عن البابا والخليفة والإمام
د. عبد الوهاب الأفندي
18 March, 2013
18 March, 2013
(1)
طرحت متابعة عملية انتخاب بابا الفاتيكان الجديد خلال هذا الأسبوع دواع كثيرة للتأمل في الشأن الديني، بما أظهرته من تجليات مدهشة للسلطة الدينية المؤسسية التي تصنع –وتصطنع- أمام أنظار الجميع (عبر الانتخاب والتمحيص، وعبر هتاف وصلوات المتجمهرين في ميدان القديس بطرس، وعبر طقوس مؤسسية راسخة)، ثم ترفع تلقائياً إلى مصاف القداسة والعصمة. ما هي المسافة التي تفصل بين أستاذ اللاهوت (وفي حالتنا الراهنة، المنهدس الكيميائي) وشاغل كرسي القديس بطرس، مجسد سلطة السماء في الأرض؟
(2)
دار سجال طويل لم يخل من عنف في فجر الحداثة الأوروبية، وخاصة بعد عصر "التنوير"، عن مصدر السلطة الدينية وموقعها في المجتمع. وقد مال الرأي إلى أن الأديان هي من صنع البشر، ومن نتاج أوهامهم من جهة، وعذاباتهم من جهة أخرى. فالناس يصورون آلهة تشبههم، ويصنعون بايديهم أصناماً ثم يخرون لها ساجدين.
(3)
القرآن يذكرنا أيضاً بأن معظم العقائد والطقوس الدينية هي من اصطناع البشر ("إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان")، أو تحريفات لصحيح الدين من واقع البغي والأهواء. فهناك خطر دائم وماثل بأن يتحول الناس إلى عبادة الذات والأهواء، وتسمية ذلك ديناً. ويتجلي ذلك الخطر في أبرز صوره في النزاعات الطائفية التي يستخدم فيها الدين ستاراً لأهواء الزعامة ومصالح الفئات الضيقة والنزعات الشوفينية والعنصرية.
(4)
بينما أنا غارق في هذه التأملات، وصلت إلى بريدي الالكتروني رسالة من " صاحب العصر والزمان، مقيم العدل والإيمان، المهدي الإمام الثاني عشر من أئمة أهل البيت أجمعين"، أو بالأحرى من عادل هزيمة "نائبه وسفيره خاطط هذه الرسالة بعد أن نصّها وأملاها إمامي". وتذكرنا الرسالة بأن الإمام الغائب قد عاد من الغيبة منذ ثلاث سنوات، وعين لنفسه نواباً في سائر أرجاء العالم، وأن علينا إعلان الطاعة له والامتثال لأوامره عبر نوابه، وإلا وقع علينا عقاب سماوي عاجل.
(5)
بغض النظر عن رأينا في الرسالة وكاتبها فإنها تطرح الإشكال الديني من نفس الزاوية: إذ كيف يمكننا أن نحكم على صحة هذه الدعوى؟ ألم يكذب الرسل من قبل ويتآمر الغالبية على قتلهم أو صلبهم أو إخراجهم من ديارهم؟ فهل إذا ظهر المهدي هذه الأيام أو المسيح المنتظر سيضطر لمراسلة العباد بالبريد الالكتروني وتكون له صفحة على الفيسبوك، ويدخل في جدال مع مخالفيه كما يفعل صاحب هذه الرسالة؟ وهل سيتنازل له الرؤساء عن سلطانهم، أم سيعلنون الحرب عليه باعتباره كذاباً أشر؟
(6)
الطريف في رسالة صاحبنا أنه يتحدث عن الشيعة هنا والسنة هناك، وعن الدول المختلفة وقيادات الاحزاب والفئات، مع ان المهدي المنتظر لا ينبغي أن يعترف بمثل هذه التقسيمات أو يعبأ بها. ولكن هذه إشارة مهمة إلى هيمنة هذه التقسيمات على العقول والنفوس، وميل التجمعات القائمة عليها للدفاع عن وجودها كما يدافع الكائن الحي عن وجوده وكيانه. ولهذا ترفض أي دعوة جديدة تقوض هذا الكيان. فلو أجاب اليهود دعوة عيسى عليه السلام لما بقي هناك كيان يهودي، وكذلك لو أسلم المسيحيون.
(7)
نفس الأمر يمكن أن يقال عن التصدعات الطائفية التي تقسم العباد شيعاً، كل حزب بما لديهم فرحون. فدين الطائفيين هو عبادة الذات ممثلة في الطائفة، حتى وإن خالفوا في ذلك الديانة التي يعلنون. ولو جاء هؤلاء المهدي المنتظر أو مبعوث إلهي آخر بغير ما هم عليه من تخندق لما استجابوا له، ولكانوا أول من يكذبه ويحاربه. وقد نعى القرآن على بعض أهل الكتاب لأنهم كانوا يستفتحون بالنبي ويبشرون به، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. وذلك شأن كل عباد الطائفية.
(8)
الأصل في صحيح الدين هو نكران الذات والتجرد من مصلحة النفس والعشيرة والفئة، والدوران مع الحق حيثما دار، وأن يكون الناس شهداء لله قوامين بالقسط ولو على أنفسهم أو الوالدين والأقربين. ولعل المفارقة أن بعض المتدينين يكونون أبعد من غيرهم عن هذه الأخلاق الإيمانية، فيصدق فيهم فوله تعالى: قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين.
(9)
على سبيل المثال نجد المتشددين من متديني اليهود أشد قسوة وميلاً للظلم من الملحدين واليساريين بين الصهاينة، والأمر نفسه يصدق على معظم طوائف المتدينين في أمريكا. ولكن بالمقابل نجد قيادات الكنيسة الانجليكانية في بريطانيا أقرب إلى العطف على الفقراء والمساكين والأجانب من غير المتدينين.
(10)
للتدين آفات كثيرة، من أبرزها التنطع، والإنشغال بالجزئيات عن الكليات، والإيمان ببعض الكتاب وترك بعضه، في حين أن الدين كل متكامل. على سبيل المثال نجد الكنيسة الكاثوليكية تحرم على قساوستها الزواج تنطعاً وأخذاً بالعزائم، ولكن انكشف مؤخراً أن كثيراً من هؤلاء القساوسة ضالعون في الاعتداء الجنسي على القصر. وهكذا يعف هؤلاء عما أحل الله ويقعون في شر ما حرم. ونظير ذلك متنطعون كثر من المسلمين يجتهدون في مظاهر مثل إعفاء اللحى وتقصير الثياب وكثرة غشيان المساجد، ثم يظلمون الناس ويستحلون أموالهم ويقعون في أعراضهم.
(11)
البعض يرى أن تسمية شخص خليفة أو إماماً وفقيهاً ولياً أو تصيبه كاهناً يجعل منه بمجرد هذه التسمية من الملائكة المقربين. ولكن ما الفائدة إذا كان الخليفة يتصرف كفرعون، والإمام الفقيه ينافس يزيد في جرأته على الظلم ويناصر من يخجل يزيد من مثل فعلهم، وإذا كان القس يتخذ من بيوت الله أوكاراً للرذيلة وإفساد الصغار لا إصلاحهم؟ الأمر يحتاج إلى مراجعات كثيرة، لأن هذه التناقضات لا يمكن ان تكون كلها مصادفات أو طوارئ.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]