عندما “يلاوي” البرق السحابة

 


 

 

 

 

٧/٧ يوم ليس كبقية أيام السنة ، في عرف المزارع التقليدي في القضارف ، فهو بمواقيت الزراعة اليوم الأول في "عينة" الضراع ، أول "عين" فصل الخريف السبع : النترة، الطَرفة، الجبهة، الخيرسان، الصرفة ، العِوا .

والعين بكسر العين تعني المنازل ، إذ تتوزع السنة الميلادية إلى ٢٨ عينة ، بواقع ١٣ يوما لكل منها ، عدا واحدة (الجبهة) تمتد ل 14 يوما ، ليصبح حاصل ضربها عاما بالتمام والكمال .
وتحظى عين الخريف باهتمام المزارع ، ويتتبع مواقيت دخولها من الثقاة الراصدين العارفين بمسار ومواقع النجوم ، أكثر من تتبعه للنشرة الجوية اليومية .. وبدخولها يشمر عن ساعد الجد باكرا ممنيا النفس بحصاد وافر وفي باله الحكمة الخالدة لفيلسوف زمانه الشيخ فرح ود تكتوك :

يا إيـد الـبدري .. قـــــومـي بـدري
اتوضـي بـدري .. صـلى بـــــــدري
أزرعـــي بـدري .. حـشـــي بـدري
أحصدي بدري . .شوفي كان تنقدري

"يكرب زنده" ، لفلاحة أرضه الطيبة الطيعة الصالحة لانبات كل بذرة قابلة للنمو ، وكأنه يتمثل أبيات الشاعر الراحل عثمان وقيع الله الذي عنده حرمة الأرض كالعرض :
.. والأرض البكر تريد الزند
و أرضك بكر لم تمسسها يد
أرضك طيعة مثل الصلصال
أرض لو لقـّحها منكم رجل يوما
لأنبتت الأطفال
•••••
تصبح هذه المنازل للمزارع ، بمثابة "خارطة طريق" ، يهتدي بها في زراعة محاصيله حتى حصادها .. على ضوء نجومها البعيدة وبروقها الواعدة وعلى صوت رعودها الداوية ، يحدد متى يزرع السمسم " البلية والحريحري وضنب الجمل ..." ومتى يرمي بذور الذرة بأصنافها المتعددة "الكوركولو - أرفع قدمك - عجب سيدو - المقد - الدبر - الصفراء - رأس القرد - العريانة ..." ، وإن انحسرت في السنوات الأخيرة مساحات الأصناف التي تحتاج لأمطار غزيرة وتعطي محصول أوفر .. وقد تستعيد هذه الأصناف مستقبلا مساحاتها السابقة إن صدقت التنبؤات التي تقول إن من ضمن فوائد سد النهضة الكثيرة للسودان، وغير المرئية الآن ، زيادة معدل الأمطار في المناطق المتاخمة لإثيوبيا وبالتالي تعديل تركيبة المحاصيل الزراعية فيها .. وقد يستعيد معها
" المقد " مجده السابق الذي جعل مزارعا متلافا للمال يصك مقولة حفظتها الذاكرة المحلية " أنا أقدد والمقد يسدد".
•••
يستوي الزرع على سوقه ، فيمسك المزارع ب "ملوده" أو " طوريته " ليتعهده بالنظافة
" الكديب" وهو يتابع كل مراحل نموه إلى أن تعانق المناجل السنابل "شوكة ، ورتابة ، ورتابتين ، لتيبة ، زمبارة ، قندول، شراية ، لبنة ، فريك ".
يعرف متى تفتح أرضه " البادوبة " مسامها حتى ترتوي فتصبح طيعة ل " الحرت ".. ومتى "تكرب" أو تصبح " دلجة " صماء ومجرد معبر للمياه إلى الخيران والوديان ، لا تأخذ منها شيئا وإن كانت عطشى في الظاهر ، فلكل شيء مواقيت

يتنبأ بموعد سقوط الأمطار على مدار اليوم في كل عينة .. "الضحوي والضهري والسارية " .. بعبارات أخرى يتوقع متى تمطر صباحا ومتى تهمي ظهرا ومتى تسح ليلا .. ومتى تواصل هطولها لأيام بدون انقطاع وتحديدا في عينة "الطرفة البكاية " التي حاكاها الشاعر المجيد إسماعيل حسن - البعيد عنه جغرافيا القريب منه وجدانيا - في رائعته " وا .. أسفاي " قبل أن يلوح له بريق البسمة وتتفتح مشاتل الريد :
عشان ما تبكي
ببكي أنا
وأحاكي الطرفة
في نص الخريف بكاي
•••••
يقرأ بمقياس دقيق - قل أن يخيب - معدل الأمطار في المنازل المبكرة .. فيستبين قبل ضحى "الدرت" نجاح موسمه من عدمه .
يغرس عصاه في الأرض وعلى قدر انغراسها في عمق التربة ، يبني تقديراته لحصاده في نهاية الخريف .
لا تنتظم سحائب نهاية الموسم كل "البلدات "، فيقابل ذلك برضا وتسليم تامين بأنه "مطر البخات"، وكله أمل في أن تتسع دائرة "البخت " في المرة القادمة ، سائلا باسط النعم الري لزرعه ، سؤال الحاردلو - في مسدار الصيد - السقيا لظبائه :
تعرف لي مشاهيد الرقاد والفرة
فلاخ المصب بيه بتبين تتورى
فوق حيا فوق محل من الصعيد منجرة
ويا باسط النعم تسقيها في ها المرة

•••••
وإن كان المزارع يهتم بمواقيت دخول هذه العين وهو يمني النفس بموسم ناجح ومحصول وافر ، فان الشاعر ود شوراني أحد أضلاع مثلث الدوبيت في البطانة بجانب الحاردلو والصادق ود آمنة ، وصاحب "مسدار النجوم" الذي يغطي العين ال ٢٨ ، يترقب هذه المواقيت لتأتيه بأخبار وأحوال ملهمته :

دعاش برق الضراع الفي السحابة يلاوي
جــــــاب لى ريحة من اللي أذاي بتداوي
كان ما الحب صعب من الكبـــــــار وبلاوي
ما فيش داعي بعد الشيب أكون لها راوي

وإن اشتهرت من مسدار النجوم ، رباعية "النطح " التي تؤرخ لبداية فصل الصيف ، وتبين كيف أن نظرة عابرة يمكن أن تفتح انسداد مجرى الغناء، فإن المسدار ذاته حوى رباعيات أخرى لا تقل عنها جمالا وروعة ، ودونك رباعية "الهكعة" خامس منازل الصيف ، التي تخبرنا بما فعل جمال ودلال الشباب في من علاه المشيب :

برق الهكعة رف ولاح وفك رياحو
ذكرني البفوق دهب البراتي سماحو
الخلاني أقيم الليل ملاقي صباحو
بعد الشيب خفيف الروح جرحني سلاحو

لا يكتمل الحديث عن مسدار النجوم والدوران في فلك ود شوراني ، ما لم نتوقف عند رباعية "الغفر" ثاني منازل الشتاء ، التي يفتق نسيمها القادم من ديار ست ريده جرحا يأبي أن يندمل :
دخل نفس الغفر سارق نسيمو هبيب
جاي يعور الجرح القبيل مو طيب
لجت عيني حار بي الدليل يا مصيب
من اللدعج الفوق ريدو أصحى وأغيب

abahmed2001@hotmail.com

 

آراء