تتأكد صحة موقفنا المطالب بإلحاح، بدولة مدنية ديمقراطية في السودان، وذلك لضمان المواطنة المتساوية والحقوق المتساوية للسكان المتنوعين ثقافياً وسياسياً، ونزيد إصراراً على سلامة موقفنا هذا عندما تشهد بلادنا في كل يوم أزمات بسبب مواقف رسمية تتجاهل التنوع والاختلاف الثقافي والسياسي، بل يتم في أحيان كثيرة ممارسة قمع وعنف مفرط لتحجيم هذا الاختلاف، بل ونسفه عبر قوانين غير عادلة أو إرهاب اجتماعي أو بدواعي أخلاقية ذات معايير غير منصفة تخص ثقافة معينة أو جماعات سكانية ذات أعراف اجتماعية محددة.
قبل أيام انتشر فيديو تداولته الوسائط الاعلامية لشباب سودانيين يرقصون رقص أفريقي معروف ومنتشر بين شعوب أفريقيا، ولكن هناك من وصفه بالرقص "الخليع"، في حين طالب بعض الرافضين العقلاء أمثال الصحفي ضياء الدين بلال، بإجراء البحوث والدراسات لمعرفة أسباب انتشار مثل هذه "الظواهر" كما أسماها! وهي دعوة منطقية ومقبولة ومطلوبة في كافة المجالات، على أن تكون علمية وشاملة بحيث تصب في مصلحة التنوع الاجتماعي والثقافي لا أن تستخدم في مزيد من القمع والمنع.
لا أعرف كيف يمكن للمعيار الأخلاقي لدى بعض الناس أن يصبح جبرياً وملزماً لآخرين بل ويعرضهم حين مخالفته للمحاكمة والمحاسبة القانونية! ففي الوقت الذي تكون فيه بعض الرقصات والأغنيات والممارسات مقبولة بل ويروج لها بشكل رسمي وعلني، تكون هناك رقصات وأغنيات وممارسات ممنوعة ومرفوضة بالقانون، فالرقص بالسيف مثلاً يعد من الرقصات الرائجة في شرق السودان، ورقصة (العرضة) منتشرة في وسط وشمال السودان، كما أن هناك الرقص بالسوط أو ما يسمى (البُطان)، وفيه يقوم المحتفى به بجلد أصدقائه وأقاربه على ظهورهم العارية، ولا يفوتنا أن نذكر رقصات مختلفة في دارفور وكردفان وجبال النوبة تستخدم فيها الطبول والآلات الموسيقية الخشبية؛ أما عن الممارسات والعادات فنذكر على سبيل المثال لا الحصر (الشلوخ) التي لا تُعد جريمة حتى يوم الناس هذا، وحمل السلاح الأبيض أو حمل العصا المُدببة، أو لبس الأحذية أو الملابس من جلود الحيوانات، وهذه كلها ممارسات وثقافات تخص قبائل ومجموعات بعينها تقطن في نفس الرقعة الجغرافية المسماة السودان ولا ينظر لها باستهجان! هذا الثراء الثقافي والتنوع الفني يُعد كثير منه مصدراً للاحتفاء لا للاستهزاء مع أن بعضه مجرَّم دولياً( مثل الأحذية المصنوعة من جلود النمر)، وبعض الدول والمجتمعات تتمنى لو أنها تملك مثل هذه الثروة الثقافية، بل تُقيم الاحتفالات والمهرجانات لتشجيع مجتمعاتها لتنمية وتطوير ثقافاتها والمحافظة عليها من الاندثار. وحريٌ بنا هنا أن نذكر أنه في نهاية ستينيات القرن الماضي دخلت جامعة الخرطوم في موجة عنف ضارية سببها بعض الإسلاميين من أمثال البروفيسور عبدالرحيم علي، احتجاجاً على رقصة تراثية تسمى (العجكو)، حدث ذلك أثناء احتفالات في الجامعة هدف القائمون عليها للاحتفاء بالتنوع الثقافي والفني في السودان، وللمفارقة أنني وقبل أشهر حضرت مناسبة اجتماعية، قُدِّمت فيها نفس الرقصة- العجكو- أمام جمع بينهم إسلاميين عُتاة، بل إن بعضهم انتشى وطرب لدرجة المشاركة في الرقص، حتى أنني علقت ساخراً لأحد أصدقائي مُذكراً إياه بحادثة جامعة الخرطوم قبل عقود، وكيف يمكن أن يحدث تحولاً عجيباً في طريقة تفكير البعض، مع أن التراث والفنون والثقافات الأصيلة والحميدة صمدت واستمرت بالرغم من الحرب الشعواء التي تُثار عليها بين حين وآخر.
وأعود لأقول ربما يرى البعض أن رقص هؤلاء الشباب مستهجناً لأن فيه إيحاءات جنسية أو التصاق بالأجساد، ولكنهم يغضون الطرف عن الدماء التي تسيل من الظهور في الأعراس والمناسبات بل ويرونها مصدراً للفخر والتباهي، فما الذي جعل هذا مظهراً لخدش الشعور العام، ويجعل ذلك الآخر مصدراً للفخر؟! إن معيار الرضا والقبول يغيب عن ذهن هؤلاء كما يغيب معيار التنوع والاختلاف الثقافي، ويتم تجاهل المسؤولية الشخصية للأفراد وسلوكهم وتصرفاتهم وعلاقاتهم كالصداقة الزمالة، ويتحكر في أذهان البعض معيار فرويدي مقيم كلما اجتمع شباب من الجنسين، فالجنس والعلاقات الجنسية في عرف هؤلاء حكماً مقضيا إن اجتمعت بنت مع ولد في مكان واحد خصوصاً إن كانت لا تربطهما صلات دم، وتصبح المحاسبة بالنوايا هي السمة الغالبة والمسيطرة وتحت سمع وبصر القوانين والتشريعات، أما إن اجتمع شباب من الجنسين في مكان مغلق فهذه هي الكارثة بعينها، فإقامة علاقة جنسية يكون قضاء وقدراً وأمر لا مفر منه، والذي حدث للأستاذة ويني عمر ومياس وسراج ومهند خير مثال على الاختلال الذي يتضمنه القانون، والعوار وسوء المقاصد لمنفذيه، حيث يتأرجح سوء القصد بين التربُّص والابتزاز والفتونة وإظهار القوة! إننا عندما ننادي بتغيير القوانين المعيبة خصوصاً في القانون الجنائي ووليده المشوَّه (قانون النظام العام)، فإن دعواتنا ليست من أجل إشاعة الانحلال والفجور كما تدَّعي بعض الجهات، وإنما هدفها المعلن هو تبني قوانين واضحة اللغة وشفافة المقاصد ودقيقة في تعريفاتها، تراعي التنوع وتحترم المواطنين وثقافاتهم دون تمييز، وإن واتت الجهات المشرعة بعض الشجاعة فإن الأذى الجسدي بأي شكل يمكن أن يدخل في باب الممنوع بالقانون، والرضا بأي شكل يمكن أن يكون مستوى من مستويات التكييف التشريعي.
إن القانون الجنائي لعام 1991 لم يشر بأي شكل من الأشكال لمسألة التحرُّش الجنسي إلا قبل سنوات قليلة، مع أنها ممارسة تدخل في باب الحركات الجنسية الفجة كما يمثل عدم القبول مرتكزاً أساسياً فيها، ومن سخرية الأقدار أن هذا القانون كان حريصاً على إدراج مواد تُجرِّم اجتماع أشخاص من الجنسين في مكان واحد خصوصاً إن كان مغلق، بل إن قانون النظام العام كان في وقت من الأوقات يُجرِّم الناس وهم يسيرون في الطرقات، وكثيراً ما سمعنا عن توقيف شاب وفتاة في الطريق العام واقتيادهما للشرطة بسبب جلوسهما سوياً أو سيرهما في الشارع العام وحدهما، والمفارقة أن منفذ القانون يكتشف في بعض الحالات أن هذان الشخصان شاب وأخته، أو زوج وزوجته، أو أم وولدها، أو أب وابنته، في حين أن الخطيب والخطيبة- كونهما لا يملكان ما يثبت العلاقة- ربما يتعرضان لما لا يحمد عقباه، وقد كان هذا من الأمور التي تجعل مشاعرك مختلطة ما بين الحاجة للبكاء والضحك!
إننا في خضم التطورات الحضارية الكبيرة التي تنتظم المجتمعات والشعوب من حولنا، وفي ظل حاجتنا الملحة للوحدة الوطنية ولم شمل السودانيين بمختلف قبائلهم وثقافاتهم، لسنا في حاجة لقوانين رادعة كيفما اتفق، بل نحن أحوج لقوانين عادلة تحقق المساواة بين الناس، ولا تستخدم لأغراض ذاتية أو بغرض الابتزاز أو تفتح الباب للانتقام والتهديد، قوانين تهدف للإصلاح لا للعقاب في ذاته، وقد قلت في مكان آخر إن المساواة أمام القانون عامل قوي للطمأنينة وتصدير الشعور بالمواطنة والمصير المشترك بين الشعوب والمجتمعات، فإن شعر شخص بأن القوانين وتطبيقاتها ستسلبه حقاً وتعطيه لآخر، ستتراجع روح الوطنية، وسيقل الإحساس بالمصير المشترك بينه وآخرين؛ كيف يكون هناك مصيراً مشتركاً وثمة طريقان أحدهما متهدم ووعر، والآخر معبد وسهل الاجتياز؟!