(170هـ - 218هـ) مقدمة: قد ينهض سؤال للقارئ أو القارئة في حاجة لإجابة: لماذا نهتّم بتاريخ العرب والمستعربين؟ وللإجابة على ذلك، يتعين أن ننتبه أن لدينا مُشتركات بين شعوب المنطقة ولغة العرب الفصيحة وعاميّات المُستعربين الفصيحة، التي تملأ رقعة الأوطان الشاسعة. كانت الأرض قبل تكوّن البحر الأحمر، رقعة يابسة واحدة. اعتادتها للمعيشة أقوام ومِلل ونِحل. قال الدكتور "محمد الواثق" في لقاء تلفزيوني: (إن اللغة العربية الفُصحى ولغة أهل البطانة، تنحدران من أم واحدة، ويجري البحث العلمي الدقيق لمراجعة تلك الفرضية). لدينا مُشتركات بين ناطقي تلك اللغات العامّية المتنوعة، التي انتشرت في بطون بلاد المستعربين والعرب. فلا أحد اليوم ينطق العربية الفصحى، ولكن مفرداتها تسكُن تلك اللّغات العامَية التي التي ترتبط بتلك اللّغة. من هنا تستصرخنا تلك القصص التاريخية لنستبيّن عِبرها. الحيثيات التاريخية و الدسائس ومكر الناس، والاستعباد والقتل الجزافي، والحياة وتناقضاتها، ما شجر منها وما تآلف. وانتزاع ما يخصنا من ذلك التاريخ علنا نكتشف ألغاز الحاضر من ملفات الماضي. ونستجلي مطالب البعض بعودة الخلافة الإسلامية، كأنها نعيم مقيم، أو جنة من الجنان الموعودة!. ألم يزُر الملك النوبي بلاط الخليفة المأمون راغباً تعديل اتفاقية " البقط"؟.
(1) غريب على " المأمون "، الخليفة العباسي، و قد رحل قبل أكثر من ألف ومائتي عام، أن يكون وثيق الصلة بالعِلم والمعرفة والثقافة، وكان مُشاركاً في هذا الفعل العِلمي والثقافي والفكري بمشورته وملاحظاته. وهو الشيء الذي نفتقده نحن في حكام اليوم. ربما كانت لنا عِبر التاريخ، نستطلع رؤاها وتستجلي لنا خفاياها، وهي تُطّل علينا في ثوبٍ جديد، وهو في الأصل قديم. لن نتمكّن أن نغيّر التاريخ، رغم أننا قد نشهد الآن انفجار نجمٍ حدث قبل ألف عام، أيكون ذلك شهوداً على وقائع الماضي؟!. التاريخ هو صنيعة الدهر، ونحاول أن نستدني كل المعارف التي بين أظهُرنا، لنشاهد كل شيء عن قرب. نحن نسأل أنفسنا اليوم: كيف أفلت هذا العملاق من خميرة صنعت قادة، لا يعرف العالم عنهم إلا أصحاب القوة القاهرة والجبروت، لا عِلم لهم ولا تربية ولا ثقافة ولا فكر ؟!. لكن الرجل الذي نحن بصدد سيرته، نهض بالقوّة بين أذرعه، إضافة على معرفته الأصيلة باللغة العربية والشعِّر والعِلم والثقافة والفكر والتربية والدّين. قام بالكثير من التراجم للعلوم في عصره، ومهّد لها السبُل. يصفه المؤرخون بأنه كان مُعتزلي المنهاج، لا خليفة بعده ورث خصاله الفكرية ولا مضاء عزيمته طالباً كنوز العِلم والثقافة التي كانت سائدة في عصره. رغم ثنائنا على المأمون، فلن ننزعه من تاريخه ولا الظروف التي حكمت سيرته. ففي إطار التاريخ قضى أيامه، وأسهم في الكثير الذي صار تاريخاً، نقلت منه الدول المتقدمة وبنت عليه نهضتها، وظل العرب والمستعربين اليوم مُستهلكين للحضارة، يخرجون من خيبة لينتقلوا لخيباتٍ اُخر. وحين تأتيهم موجة الصحو، ينشطوا للتكّفير. ليس لديهم شاغل، سوى نقاب المرأة أو إطلاق اللحي على الذكور، والعودة سريعاً ليبشّروا بماضٍ لا يعرفون عنه كثير شيء.
(2) المأمون هو الخليفة عبدالله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، سابع خلفاء بني العباس. ولد سنة 170 هـ وأمه أم ولد، ويقال إنها من الفرس البرامكة، اسمها " مراجل". ماتت في نفاسها منه. ورحل عام 218 هجرية ، مرض ومات ودُفن في طرطوس بالشام. تهيئت له وسائل الدراسة والتربية والثقافة. ولّاه الخليفة هارون الرشيد بعد أخيه الأمين من بعده، وكان في الثالثة عشر من عمره. اُسندت إليه ولاية خراسان وما بعدها. و بعد وفاة والده لم يف أخيه الأمين بالعهد، بل قدّم عليه ولده موسى لولاية العهد. ودارت بينهما معارك وحروب انتهت بمقتل الخليفة الأمين، وصعد هو كرسي الخلافة.
(3) صاهر الإمام علي الرضا و هو من أئمة آل البيت. كان له تقدير خاص لآل البيت. كان المأمون يقول: ( أنا والله أستلّذ العفو حتى أخاف ألا اُؤجر عليه، ولو عرف الناس محبتي للعفو لتقربوا إليّ بالذنوب). اُمتُحنّ المأمون بعقيدة " خلق القرآن"، فجمع الفقهاء والمحدّثين وألزمهم برأيه في السَنة الأخيرة من حياته. * قال ابن طباطبا في كتابه الفخري: ( وأعلم أن المأمون كان من عظماء الخلفاء الإسلاميين، وله اختراعات كثيرة في مملكته. منها أنه أول منْ لخّص علوم الحكّمة وحصّل كُتبها وأمر بنقلها للعربية وشهّرها. و نظر في علوم الأوائل وتكلم في الطب وقرّب إليه أهل الحكّمة.) * تتلمذ المأمون على شيوخ اللغة في عصره كسيبويه واليزدي ويحي بن مبارك. وقيل عن المأمون: لو لمْ يكن خليفة لصار أحد علماء عصره. اُنشئ بيت الحكمة أيام الخليفة هارون الرشيد، إذ جمع فيه البرامكة ما وقعوا عليه من الكُتب الهندية والفارسية واليونانية. وقيل إن العالِم الفلكّي يحي بن منصور والعالِم المشهور محمد بن موسى الخوارزمي كانا من المشرفين على خزانة بيت الحكّمة أيام حُكم المأمون. للمأمون و ملك الروم مراسلات، وقد طلب في واحد منها مختارات من العلوم القديمة المُدّخر كُتبها ببلاد الروم. وعندما سنحت الفرصة، أرسل طائفة من علماء عصره فأخذوا ما وجدوه، وتمّ نقله إلى العربية. أحضر المأمون "حنين بن إسحاق"، وأمره بنقل ما يقدر عليه من كُتب الحكماء اليونانيين إلى العربية، وإصلاح ما ينقله غيره. * نشط المأمون في مقاومة " الطائفة المانوية" و"العرفان الشيعي". وقد كانت كلمة " الزنادقة " تعني آنذاك " المانوية". وقد بلغت الحملة ضدّهم أوجّها عام 166 هـ ، حيث نكّل الخليفة المهدي بهم. وقد وجد العباسيون أنفسهم أمام حركة نشطة، تعمل في السرّ والعلن. توزع رسائلها. يبدو أن الخليفة المأمون قد اعتمد أسلوب المناظرة العقلية والدعاية الفكرية، وهي استراتيجية مغايرة لمواجهة " ماني " وأتباعه من الفرق والمذاهب المناوئة للعباسيين، وذلك عملاً بالاتجاه العقلاني الذي آمن به المأمون، بديلاً عن التصفية الجسدية للمانويين أو الزنادقة وفق ما كان يُطلق عليهم في ذلك الزمان. * سمع الخليفة المأمون أن بطليموس قد حسب محيط الأرض، فشكّل بعثتين لقياس الدرجة. وذهبت الفرقة الأولى في برية تدمر وواسط - الرقّة في بلاد الشام. وسارت الأخرى في برية سنجار، فتوصل الفلكيون بأرقام لطول الدرجة وصار محيط الأرض 41248 كلم ، وتختلف عن المحيط الحالي البالغ 40075 كلم، إذا قدرنا وسائل العصر.
(4) التراجم في عهد المأمون: تمت ترجمة كتب أفلاطون وأرسطو وجالينوس وإقليدس وأرخميدس وأبلونيوس وبطليموس. و تمّ النقل عن الكتب الهنديّة السنسكريتيّة: كتب الطب والحساب والتاريخ والفلك. كذلك تم النقل عن الكتب الفارسية. وقد شيّد المأمون مرصداً على أعلى جبل قاسيون في الجهة المُطلّة على الربوّة في دمشق. وشيّد المأمون مرصداً فلكياً آخر بالشماسيّة على أعلى بغداد عند محلّة الصليخ، إحدى محلات الأعظميّة. * الفلكيون المؤسسون في عهد المأمون: هم محمد بن إبراهيم بن حبيب الفزاري والخوارزمي والكندي وموسى بن شاكر وعبدالله بن سهل بن نوبخت وحبشي الحاسب ويحي بن منصور والفرغاني والعباس الجوهري وسند بن علي المروزي وعلي بن عيسى الأسطرلابي وعمر بن الفرخان. * جمع المأمون فريقاً من عشرات العلماء لصنع خريطة للعالم في زمانه. صوّر فيها العالم بأفلاكه ونجومه وبرّه وبحره ومساكن الأمم والمدن. وهي أفضل مما قدمه بطليموس ومارينوس. جاء في خريطة المأمون ومسحه وصف لعدد 530 مدينة وبلدة مهمة وخمسة أبحُر و290 نهرا و200 جبلاً، ومقدارها وما فيها من معادن وجواهر. كما صحح جغرافيو المأمون تمثيل بطليموس التقليدي للمحيط الهندي كبحر محاط باليابسة. و أوضحوا لأول مرّة أنه كتلة كروية من الماء تحيط بالعالم المسكون. وهو ما فتح الطريق لما يعرف بعصر الاكتشافات الجغرافية في أوروبا.