بقدر ما أثلج صدري تحرك الشرطة لوقف هذا البرنامج المسيء لمهنيتها و لكرامة و حقوق المواطن و أدبيات و أخلاقيات المجتمع السوداني ، بقدر ما حزنت للتسوية الأخيرة التي أرتضتها الشرطة لنفسها فيما يبدو عبر هذه الديباجة التوضيحية في الوقت الذي صمتت فيه وزارة الثقافة و وزارة الأعلام عن مجرد التعليق في الأمر و كأن ما يجري من جدل حول البرنامج أمر لا يعنيها أو أنه يدور في نيكارجوا .
برامج الكامير الخفية في الغرب يتميز معدوها بالأحترافية و لا يكون الهدف منها أن تقدم للمتلقي إثارة مبالغ فيها خارج إطار الأخلاق ، أو مادة لا تحكمها ضوابط أخلاقية و قانونية تشوه في الأخير سمعة الدولة و المجتمع .
أما في في محيطنا العربي فبرامج الكامير الخفية تستند على الترويع و الأهانة و يرافقها شتم و إساءة و تصرفات سلبية ذات أضرار جسيمة على المجتمع ، و يعدها للأسف الشديد مجرد هواة هدفهم الأساسي فقط أن يجذب و يحقق البرنامج نسب مشاهدة عالية .
أما نحن في السودان فمجرد مقلدون للتجارب .....
ليست تلك الناجحة في الغرب قطعا ، ولكن الفاشلة منها التي تعرض في الوطن العربي .
teetman3@hotmail.com