عمر الكاهن.. رحيل غير قابل للعودة

 


 

 

رُزء المجتمع الصحافي والإعلامي في السودان بوفاة الصحافي عمر محمد الحسن (الكاهن) يوم الثلاثاء الماضي، إذ غيبه الموت عن دنيانا الفانية، إلى الدنيا الباقية، في رحيل غير قابل للعودة. فالموت أدركه سابقاً، ويدركنا لاحقاً، أينما كنا، حتى ولو كنا في بروجٍ مشيدةٍ، مصداقاً لقوله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا". وتذكيراً بقول الشاعر العربي خويلد بن محرث بن سعد بن هذيل، المعروف بأبي ذؤيب الهذلي:‏
وإذا المنية أنشبت أظفارهـا   ألفيـت كـل تميمـة لا تنفـعُ
مما لا ريب فيه أن خبر نعي الأخ عمر الكاهن أحزن أصدقاءه وزملاءه الكُثر داخل السودان وخارجه، لما يتميز به من معشر طيب، ومعاملة حسنة، وصداقة واسعة، وعلاقات متميزة. كان الراحل عمر الكاهن معروفاً باتساع علاقاته، ومذكوراً بكثير صداقاته. ففقده ترك جُرحاً غائراً، ومصاباً أليماً، وخطباً جلالاً، ليس لأفراد أسرته المكلومة، ولا لزوجته وبناته وابنه الحزانى، ولكن لإخوانه وأخواته، وأبنائه، وبناته، من الصحافيين والإعلاميين، الذين كانوا يرون فيه أخاً صادقاً، وزميلاً مخلصاً، لكل رسلائه وتلاميذه في الحقل الصحافي والإعلامي. كان الراحل عمر الكاهن مقبولاً لدى التيارات السياسية السودانية المختلفة، ومُرحباً به في الصحف السودانية على اختلاف توجهاتها الفكرية، وتبين مدارسها الصحافية، لذلك كان كالفراشة الحائرة يبث رحيقه في صحف عديدة منها، "الصحافة" و"الأيام" و"الرأي العام" و"السوداني"، وأخيراً في صحيفة "أخبار اليوم" التي وجد فيها حدائق غناء لارتشاف رحيقها ويثه من جديد فيها، خبراً وتعليقاً، إذ أن الأخ الصديق أحمد البلال الطيب رئيس تحرير "أخبار اليوم" من أنصار المدرسة الخبرية في الصحافة السودانية، إن أردنا أن نؤطر لها تأطيراً أكاديمياً، فهو يحتفي بمؤانسي المجالس الخاصة، احتفائه بمحرري الأخبار، فلذلك لم يكن مستغرباً أن يفرد مساحة واسعة لأخبار الأخ الراحل عمر الكاهن، والتي تزواج بين الخاص والعام، والسياسة والاجتماع، في "أخبار اليوم" وتتمدد إلى صفحة كاملة، سوداء من غير سوء، واسودادها من جراء ما تدفق فيها من حبر، لا من سواد مقصد كاتبها، أو سوء نيته، وتحمل عنواناً جميلاً، هو "غير قابل للنفي" الذي يحرص كل صحافي أن يطابق خبره ذاك المعنى.
وأحسب أن "غير قابل للنفي" للكاهن يحتاج منا إلى تأصيل لغوي بلاغي، فهو من أساليب التورية البلاغية وفنونها التي تحتاج منا إلى قدرٍ من التفصيل، وإن كان الشيطان في التفاصيل، ولكن التفصيل هنا مهمٌ، بغرض التأصيل، فعنوان "غير قابل للنفي" الكاهني، هو من باب التورية، والتورية من المحسنات المعنوية في علم البلاغة، المقصود بها لغةً: مصدر وريت الخبر تورية، إذا سترته، وأظهرت غيره. واصطلاحاً: أن يطلق لفظ له معنيان: أحدهما قريب غير مراد، والآخر بعيد هو المراد، ويدل عليه بقرينة يغلب أن تكون خفية، فيتوهم السامع أنه يريد المعنى القريب، وهو يريد المعنى البعيد، كقول الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". وأراد الله تعالى بقوله "جَرَحْتُم" معناه البعيد، وهو ارتكاب الذنوب، ولأجل هذا سميت التورية. ومثل آخر: قول أبي المحاسن بن زيلاق بدر الدين بن لؤلؤ الذهبى سراج الدين الوراق:
أصون أديم وجهي عن أناس    لقاء الموت عندهم الأديب
وربُّ الشعر عندهم بغيض       ولو وافى به لهم حبيـب
المعنى القريب غير المراد هو "الحبيب"، والبعيد المراد هو الشاعر العربي حبيب بن أوس الطائي، المعروف بأبي تمام.
ويُلحظ أن التورية تضفي على المعنى غموضاً لا يصل حدَّ الإبهام، إذ فيها ظاهرة الخفاء والتجلي التي تثير ذهنية المتلقي للنص الأدبي. أما في حال عنوان "غير قابل للنفي" الكاهني، نقول: المعنى القريب غير المراد، هو صدقية هذه الأخبار، من حيث أنها غير قابلة للنفي أو التكذيب، والمعنى البعيد المراد، هو أن هذه الأخبار، فيها قدر من الخصوصية والحميمية، لذلك من غير المعقول أن تكون قابلة للنفي من قبل مصادرها أو رواتها.
في رأيي الخاص، كان الراحل عمر الكاهن من أميز محرري "الدردشة" الاجتماعية، إن لم يكن متفرداً فيها بالصحافة السودانية، إذ أنه يغشى مجالس المؤانسة الاجتماعية كثيراً، ليس ليسترق أخبارها، ولكن ليعيش صناعتها، ومن ثم يعمل جاهداً، لإعادة صياغتها وتحريرها في قالب يُبعدها عن جدية الأخبار وغلظتها، وصعوبة الآراء وقسوتها، لتكون قابلة للنشر، وفي الوقت نفسه، غير قابلة للنفي. وأحسب أن مثل هذه الأخبار تستهوي الكثير من قراء الصحافة، محلياً وعالمياً، لأن النفس البشرية جُبلت على التشوق لمعرفة الأخبار والأسرار، ولأنها في الغالب الأعم تكون بمثابة مؤشراتٍ لأخبارٍ مهمةٍ، وأحداثٍ جسيمةٍ، فلذلك لم تُمانع تلك المجالس في تسريب أخبارها، مهما كانت قيمتها الخبرية، لتجد عند عمر الكاهن غربالاً لا تتسرب من خلاله، المهم منها، موضوعياً كان أم ذاتياً، دون إحراج مصادرها أو رواتها، ولا تقلق ناقلها، ولا تثير له المتاعب القانونية أو التنظيمية المهنية. وكانت مجالس المؤانسة، أين كانت مجامعها أو أنى كان روادها، تفسح له المجال فسحاً واسعاً، لأنه كان خفيف الظل، طيب المؤانسة، سريع البداهة.
وأحسب أنه وفقاً للروايات المتواترة لدينا، أن الأخ مهدي مصطفى الهادي محافظ الخرطوم الأسبق، في العهد المايوي (1969 – 1985)، مَنْ أطلق على الراحل عمر محمد الحسن لقب "الكاهن"، والكاهن بالعامية عند المسيحيين "أبونا" Father أي أب الكل: وجدت كلمة "كاهن" Priest في اللغات السامية ويعتقد أنها أتت من "كوهين" بالعبرية. والفعل "كهن" بمعني "أنبأ" الناس بإرادة الله أو قضي بالغيب أو عرف أسرار الكنيسة. وكلمة "كاهن" تطلق على رجل الدين الذي يقوم بخدمة الناس، ويسعى في حاجتهم. والكاهن عند المسيحيين هو من ارتقي إلى درجة الكهنوت، ويقوم بالصلاة والخدمة من أجل الشعب. وكلمة كاهن باللغة القبطية من كلمة تعني قديس أو طاهر، فالكاهن هو رجل الدين الذي يتجمل بالقداسة والطهارة في حياته. وفي القداس الإلهي، الكاهن الذي يصلي القداس يطلق عليه لفظ: "الكاهن الخديم" أي الذي يخدم الأسرار (خادم الأسرار). فيا تُرى هل كان الأخ مهدي مصطفى الهادي توقع مبكراً لعمر محمد الحسن أنه سيكون خديم صاحبة الجلالة الصحافة، والأمين على أسرار أخبار معارفه ومجالسه التي يحصل عليها فلا ينشر المؤذي منها، ولا الفاضح لأسرارهم وأسرارها، وأنه سيراعي أن المجالس بأماناتها؟! ولكن من الضروري الإشارة في هذا الخصوص، إلى أن الأخ مهدي مصطفى الهادي، كان من الشخصيات العامة التي اهتمت، بقدرٍ ملحوظٍ، بالنشاط الصحافي الاجتماعي، فلا غرابة أن اهتم الراحل عمر الكاهن في بواكير حياته العملية في سكرتارية محافظ الخرطوم الأسبق، بعد إكمال المرحلة الثانوية، بهذا الجانب في العمل الصحافي، وهو يافع يانع، حديث عهد بالعمل الصحافي، فلم تؤثر قلة خبرته المهنية أو إقلال معرفته الأكاديمية، بالتميز في هذا النشاط الصحافي، بينما هذا الأسلوب الصحافي، المعروف بصحافة "الدردشة" الاجتماعية من الأساليب الصحافية الحديثة التي تدرس في الجامعات والأكاديميات الصحافية والإعلامية في الغرب، باعتباره مدخلاً مهما من مداخل بناء المعرفة والثقة بين الصحافي ومصادره للحصول على الأخبار المهمة والخاصة، ومعرفة الأحداث المستقبلية. وينشط هذا الأسلوب الصحافي في الغرب بين أوساط المشاهير، خاصة نجوم المجتمع من سياسيين وفنانين ورياضيين. لذلك ليس مستغرباً أن نجد خارطة "دردشات" الراحل عمر الكاهن، تضاريسها من السياسيين، وهضابها من الرياضيين، ونجوم المجتمع الخرطومي.
ولم يكن غريباً أن يتزاحم أهل الصحافة، ورجالات السياسة، وجماعات الثقافة والرياضة، ورموز المجتمع بكافة قطاعاته، في تشييع الراحل عمر الكاهن في مقابر الصحافة ومنزل العزاء يوم الثلاثاء الماضي، تصديقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ".. وإن مات فشيعه"، معددين مآثره، سائلين الله تعالى أن يتقبله قبولاً طيباً حسناً ويلهمهم جميعاً الصبر الجميل. وكان الأخ الصديق جمال الوالي رجل الأعمال المعروف ورئيس مجلس إدارة صحيفة "السوداني"، يتحدث معي هاتفياً يوم الخميس الماضي، فسارع إلى تعزيتي وتعزية نفسه، في وفاة الأخ الراحل عمر الكاهن، وشعرت بنبرات حزنٍ في صوته، وبخلجات ألمٍ للمصاب في حديثه، وعرفت من غيره أنه كان مرابطاً في المستشفى أثناء مرضه مع الأخ عبد الباسط سبدرات والأخ محمد الشيخ مدني وغيرهما. وكان الراحل عمر الكاهن يذكرني ببعض الصحافيين الذين عاصرناهم في بواكير مراحل عمرنا المهني في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة، ومن أبرزهم الأخ الراحل توفيق جاويش (يرحمه الله تعالى) الذي تعلمنا منه، دون أن ندري آنذاك، أهمية صحافة "الدردشة" الاجتماعية قبل أن نعكف على دراستها في الجامعات ونقرأها في كتب الصحافة والإعلام. وتعلمنا من الراحل توفيق جاويش أيضاً أن الصحافي لا بد أن يكون ذا علاقة واسعة، وصداقة طيبة، مع مصادره، وكذلك تعلمنا منه ضرورة أن يكون الصحافي ذا ذاكرة حافظة، لا يعتمد اعتماداً كلياً على أجهزة التسجيل والتدوين. كان يرحمه الله تعالى يحفظ أرقام هواتف مصادره عن ظهر قلب، وكان نقي السريرة، طيب القلب، نسأل الله تعالى له وللراحل عمر محمد الحسن (الكاهن) الرحمة والمغفرة. وجميل من ولاية الخرطوم مبادرتها في رعاية أسرة الراحل عمر الكاهن، وكذلك ينبغي أن تتدارس المؤسسات الصحافية السودانية كيفية تكريمه وتخليد ذكراه، لتفانيه في المهنة، وخدمته لوطنه أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، بإخلاصٍ وتفانٍ وتجردٍ، وإنكار ذات في خدمة مهنة المتاعب. وأقترح في هذا الصدد، أن يُنظم المجلس القومي للصحافة والمطبوعات برئاسة البروفسور علي محمد شمو، بالتعاون والتنسيق مع المؤسسات الصحافية التي عمل فيها الراحل عمر الكاهن، حفل تأبين يتضمن تخليد ذكراه، بجائزة صحافية تسمى باسمه في مجال الكتابة الصحافية في ما يُعرف بصحافة "الدردشة" الاجتماعية، ضمن الجوائز الصحافية السنوية التي ينظمها المجلس.
أخلص إلى أن الأخ الراحل عمر الكاهن، كان ودوداً متواضعاً، وكريماً سخياً، واجتماعياً رفيقاً. وعنده المعاملة ينبغي أن تكون بحسن الخلق، ولين الجانب ورقة التعامل، ولا يُعادي أحداً، لأنه كان يعلم أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور، وكأنه في ذلك يستذكر قول الله تعالى: "كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ". وقول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحسين، المعروف بالمتنبئ:
ومُراد النفوس أصغر من أن   نتعادى فيه وأن نتفانى
غبر أن الفتى يُلاقي المنايا     كالحاتٍ ولا يُلاقي الهوانا
وختاماً أسأل الله تعالى أن يتقبَّل فقيدنا الأستاذ عمر محمد الحسن (الكاهن) الذي عاش متواضعاً، ورفيقاً، ومحباً، ومحبوباً من رسلائه ومعارفه كافة، قبولاً طيباً حسناً ويلهم ذويه وأصدقاءه ومعارفه الصبر والسلوان. "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّه كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".


Imam Imam [imam@asharqalawsat.com]

 

آراء