علي وعلي: الصمت وجوهر الكلام
8 October, 2009
MOI [mohamedibra@gmail.com]
في صبيحة يوم بائس من أيام النصف الأول من عقد التسعينات، كان يتوجب علي أن استيقظ مبكراً جداً في الخرطوم لمقابلة شخص مهم يسكن بعيداً عن حيث أقيم. وصلت إلى موقف المواصلات القديم امام ميدان الأمم المتحدة وكان المكان خالياً من الناس والمركبات .لم تكن هناك سوى سيارات أجرة صفراء لا تسر الناظرين . تقدمت مشياً نحو شارع سنكات لتأتي سيارة (كريسيدا) بيضاء أنيقة يقودها الدكتور علي الحاج محمد الرجل الواسع النفوذ في السلطة. أذكر تماماً أنه كان يرتدي جلباباً وعمامة ويضع عليها عباءة أو ربما شالاً سماوي اللون يقي الجسد من البرد ويمنح المظهر أناقة وبهاء. نظر إلي ملياً من داخل سيارته ثم اشاح بوجهه عني. ربما سأل الرجل نفسه " ماذا يفعل هذا الفرد من الشعب في هذا المكان في هذا الوقت بالذات؟". فكرت لبرهة ثم قلت لنفسي " ماذا يفعل هذا الفرد من السلطة في هذا الوقت المبكر من اليوم؟" لا بد أن الأمر لا يخرج عن إثنين فإما أن الوزير كان في زيارة لأحد الزملاء فق سمعت أنهم يتزاورون بعد صلاة الفجر للإطمئنان على قشرة التقوى في مرحلة الإنتقال من الفكرة إلى الدولة، أو أنه كان يتفقد محطات حظر التجول هنا وهناك. لم أظهر للرجل إنني عرفته، حين التقت عينانا، فمن يضمن ألا يستوقفني أحد حراس الرجل الكبير أو يحققوا معي عما أعرف عن الرجل وما الذي دفعني للنظر إليه داخل سيارته الحصينة وغير ذلك مما لا قبل لي به. قلت جملة قصيرة تلخص موقفي من حكومة الرجل كلها في سري، ثم مضيت ولم أحدث بالقصة أحدا. الآن إكتشفت إنني على خطأ فقد كان الرجل ديمقراطياً ومحباً للسلام ورافضاً للحرب والعنف وعسف السلطة وفوق كل هذا وذاك عاملاً مخلصاً وراهباً متبتلاً في خدمة الشعب ! أو ليس هذا ما يقوله في تصريحاته الموسمية التي لا تنشر سوى في الشرق الأوسط (جريدة العرب الدولية)؟ في الواقع كان ينبغي لي أن استوقفه في الطريق وأن أحدثه بالمظالم التي وقعت على العشرات ممن أعرف ومنهم من ضربوا وسحلوا في الشوارع ومنهم من فقدوا وظائفهم ليحل محلهم طلاب انتزعوا من مقاعد الدراسة ولم يكملوا بعد الثانوية. كان ينبغي أن أبلغه أن ما يقارب المائة ألف عامل في الدولة خسروا وظائفهم وإن المئات من أبناء الشعب يموتون يومياً في الجنوب حيث تستعر حرب أهلية ضروس فربما لم يكن على علم!
منذ أيام عاد د. علي الحاج محمد للأضواء لأسباب ليست لها علاقة بطريق الإنقاذ الغربي أو ما شابه وإنما في سياق نضاله (جهاده) من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان! عاد الرجل ليدلي بتصريحات على هامش إنعقاد المؤتمر العام لحزب المؤتمر الحاكم، وقال في تلك التصريحات إن من المتوقع حدوث تعديلات في مؤسسة رئاسة الجمهورية بحيث يتم تعيين نائب للرئيس من دارفور "لديه ولاء للمؤتمر الشعبي". وبغض النظر عما إذا كان إفراز تلك الشائعة مرتبط بصراعات القوى والتيارات داخل الحزب الحاكم أم لا، فإن تعيين نائب للرئيس من دارفور كان ضمن ما خرجت به توصيات مؤتمر جوبا الأخير والذي دعت إليه الحركة الشعبية. وإذا كان ثمة ما يقال هنا فهو المفارقة فيما حملت تلك الدعوة، فقد كان المؤتمر الوطني -كما يقول من راقبوا مفاوضات أبوجا حول دارفور- مستعد لتعيين نائب للرئيس من الإقليم، لكن الحركة الشعبية هي التي رفضت ذلك بحجة مخالفته للدستور ولإتفاقية نيفاشا التي تحدد عدد نواب الرئيس من الشمال بواحد، وهو ما أدى إلى إبتداع منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية الذي يتولاه الآن السيد/ مني أركو مناوي. لو صح ما أشار إليه د. علي الحاج من تعيين شخص موالٍ لحزب المؤتمر الشعبي فإن هذا سيكون خبر الموسم وسيعيد ترتيب خريطة تحالفات القوى السياسية السودانية على أسس جديدة بحيث يعاد إلتئام (أو إلتحام) جناحي الجبهة الإسلامية القومية، فيما ستضطر القوى الأخرى للإصطفاف من جديد ضد مشروع الترابي ويعود الزمن بالبلاد إلى صيف عام 1995م. هذا بالطبع مستحيل لعدة اسباب، ولكن من يقنع (الشرق الأوسط) وعلي الحاج. إن طرح تعيين نائب رئيس من دارفور ستكون له آثار كبيرة بالطبع على طريقة سعى القوى السياسية للإستحواذ على المناصب العامة وأبسط هذه الآثار هي إحتمال سعي الجعليين والشايقية والرباطاب والمحس مثلاً للمطالبة بتمثيلهم في المناصب العليا للدولة بحجة أن الرئيس ومعاونيه لم يتولوا هذه المناصب نيابة عن قبائلهم، وبالتالي فإنهم لا يمثلونها، وإذا ما أرادت الدولة تقسيم المناصب العامة كلها على النمط (اللبناني) فينبغي ضرورة الإستئناس برأي تلك القبائل في المقام الأول. ربما يمكن إستيعاب تصريحات علي الحاج هذه كتعبير عن التوق إلى الماضي (النوستالجيا) حيث كان منصب نائب الرئيس (الأول حينها) قاب قوسين أو أدنى من علي الحاج نفسه، وربما يمكن إستيعابها على اساس أنها محاولة للطرق على خلافات تيارات الحزب الحاكم لعل وعسى، أما غير ذلك فليس لما قاله الدكتور لجريدة العرب الدولية محل من الإعراب.
وعلي الآخر هو الأستاذ علي محمود حسنين نائب رئيس الحزب الإتحادي الديمقراطي (الأصل) وحتى نبدأ بداية صحيحة ينبغي أن نقول : ليس هناك حزب سياسي (مستحق لهذه التعريف) بإسم الحزب الإتحادي الديمقراطي –الأصل وإنما هناك رجل إسمه السيد محمد عثمان الميرغني وأتباع له محبين ومؤيدين وآخرين من دونهم. الذاكرة الشعبية السودانية تعرف جيداً ما هو (حزب السيد)، أما وجود حزب مسجل بإسم الإتحادي-الأصل فهو أمر فرضته مقتضيات التواؤم مع القوانين المعمول بها، لذا فإن مشاركة السيد الميرغني في شيء تعني مشاركة حزبه، ورفضه للشيء(أي شيء) تعني رفض حزبه. الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني وكافة القوى السياسية تدرك هذا جيدا، لذا فإنها إن أرادت التعرف على موقف الإتحادي-الأصل أو الحصول على تأييده أو مؤازرته فإنها تحرص على الحصول على ذلك من الميرغني نفسه أو من يفوضه، أما الأجهزة الحزبية وحملة الألقاب الرسمية فهذه كلها من متطلبات القوانين، ليس إلا. يستطيع السيد الميرغني بسهولة شديدة وعبر بيان قصير يوقع عليه الأستاذ / حاتم السر علي أن يحل كافة مؤسسات الحزب الإتحادي-الأصل في السودان وينشيء بدلاً عنها مؤسسات بديلة تقوم بأعبائها وجوه جديدة لا تعرف الأستاذ علي محمود حسنين ولا تأتمر بأمره، وإن دعت الضرورات القانونية فهذا اسهل ما يمكن التواؤم معه. لذا فإن المكايدة وحدها هي التي جعلت القائمين على أمر مؤتمر جوبا يؤجلون جلستهم الختامية ويفسحون المجال في صدرها للأستاذ علي محمود حسنين وهم يعلمون في قرارة أنفسهم إن قول الحزب الإتحادي- الأصل هو ما قاله الأستاذ حاتم المقرب من رئيس الحزب بأن حزبهم إعتذر عن المشاركة في المؤتمر، إنتهى.
أجهد الأستاذ حسنين نفسه في رحلة شاقة إستغرقت 17 ساعة (أجراس الحرية 4 أكتوبر) ليصل إلى جوبا وليقول للمؤتمرين أن وثيقة المؤتمر "سوف تجد منا الدعم الكامل وسوف نلتزم بها وسف نعمل على تنفيذها إن شاء الله بكل ما أوتينا من قوة" وما أوتيتم -يا استاذ حسنين- من القوة إلا قليلاً!
حسناً حتى لا يلتبسن الأمر على أحد ، نقول أن الأستاذ حسنين سياسي مخضرم وأنه رجل يجتهد في أن يقرن القول بالعمل وحين ارتأى معارضة الحكومة الحالية أو (جانب المؤتمر الوطني ) فيها فإنه اتخذ الموقف الشريف، فتقدم باستقالته من المجلس الوطني ولم يخدع أحداً مثلما يفعل الكثيرون من الراقصين على الحبال. في هذا كله فالأستاذ حسنين نموذج للسياسي الصادق في المواءمة بين مواقفه وأفعاله لكن زعمه بتمثيل الحزب الإتحادي الديمقراطي فيه نظر! لقد بنى حسنين خطاً عريضاً بينه وبين حزب السيد يوم أن قدم إستقالته من البرلمان ويوم أن شارك في تظاهرات تخلف عنها حزبه ويوم أن وقع على بيانات لم تمر عبر مصفاة الميرغني الدقيقة ويوم ... ويوم...، ومن الأجدى له أن يختار بين أن يبقى في حزب السيد الميرغني، أو أن يبقى خارجه أما أن يزعم بأنه يمثل حزب الميرغني في شيء يرفضه الميرغني ذاته فهذا لن ينطلي على أحد.
ليت علي وعلي صمتا عما قالاه بشأن مؤتمر الحزب الحاكم ومؤتمر جوبا، فالصمت عندما يموت جوهر الكلام أعمق ، أو كما قال مرة راضي صدوق.
(عن الأحداث)