عن الدبلوماسية السودانية: رسالة إلى مروّجٍ أفّاك
ما تعودت أن أخاطب أشباحاً أو أشباه أشباحٍ، فتلك قد تكون مهمّة من لا تشغله الأمور الأهمّ، وإني وأيم الله ، ما لي من حاجةٍ عند أحد ، وما لي وقت أصرفه فيما لا يعود بنفع عليّ أو على الناس . كنت اعشق الكتابة منذ الصغر ، وزدتُ عليها بعد زيادة معارفي في دراستي الجامعية، وفي عملي في مصلحة الثقافة تحت قيادة كبار مثل الصلحي ومحمد عبدالحي . ثم جئتُ إلى وزارة الخارجية من بابها، بعد اختبارات في السياسة العامة ، الدولية والإقليمية والسودانية، وفي اللغتين العربية والإنجليزية، ثم حسَمَتْ الوزارة أمرها واختارت من اختارت بعد المقابلات الشخصية المعمّقة . ومكثتُ دبلوماسياً "مهنياً" لقرابة الثلاثين عاما . أما بعد تقاعدي فقد عدتُ إلى مواهبي واهتماماتي الثقافية والأدبية وقد أثرتها تجاربي الدبلوماسية وما أتاحت لي وزارة الدبلوماسية من احتكاك بثقافات شتى عبر تكليفها لي بمهام في أصقاع قريبة وبعيدة . يعرفني الناس هنا في السودان وفي البلاد العربية ، كاتباً روائيا نشرت من الروايات عدداً معتبراً، وشاعراً لي في الشعر مجموعتان خرجتا من دار نشر مرموقة يملكها الأستاذ رياض نجيب الريس في بيروت. يعرفني أهل الأدب في لبنان شاعراً وروائيا قبل أن يروني سفيرا عندهم.
تلك مقدمة لازمة ليعرف من لم يكن يعلم، عن خلفية اهتماماتي ومشاغلي، إذ كيفَ يصفني من لا يعرفني في مقالٍ له بأني محض نصّاب لا غير، ثم تخونه شجاعته فلا يكتب إسمه في ذيل مقاله البئيس. لقد تردّدتُ في تفنيـد بعض ما كتبَ مروّج الإفــك من ترّهات، لا تثبت في غربال الحقيقة ولا في ميزان المنطق. يترجّاني الأصدقاء القريبون أن أتغافل عن صاحب النصب هذا . وافقتُ فاكتفيت بتنبيهه أول الأمر ، ولكني أصدّق حدسي أن كاتب النصب وقد عرفتُـهُ المعرفة الأكيدة، فهو في الحقيقة مَن نصبَ- مع أزلام من شاكلته - على الدولة وله معها حساب في المنعطف. إني أفند بعض ما كتب عني في نقاط مختصرة حتى لاأشغل الناس بما لا يفيد.
1/ قال صاحب النصب – وللنصب أداة هي للمفعول لا الفاعل- أني وقفت منادياً بالحرية . دفاعي عن الحرية شرفٌ لم أقف مناديا به في ساحات الاعتصام مع شباب الحراك ، وإني لأحمد لهم وقوفهم في وجه قوى الظلام من برنامج شيعتك، وقد علت عقيراتهم منادين بالحرية والسلام والعدالة، فاستشهد من استشهد منهم وجرح من جرح..من أجله وطن كبير استصغره الظلاميون ، وشعب عظيم دفنوا شموخه في كهوف الإرهاب الدولي. .
2/ ولا أعرف أي حكاية نسجها خيالك عن ملاحقتي للسيدة الفاضلة أميرة الفاضل وما بيني وأسرتي وبينها وأسرتها غير أمتن علاقات الصداقة، منذ تعرفت عليها على أيامي نائباً لرئيس البعثة وأنا سفير ثان في لندن ، وتلك بدعة من بدع الأخ مصطفى عثمان إسماعيل لما استوزرته "الإنقاذ" لعقد كامل في وزارة الدبلوماسية . وما كنت من المتابعين نشاط السيدة أميرة الرسمي في النظام البائد، فلم يكن يعنيني ذلك في شيء. ثم من نقل إليك – أوهو أيضا من نسج خيالك- أني تطلعت يوما لوظيفة في الاتحاد الأفريقي ؟؟
يعرف "وكيل الخارجية الأسبق" أن الفريق الدابي حين كلفته منظمة الايقاد بمهمة سياسية تتصل بعلاقات السودان مع دولة جنوب السودان وأقام في العاصمة الإثيوبية ، بعث إليّ بمساعده ليقنعني بالعمل معه في أديس في إطار تلك المهمة . تحمّس ذلك الوكيل الأسبق للطلب، وصاح في وجهي:
- "هو انحنا لاقينك. .؟ زودني بسيرتك الذاتية لنحسم الأمر. . !
لكنه غيّر رأيه لسبب يعرفه هو وأعرفه أنا . ولأن الله سبحانه وتعالى يمكر فوق مكر الماكرين، فقد ألغت "الايقاد" مهمة الدابي من أساسها , لم أكُ يوما انظر في وظيفة في أيّ منظمة دولية، ولم تكن تنقصني القدرة ولا اللغة ولا المواهب ، لكن تعوزني والحمد لله ، مهارة التزلف وما يكسر به الثلج لسلاطين الزيف والنفاق.
3/ كتبت مقالاً حين صدر قرار إعفاء الإسلامويين الكذبة من وزارة الخارجية فاستحضرتْ ذاكرتي المآسي والقصص المحزنة التي شهدتها بعينيّ أو كنت طرفا في بعضها . كانت كتابتي عن سفراء كبار علمونا وخبرونا وخبرناهم، أكثر من خمسة عشر عاماً في وزارة الخارجية، وأطاحت بهم "الإنقاذ" بلا مبرر، وملأ الغبن نفوسهم فأكثرهم رحل بغبنه . وكنت شاهداً على الوقائع ولم أرخِ أذنيّ أسمعها من هنا أو هناك. وقت وقوع كارثة التمكين تلك، لم يكن الذي اغتاظ من كتابتي الآن، قد ألحقته "الانقاذ" بعد بوزارة الخارجية، ليحلّ هو ومن شايعه ، محل من أزاحتْ للصالح العام، ولا شهدوا بعيونهم ما شهدتُ أنا عليه ووثقته في مقالي . هي "بكائية سمجة" في نظر الموتورين ومن في عيونهم رمد، وإني لأعذر عمى الكفيف وأسأل الله أن يرد بصيرته قبل بصره.
4/ ثمّة فرية أخرى عجبت لها أن تأتي ممّن عينته "الإنقاذ" في منصب عالٍ في وزارة الدبلوماسية . لم أذهب يا هذا كما حسبتَ أنت ، إلى إيران سفيراً مرشحاً ، بل بعث بي وزير الخارجية لأكون نائبا لسفير التعيين السياسي الذي اعتمدته الخارجية الإيرانية قبل مجيئي بأشهر عديدة. كان الصراع محتدما بين تيارات الإسلامويين، بل كانت معارك فيها الضرب تحت الأحزمة . تلك معارك لا ناقة لي فيها ولا بعير. للوزير وقتها معركته المستترة بينه وسفير التعيين الذي أجبره التنظيم أن يُرسله إلى طهران. سفيرا. ولأنه " سفير داقِس"، ولأني أعرف إيران وخفاياها أكثر منه بحكم عملي السابق في ذلك البلد، فقرر وزير الخارجية أن أذهب مساعداً له. "داقس" هذه ليست من عندي، بل هي الكلمة التي همس بها إليّ معالي وزير الخارجية حين أبلغني بتولي تلك المهمة في طهران . سيأتي تفصيل القصة بحذافيرها في مذكراتي التي أنوي نشرها قريبا. . من وقف معي ومن لم يقف، ومن زاد في القصة من خياله ومن نقلها ببهارات من عنده، ومن شمارات في ردهات وزارة الخارجية. لكن من المهم أن يعرف مروّج الإفك أن قرار مغادرتي طهران هو قراري أنا ، ولم يكن قرار خارجية إيران ولا خارجية السودان، كما لم أكن مطرودا مثلما فعلتْ الخارجية السعودية بمن خلفني على منصب القنصل في الرياض، أوائل تسعينات القرن الماضي.
5/ لم أكن مبادراً لدعوة سحب الجوازات الدبلوماسية عن سفراء التمكين، كما روّجت في مقالك، بل كنتُ أنا من المؤيّدين للمقترح الذي يوافق موجّهات إزالة التمكين .هذا رأيّ ولك – يا محصي "مخازي" الناس- إن شئتَ أن تخالف المقترح ، فما الذي يريبك في ذلك..؟ لعلمك- وإن كان بعيداً عن موضوعك- إني أملك جواز سفر عادي قد استخرجته قبل شهرين، لأن صلاحية جواز سفري الدبلوماسي- وهو حق تجيزه لي لوائح الخارجية- كانت على وشك الإنتهاء. لا يقدح ذلك في خبراتي المهنية التي أتاحتها لي وزارة الخارجية وقد دخلتها من أبوابها، لا متسللاً إليها بلا مؤهلات، ولا متسلقاً جدرانها بلا قدرات .. وإني إلى الآن لستُ طامعاً في وظيفة تعيدني للدبلوماسية إذ يكفيني إسمي الرائج في ساحات الأدب، وخبراتي المبذولة في الصحف العربية في لندن كما في المواقع الإسفيرية، بما ملكتُ من خبرات في العلاقات الدولية. .
6/ للمرّة الأولى أسمع وبعد ثلاثين عاماً في وزارة الخارجية، عن أحد يطلق عليّ ويصنفني بأني شيوعي . .!
تعلمنا من معلمينا السفراء الكبار، وفيهم من شارك في تأسيس جهاز الدبلوماسية السودانية منذ أعوام الإستقلال الأولى، وكان أول ما تعلمناه ، أن ننقطع لخدمة الوطن، إذ نحن من نمثل في الخارج: ثقافاته ، عقائده، لغاته . عاداته ، تقاليده. طوائفه وإثنياته. علمونا أن خدمة الوطن هي في الالتزام بالمهنية الدبلوماسية، لا بالانتماءات الطائفية أو الحزبية الضيقة أو المناطقية الأضيق. .
من يقرأ كتاباتي- إن كنتَ منهم - فأنا كاتب رأيٍّ راتب لعشرات السنين، ومقالاتي مبذولة في صحف سودانية وعربية دولية وفي الأسافير، متاحة لمن يريد أن يعرف كيف أكتب، أوكيفَ هيَ منطلقاتي وتوجّهاتي الفكرية، أو خبراتي الدبلوماسية .
7/ كنتُ مديراً لإدارة الإعلام وناطقا بإسم وزارة الخارجية وقت أن كانت وزارة في حكومة الوحدة الوطنية التي شكلتها اتفاقية نيفاشا. لعام 2005.
بعد أن عدتُ من لندن منتصف عام 2004، سعيتُ لأن أتولى إدارة بعيدة عن العلاقات السياسية، فتوليت إدارة التوثيق عن عمد وعن إصرار، حتى لا أحتكّ مع قيادة في الوزارة قد لا تطيق رؤيتي منذ قصتي في إيران. غيرَ أن الوزير وقتها، مصطفى عثمان إسماعيل هو من أصرّ أن يخرجني من مخبأي في إدارة التوثيق لأتولى إدارة الإعلام ، ومن ثم فرضتُ نفسي- في غياب الوزير - ناطقا عن أمور٣ الوزارة .
تجربة النطق الرسمي تجربة أفتخر أنّي عملتُ على ترسيخها، بعد أن كلفني الوزير لام أكول لأن أتولى أمرها رسمياً في عام 2005. نطقت عن السودان الوطن وليسَ سودان "نظام الإنقاذ" والفرق شاسع أيها المروّج الموسوس . أتحدى مروّج الإفك أن يثبت أني كنت أدافع عن "ثورة الانقاذ" طيلة العامين اللتين نطقتُ فيهما رسميا عن شئون وزارة الخارجية ، وقد شهدت خلال فترتي في عام 2006، قمتين هامتين ، عربية وأفريقية، عقدتا في الخرطوم وأبليت فيهما البلاء الذي شهدت به القنوات العربية والأفريقية ، قبل قنواتنا القومية. . ولناصب الإفك أن ينقب في كلّ ما سجّل عني في القنوات الفضائية وفي الصحف السودانية والأجنبية، إن وردت كلمتي "ثورة الانقاذ" على لساني. . !! كانت مهنيتي هي التي تقودني للدفاع عن الوطن، لا للدفاع عن حزبٍ أو تيارسياسي ..!
8/ يورد المروّج عن شِعري تقييما ً لا أعرف كيف أردّ عليه فيه، فلم يبن لنا مراجع موهبته في النقد، وظني أنه لا يعلم أن قد صدر لي ديوانا شعر من ناشر لبناني مرموق معروف عنه احتكاره نشر دواوين الشاعر الراحل محمود درويش، فهل قرأ هذين الديوانين؟
تحمّس ذلك الناشر وهو الأستاذ رياض نجيب الريّس، لقصائدي من قبل أن يلتقيني، ونشرلي ديوانيّ دون مقابل مادي، ومنحني بعد النشر،عدداً معتبراً من النسخ مجانا واقام لي حفل تدشين حافل في معرض بيروت الدولي للكتاب دورة عام 2007. ليعلم ناشر الإفك أني لا أنظم الشعر في وزيرات لخارجية دول شقيقة أو أجنبية، فأحرج حكومتي. وشعري مبذول في ما نشرت ورقياً، وفي مواقع الشعر الأسفيرية، وفي أنطولوجيا الشعر السوداني الذي نشرته أديبة مغربية قبل نحو عام . ولعله لم يسمع بي مشاركاً بشعري في مهرجان الجنادرية في المملكة السعودية عام 2017. . وأكثر من ذلك ، ظني أن مروّج الإفك لا يعرف عنّي أني كاتب روائي ولي مما نشرت ست روايات، وله أن ينظر في " نيل وفرات دوت كوم" (المقابل العربي لأمازون)، فيرى بعض ما نشرتُ معروضا هنك. .ما كنت شويعرا يا هذا، فإني شاعر وما الحنبريت (ولا تكتب حمبريط) إلا كتاباتك أنت كلها..!! أما أول سطر كتبت فقد أخطأت فيه النحو، فلا أقبل -حتى لو أسأت إليّ- أن تسيء كذلك إلى اللغة. . .!
أكتفي بحملك يا هذا على قراءة ما كتبت هنا ، ولا أرغب أن أثقل على قرّاءٍ درجوا على أن لا يروني استطرد في الشطط وفي ردِّ الصاع لمن أراد أن يبارز، وليس لي والله من الوقت الثمين، أضيعه لمبارزة من هم مثله. .
الخرطوم – 8 مارس 2020