عملية يوليو الكبرى (9): الفصل الأخير في حياة القائد الوطني (2)

 


 

 

هذا ما جرى في الضفة الأخرى...
عرض/ محمد علي خوجلي
khogali17@yahoo.com
عرضت في الحلقة السابقة اعتقال عبدالخالق في ابريل 1970م وتوثيق السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي في يناير 1996م من حيث معرفتها لنوايا السلطة المايوية لتعطيل دوره القيادي وتصفية دوره الفكري أو تصفيته جسدياً. كما أبرزت الموقف القوي لقيادات الحزب بالخرطوم (المديرية) من خلال بيانها الذي أكدت فيه أن الاعتقال عمل موجه ضد الحزب.. موازياً لبيان مركز الحزب الضعيف بأثر هيمنة الشيوعيين المايويين على اللجنة المركزية والذي (ناشد) السلطة (إعادة النظر) في قرارها..
وتضمن العرض ظروف اعتقال عبدالخالق في نوفمبر 1970م وتحويل اعتقاله من السجن الحربي الى مصنع الذخيرة وقرار الحزب بتحريره من معتقله وخطة التحرير وتنفيذ الخطة عن طريق العسكريين الشيوعيين وعملية التحرير مساء الاربعاء 29 يونيو 1971م وفشل المركز في توفير أماكن لاختفاء عبدالخالق بعد تحريره مباشرة وحتى يوم 9 يوليو 1971م.
وفي هذه الحلقة أعرض ما جرى في الضفة الأخرى, ضفة السلطة من بعد عملية التحرير مشيراً الى أن مركز الحزب محيط بهذه الوقائع وغيرها منذ سنين عدداً..
أول ما جرى
عقد مجلس قيادة الثورة اجتماعاً طارئاً يوم 30 يونيو 1971م ناقش فيه التقرير المقدم من اللواء خالد حسن عباس وزير الدفاع بخصوص (هروب عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي المنحل من معسكر الذخيرة بالشجرة) وحضر الاجتماع معاوية ابراهيم سورج (من قيادات الشيوعيين المايويين) فماذا دار في ذلك الاجتماع؟
خالد: الهروب الكبير
أفاد خالد حسن عباس الاجتماع بأن عبدالخالق محجوب تمكن من التأثير على بعض الصف والجنود, وعلى رأسهم العريف عثمان عبدالقادر. وتم تهريبه بمساعدة من خارج المعسكر من أفراد الحزب الشيوعي المنحل. ساعدهم في ذلك الغبار الكثيف الذي شهدته العاصمة ليلة الاربعاء 29 يونيو. وان الأمر في غاية الخطورة لما يسببه عبدالخالق من خطر على ثورة مايو. وأعلن عن بداية اجراء تحقيق موسع لمعرفة الظروف التي أحاطت بهذا الهروب الكبير.
نميري: هذه مصيبة كبيرة
وقال اللواء جعفر نميري ان ما حدث هو مصيبة كبيرة. وانه يجب تسخير كل امكانيات الدولة للقبض على المجرم (عبدالخالق) وان هذه هي مسئولية قيادة الشرطة التي عليها إحضاره في مدى اسبوع ان لم يكن قد غادر البلاد.

معاوية: اعتقال الشيوعيين
أوضح معاوية سورج ان هناك خيوطاً للوصول لهذا المجرم. وانه كان قد طلب عند انعقاد المؤتمر التداولي "في اغسطس 1970م " اعتقال عبدالخالق ولم يتم ذلك. وانه يجب ان تقوم أجهزة الأمن باعتقال الشيوعيين في القائمتين (وضع القائمتين أمام المجلس).
وأضاف:
× صداقات عبدالخالق دائماً مع غير الشيوعيين وذكر أسماء منها: عبدالكريم ميرغني ابراهيم جبريل, محمد نور السيد ود. عبدالحليم محمد. وقدم مجموعة أسماء من حزبي الأمة والاتحادي يمكنها إخفاء عبدالخالق.
× من خلال عضويته بالحزب, فإن الحزب يعد دائماً منازل للاختفاء وانه يمكن الاتصال بالسيد عمر مصطفى المكي (زميل عبدالخالق في الاختفاء) كما يمكن الاستعانة بالسيد عبدالقادر تمساح الكدرو المسئول عن ضباط الصف والجنود والمقرب سابقاً لعبدالخالق محجوب.
أنظر: الوثيقة رقم A4 بتاريخ 9 يونيو 1971م (قبل ثلاثة اسابيع من اجتماع المجلس وعملية التحرير) من السفارة البريطانية بالخرطوم الى الخارجية البريطانية وادارة شمال افريقيا. ومن ما ورد في الفقرة (8) "ورغم اننا ملزمون بالتعامل مع وزارة الخارجية. فعلاقتنا العملية مع تلك الادارة أبعد ما تكون عن الرضا.. ويرى فاروق ابوعيسى (وزير الخارجية) ومعاوية ابراهيم (وزير العمل) ان النفوذ الشيوعي مهيمن في الوزارة (الخارجية) (وللمرة الثانية هناك اشاعات ان فاروق ابوعيسى سيعفى من الوزارة ويتجه الرهان حالياً الى منصور خالد).
نعود لاجتماع مجلس قيادة الثورة بعد تلك النظرة الخاطفة خارجه.
المجلس في هيئة لجنة
أكد نميري انه يجب على مجلس قيادة الثورة ان يكون في هيئة لجنة لاعتقال عبدالخالق وان اعتقاله هو خدمة لا تقدر بثمن لثورة مايو الاشتراكية.
تنوير الرأي العام
تحدث الرائد مأمون عوض ابوزيد (جهاز الأمن القومي) طالباً تنوير الرأي العام بما حدث واقترح ان يتلو البيان السيد زيادة ساتي مدير عام وزارة الداخلية.
البيان
أوضح زيادة ساتي ان البيان أمامه الآن. وتلى البيان:
"جاءنا البيان التالي من وزارة الداخلية
بهذا نعلن المواطنين الكرام بأن عبدالخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي المنحل قد تمكن من الهروب من معتقله الليلة البارحة بمساعدة العريف عثمان عبدالقادر والذي كان في الليلة المذكورة حكمداراً للمعتقل, والذي اختفى هو ايضاً بعد هروب عبدالخالق. لذا فاننا نهيب بالمواطنين الكرام أن يعاونوا قوات الأمن في البحث عن الهاربين"
(نشر البيان بجريدة الصحافة أول يوليو 1971م)
وعقد زيادة ساتي مؤتمراً صحفياً أوضح فيه ان قوات الشرطة في جميع أنحاء السودان تقوم بالبحث عن عبدالخالق, كما ان رقابة دقيقة قد فرضت على الموانيء والمطارات.
لجنة البحث عن عبدالخالق
شكل جعفر نميري لجنة لاحضار عبدالخالق من السادة:
1-زيادة ساتي رئيساً
2-عبدالوهاب ابراهيم مقرراً
3-خليفة كرار عضواً
4-كمال ابشر يسن الاستخبارات – عضواً
5-سيد المبارك جهاز الأمن – عضواً
6-معاوية ابراهيم عضواً
وتحولت وزارة الداخلية الى خلية نحل وكان البحث يتم من منزل الى آخر خاصة التي كان يتردد عليها عبدالخالق.
وعقد مجلس قيادة الثورة جلسة ثانية في اليوم التالي مباشرة 1/7 لمتابعة أمر هروب عبدالخالق والموقف من تنفيذ قرارات الاجتماع الأول.
عمر مصطفى المكي
قدم مأمون عوض ابوزيد أولى النتائج للاجتماع باتصاله بالسيد عمر مصطفى المكي وطرح له الموضوع إلا ان عمر رفض من حيث المبدأ الحديث في الموضوع وانه لا يمكن ان يشارك في مثل هذا العمل. وان الانقسام وجهة نظر ومن المستحيل التعاون في هذا الخصوص.
(عمر مصطفى المكي ، خريج جامعة الخرطوم كلية الاقتصاد ، كان سكرتيرا لرابطة الطلاب الشيوعيين واشتهر بخوض المبارزات الفكريه على مستوى جامعة الخرطوم وعلى المستوى العام. كان عضوا بالجمعيه التأسسيه عن دوائر الخريجين. نشر ذكرياته عن اختفائه بصحيفة الميدان (ست سنوات تحت الارض) وله عدة مؤلفات . وكان عضوا باللجنه المركزيه حتى انقسام 1970 وكان من قياداته الفكريه.
وبعد ثورة اكتوبر كان رئيسا لتحرير صحيفة الميدان لسان حال الحزب الشيوعي التي رفض قومسيارها نشر خبر وفاته عندما انتقل(!) وهذا من المفارقات. لم يلتحق بالاتحاد الاشتراكي المايوي ولا باجهزة النظام وهو من الفئه القليله من الذين انقسموا استنادا على موقف فكري وليس تامري ولا نستطيع القول انه من الشيوعيين المايويين).
عبدالقادر عباس تمساح
وأبلغ أحمد سليمان الاجتماع بالنتيجة الثانية وهي ان عبدالقادر رفض التعاون وأوضح انه لا صلة له بجماعة عبدالخالق وانه كان مسئولاً عن الصف والجنود ولكن صلته انقطعت بهذا الأمر ولم يعد يعرف شيئاً.

انظر: قوائم معاوية وأحمد سليمان
في هذا الاجتماع قدم معاوية سورج وأحمد سليمان قوائم لمنازل وهي لم تعد بالاشتراك بل قدم كل منهما قائمة بالمنازل التي يمكن ان يختفي فيها عبدالخالق فمن نتائج البحث انه تم تفتيش أكثر من ستين منزلاً دون الوصول الى نتيجة.
أنظر: تايني رولاند
الوثيقة رقم (20) بتاريخ 7 يوليو 1971م من القائم بالأعمال في الخرطوم الى الخارجية البريطانية وادارة شمال افريقيا "جزء مما تضمنته الفقرتين 2 و3":
(2)"الاجراءات الجديدة تكشف ان الحكومة تسعى (كما) أوضح السفير في رسالته بتاريخ 31 مايو 1971م لاحكام سيطرتها على مراكز المعارضة المتوقعة – تلقائياً – كانت هناك اعتقالات عديدة للشيوعيين وسمع وزير الارشاد القومي وهو يقول ان 45 من عدد اجمالي فوق المائة من ناس مطلوبين قد تم اعتقالهم".
"فيما أحاط نميري مستر رولاند المدير التنفيذي لشركة لونرو ان مئتين قد تم اعتقالهم ولم تعرف أسماء كل هؤلاء, ولكن معظمهم بالتقدير مسئولون حزبيون سياسيون وعمال".
وأضاف القائم بالأعمال:
"ويبدو ان نميري ومما قاله لرولاند شقوفا بالتأكيد للغرب انه يعني ما يقول في ما يختص بالتعامل مع الشيوعيين".
(3)"على النهاية الأخرى من الخط تمت احالة ستة من كبار ضباط الجيش للمعاش بزعم عدم الكفاءة. وكل هؤلاء رجال في رتب أعلى من أعضاء مجلس قيادة الثورة وقت قيام الثورة.
ومن المدهش ان من بين هؤلاء الضباط قائد الجنوب اللواء مبارك رحمة الذي ترك انطباعاً جيداً على كل من قابله. ومن الواضحين بشأن مشكلة الجنوب. وبقدر المعروف عنهم فجميع هؤلاء الضباط يمينيون أو محايدون وبذلك تبدو الاعفاءات بهدف ازالة كل بؤر السخط واحلال ضباط شباب اكثر تحفزاً سياسياً مكانهم.
الفشل لا يمنع مواصلة البحث
واصلت قيادة الدولة السودانية متابعة البحث عن عبدالخالق بعد خروجه من معتقله بمعسكر الذخيرة بالخرطوم. وكان اجتماع مجلس قيادة الثورة يوم 14 يوليو 1971م والذي حضره أعضاء لجنة التحقيق هو آخر الاجتماعات قبل عملية 19 يوليو الكبرى وبالطبع كان موضوع الاجتماع الوحيد التعرف على سير التحقيق ونتائجه.
وقدم الرائد/ ابوالقاسم هاشم وزير الداخلية تقريراً أوضح فيه:
1-ان اللجان المشتركة من الشرطة والمباحث والأمن القومي والاستخبارات العسكرية وآخرين بذلت جهوداً مكثفة خلال الفترة الماضية للعثور على عبدالخالق.
2-تم تمشيط أحياء بأكملها: الخرطوم (3) بري, الحلفايا, وبانت وكان التفتيش دقيقاً رغم ذلك لم يتم العثور على المطلوب ولا أعضاء اللجنة المركزية الذين اختفوا.
3-جملة المنازل والمكاتب التي جرى تفتيشها بلغت خمسة وسبعين موقعاً, قدمها شيوعيون أو غيرهم شملت منازل زعماء أحزاب وسياسيين وأصدقاء لعبدالخالق.
وختم حديثه بأن فشل كل تلك الجهود لا يمنع من مواصلة البحث حتى الوصول الى عبدالخالق.
نميري ومعاوية
أوضح الرائد مأمون عوض ابوزيد بأنه قام بتكرار المحاولة مع عمر مصطفى وعبدالقادر تمساح وامتنعا عن التعاون.
معاوية: سيادة الرئيس, عبدالقادر لديه اتصالات مع عبدالخالق, وأعلم ان عبدالخالق يريد إعادته للحزب بأي طريقة.
نميري: وما دورك أنت يامعاوية. أنت تعرف مكان اختفاء الشيوعيين ومنازل الاختفاء. أنزل أنت للمعركة وآت لنا بعبدالخالق.
معاوية: منازل الاختفاء التي أعرفها أرشدت اليها. كما ان الشيوعيين الموالين لمايو لم يقصروا وقدموا ما يعرفون من كوادر قيادية ووسيطة ولا زلنا نبحث ولا زلنا نبحث.
التطهير والفصل من الخدمة
تحدث اللواء عبدالوهاب ابراهيم عن ضرورة اعتقال النشطاء وهم بالعشرات لتضييق الخناق على عبدالخالق كما أنه من المهم تجفيف مالية الحزب حيث أوضح الأخوين معاوية وأحمد سليمان ان هناك ممولين للحزب. واقترح اتخاذ اجراءات لحجز اموالهم وممتلكاتهم مثل حامد الأنصاري والمسئول المالي للحزب فوراً.
(وافق نميري ووجه الرائد مأمون باتخاذ الاجراءات اللازمة)
وذكر أحمد سليمان ان عدم تطهير اجهزة الدولة خطأ كبير ويجب ان يشمل الموالين لعبدالخالق.
المكان الطبيعي للاحتجاز هو السجن
ذكر السيد زيادة ساتي انه سبق ان أوضح لوزير الداخلية السابق (فاروق حمدالله) ان المكان الطبيعي للاحتجاز هو السجن لا حراسات الأمن وثكنات القوات المسلحة. وأبلغ أن أحد أشقاء عبدالخالق حضر اليه معبراً عن قلقه وشعوره بالخوف على مصير شقيقه من الاغتيال بالسم أو محاولة نقله خارج الخرطوم وانه رد عليه ان عبدالخالق في حراسة القوات المسلحة وسأله شقيق عبدالخالق: هل الحراسة مسئولية القوات المسلحة أم الشرطة؟ وجدد ساتي طلبه بتحويل كل المعتقلين الى السجون دون ان يمنع ذلك التحقيق معهم في أي مكان. وأنه اذا كان عبدالخالق بسجن كوبر كان الأمر سيكون مختلفاً, وما كانت ستكون هناك حاجة لكل ما جرى.
توجيهات نميري:
1-على الرائد/ مأمون ارسال كل المعتقلين الى السجن وعدم إبقاء أي أحد في حراسات الأمن.
2-اعتقال الكوادر الوسيطة والقاعدية للحزب الشيوعي.
3-على جهاز الأمن إعداد كشوفات بالعاملين الشيوعيين ورفع قوائم بهم الى مجلس قيادة الثورة.
4-يجب ألا يقتصر البحث على الخرطوم وان يوضع في الحسبان امكانية هروب عبدالخالق عبر الحدود الشرقية لخارج السودان.
ومن فوائد التوثيق
ان انقسام 1970م الكبير شاركت السلطة المايوية في تنظيمه ووظفت نتائجه لترسيخ سلطتها, وإلا لما طلب معاوية اعتقال عبدالخالق قبل المؤتمر التداولي للحزب الشيوعي في اغسطس 1970م وهناك وقائع ممتدة منذ يوم 25 مايو 1969م تشير الى ذلك سنأتي اليها لاحقاً.
وأهم النتائج أن (مشروع تصفية الحزب) قد يتخذ له غطاء (فكرياً) بهدف تعميق التصفية وكان الغطاء الفكري وقتها مؤثراً عند النظر لموقف (الشيوعية الدولية) والاتحاد السوفيتي (السابق) وحزبه المهيمن من القضايا الوطنية في الدول النامية (دول العالم الثالث) وبالذات ما يتعلق بالسلطة السياسية واستقلالية الأحزاب الشيوعية الوطنية.
وفي السودان دعمت الشيوعية الدولية السلطة المايوية. وكان للاتحاد السوفيتي السابق أثره الفكري في الخلافات في الحزب الشيوعي السوداني. وموضوع العوامل الخارجية في خلافات الحزب هو موضوع يجب التوثيق فيه والتعلم منه. والوقائع أكدت ان اتجاه نميري نحو الغرب لم يكن بأثر عملية يوليو الكبرى, بل قبل ذلك بكثير وجاءت العملية لتقوية الاتجاه.
وعلى الرغم من ان معظم الشيوعيين المايويين أخذوا مواقعهم في أجهزة الدولة ومنها الأجهزة الأمنية وعملوا باخلاص على ضرب رفاقهم القدامى إلا اننا نلاحظ:
-قيادات وكوادر انقسمت بسبب مسائل فكرية وكانت صادقة وأما الاغلبية فهم من المتآمرين.
-وان القيادات الشرطية والأمنية في ذلك الوقت تحديداً أدت واجباتها بمهنية واستقامة وهو ما في علمنا حتى الآن ويستطيع الأستاذ عبدالقادر عباس تأكيد أو نفى هذه النتيجة في ذلك الوقت.
ونواصل في الحلقة (10) محاولات عبدالخالق للتوارى عن الأنظار لاستكمال واجباته القيادية فيما عبر عنه بالتدوين للحزب.. والقبض عليه ثم ننظر الى ما جرى في الضفة الأخرى.


الاحد 2 اكتوبر 2016

 

آراء