عن الدين والدولة السؤال .. وليس قانون النظام لعام !!

 


 

 

 

على قدر ما قرأت هذا الأسبوع من مقالات واستمعت إلى مقاطع فيديوهات حانقة تتحدث بغضب عن دعوة مدير شرطة ولاية الخرطوم الفريق عيسي آدم بضرورة تفعيل، أو إعادة العمل، بقانون النظام العام، واعتبار تصريحه دعوة للعودة إلى ظلام ما قبل الثورة، ومحاولة مكشوفة من سدنة وأركان النظام الميت لإبقائه حياً مسيطراً مهيمناً على حياة السودانيين، من خلال قوانينه وبعض فلول كوادره التي لا تزال تحتل مواقعها في مفاصل الدولة بقطاعيها العام والخاص. وخطاب الفريق شرطة عيسى يعتبر بالفعل مثالاً واضحاً ومفضوحاً لهذه الكوادر التي نعنيها، وقانون النظام العام يعتبر نموذجاً للقوانين التي نعنيها. إلا أن هذه الكتابات تحاشت في مجملها الحفر في مفهوم النظام العام نفسه، مصادره، ووظيفته ودلالاته ونتائجه على الهدف الأكبر للثورة .

(2)
القانون الذي تمت إجازته لأول مرة في عام ١٩٩٥ في ولاية البحر الأحمر ثم تم تعميم التجربة لتشمل بقية الولايات السودانية لتكون ولاية الخرطوم التالية في ١٩٩٦، إنما وضع في إطار التمكين للنظام للسيطرة على الفضاء العام وإرهاب المدنيين، متجاوزاً وظيفة الشرطة المدنية الدستورية والفقهية القانونية.
ولو أننا أدرجنا قانون النظام العام في سياق استراتيجية "الإنقاذ" العامة، فإنه إنما صُمم ليكون بديلاً خاصاً بالنظام عن الشرطة المدنية، مثلما كان "الدفاع الشعبي" بديلاً خاصاً بالنظام للجيش الرسمي، ومثلما كان جهاز "الأمن الشعبي" بديلاً لجهاز الأمن الرسمي.
وكما يقول محمد بدوي فإن "طبيعة ما عرف بقوانين النظام العام تمثل إنتقائية تتعارض فلسفياً مع فكرة وطبيعة القوانين ومفهومي العقاب والإصلاح بل بتفريغ لفكرة النظام العام من مفهومها وسياقها القانوني فقهياً ، فهي مزج من نصوص من القانون الجنائي السوداني ١٩٩١ أضيفت إليها أوامر محلية أجازتها المجالس التشريعية الولائية التي مثل قوامها أعضاء الحركة الإسلامية وأجنحتها السياسية ،تم التخطيط لها لتمثل حزم لإحداث حالة من القهر الممنهج بهدف السيطرة السياسية والايدلوجية على الفضاء العام وتضييق ممارسة الحقوق فيه عبر فرض أنساق مسبقة من السلوك تتسق وفلسفة الإسلام السياسي، تم التخطيط للتنفيذ ليأتي بالمخالفة لتطبيق القانون بشكله الطبيعي عبر المحاكمات الإيجازية مع التركيز على العقوبات الجسدية والمالية التي تدور خارج ولاية النظام القضائي في صيغة لتمويل نشاط من أموال الضحايا والناجين (الغرامات المالية) (1).

(3)
وإذا كنا بصدد تحقيق ثالوث شعارات الثورة (حرية، سلام، وعدالة) والتي على أعتابها أهرق الشهداء دمائهم الزكية بنبل وشجاعة، فإنهم كانوا على وعي بأن "مدنية الدولة" هي المعبد الذي تتحقق في عرصاته مبادئ هذا الثالوث.
في الدولة المدنية، دولة المؤسسات والقانون تتحقق الحرية والعدالة ويعم السلام.
في الدولة المدنية، دولة المواطنة لا مجال لمبدأ ومفهوم الوصاية.
ففي الدولة المدنية السيادة للمواطن.
وليست للدولة والطبقة التي تسيطر على سلطتها.
ثمة فارق دقيق ينبغي أن يستقر في أذهاننا جميعاً: الدولة للمواطن وليس العكس.
ينبغي أن نعمل لتأسيس دولة المواطن، وليس مواطن الدولة.
دولة المواطنين الأحرار المتساوون ...لا الرعايا.
وقانون النظام العام بالمفهوم الذي قام عليه، والطريقة التي بها طُبق، يكرس الهيمنة على حرية المواطن ومصادرة مواطنته ويجعل منه رعية للسلطة.
قانون النظام الذي يسعى مدير الشرطة لإعادته إلى الحياة، تتبادل فيه الهيمنة ومبدأ "الوصاية" الأدوار للسيطرة على الفضاء العام وتضييق حرية الفرد والمجتمع. حيث تلعب "الوصاية" فيه دور المبرر للهيمنة والسيطرة.
ومبدأ الوصاية يقوم في كل الأحوال على أيديولوجيا تسعى لتكريس سيطرتها وهيمنها عبر منظومة فكرية ونفسية وسلوكية متكاملة تعمل على تنميط جميع من يقعون في محيط تأثيرها وفي دائرة سلطتها.
وقانون النظام العام في حقيقته استند على أيديولوجيا على سلطة الإسلامويين، التي رفعوها شعاراً مزيفاً كاذباً للسيطرة على الدولة ونهبها وإذلال شعبها.

(4)
ليست المشكلة: هل كانوا صادقين في إيمانهم بدعواهم أن "الإسلام هو الحل" أم أنهم كاذبون محتالون ؟. ولا هل كانوا جادين بالفعل في تطبيق هذا الشعار عبر ما أطلقوا عليه "المشروع الحضاري" اسماً أم متلاعبون ؟.
ليست هذه هي المشكلة. فكثير من الأنظمة ترفع مثل هذه الشعارات، وتطلق مثل هذه الدعاوى، بينما تطبق في الواقع أهدافاً غيرها. ولا أظننا سنجد في تاريخ الدول دولة تطابقت فيها شعاراتها أو هويتها المعلنة لافتة لها مع تطبيقاتها على أرض الواقع كل التطابق، ولكن تتفاوت الدول في هذا. فالدولة الشيوعية التي ترفع شعار ديكتاتورية الطبقة العاملة في الاتحاد السوفيتي سابقاً، كان البون شاسعاً بين هويتها المعلنة وشعاراتها، وبين واقع شعوبها على الأرض. في حين يضيق هذا الفارق في منظومة الدول الرأسمالية، وحتى بين هذه الأخيرة تتفاوت الفوارق بين الولايات المتحدة لأمريكية والدول الأوروبية على سبيل المثال. ربما بسبب مستوى مشاركة منظمات المجتمع المدني في السياسات العامة.

(5)
إذن ليست المشكلة في صدق أو عدم صدق الشعارات والالتزام بتطبيقها حرفياً ما نحن بصدده هنا، وإنما في المنظومة نفسها، ومدى منطقية طرحها كمقترح للتطبيق.
السؤال ليس عن صحتها أو زيفها هي في ذاتها. وإنما عن مدى جدوى تطبيقها وملاءمتها للواقع الذي يراد فيه تطبيقها. فهاذان شيئيان مختلفان.
هل هي حقيقية وصحيحة أم مزيفة أمر لا يعنينا هنا، وطريقة النظر إليها من هذا المنظور يدخل في باب مقارنات تاريخية ومعرفية لا شأن لنا به هنا. وأما هل هذه المنظومة ملائمة للتطبيق على الواقع المعين في ظرفه التاريخي المحدد، فهذا ما نسأل عنه.
والسؤال بالتالي: هل قانون "النظام العام" بخلفيته الأيديولوجية الإسلامية ملائم للتطبيق في السودان بواقعه المتعدد الإثنيات والثقافات والأديان، أم غير ملائم ؟.
السؤال هنا ليس عن ماهية الإسلام، وإنما عن ماهية الدولة.

(6)
ولا أدري لماذا يروغ الناس دائماً عن طرح المسألة بهذه المباشرة والبساطة. فعندما أعلن نميري دولته الإسلاموية بمساعدة قضاة وسياسيون معتوهون ، وأحال حياة الناس إلى جحيم بقوانين اكتفت بإغلاق البارات وقطع أيدي صغار اللصوص المعوزين ومطاردة الناس في بيوتهم، وانتهى عصره الإسلامي بإعدام أنجب وأذكي وأخلص وأتقى من دعا للإسلام الأستاذ محمود محمد طه. وأطلق الناس جميعاً – عدا شهيد الفكر – على ذلك الهوس "قوانين سبتمبر"، وتحاشوا خوفاً وجبناً أن ينسبوها للإسلام، رغم أن مهندسوها استندوا في تطبيقها على نصوص إسلامية معتمدة ولم نجروا "ينجروا" نصوصاً من رؤوسهم الخاوية.
ويكشف النفاق السياسي، إن لم نقل الازدواجية الفكرية، عن نفسه عارياً بين النخب السياسية في موقف الصادق المهدي الذي كان يصف هذه القوانين، قبل أن يصبح رئيساً منتخباً بأنها لا تساوي الحبر الذي كُتبت به، ليتبدل موقفه بعد رئاسته التي كفلت له إمكانية إلغائها، ليتحالف مع من وصفهم قبل، بأنهم خارج التوافق الوطني، ويبقي عليها. ولو أن الناس كانوا يومها على قدر من الشجاعة الأخلاقية، وطرحوا على أنفسهم السؤال الصحيح حول جدوى وصلاحية الحكم الديني لتأسيس دولة حديثة تكفل الحرية والعدالة والسلام لمواطنيها، لما احتاجت البلاد وشعبها لثلاثة عقود من المعاناة والحروب والتشرذم ليُمتحن فيها هذا الخيار، كان السودان خلالها فأر معمل للتجريب الغبي.

(7)
وأخيراً، ماذا عن وظيفة جهاز الشرطة المدنية ؟.
ما دورها في ظل منظومة أيديولوجية استولت على سلطة الدولة؟.
- لقد تغيرت عقيدتها الأمنية، وتغيرت وظيفتها. لم تعد شرطة الشعب، وإنما شرطة من استولى على سلطة الدولة، ووظيفتها أن تخدمه وتعمل على حمايته (ضد الشعب). مثلها في ذلك مثل بقية مؤسسات الدولة.
يفقد الشعب السيطرة على دولته عندما تسرقها وتستولي عليها عصابة من اللصوص الجشعين فتصبح كل مؤسساتها في خدمة مصالحهم ويروح الشعب (شوربة في مرقة).
وبما أن الشرطة بطبيعة موقعها الدستوري في خارطة مؤسسات الدولة ليست قوة قتالية كالجيش، لأن ميدانها الذي تؤدي دورها فيه هو الفضاء الداخلي العام، فإن وظيفتها الجديدة في ظل هذا الوضع (الأعوج) تأخذ طابعين، أو تعمل في اتجاهين:
1/ وظيفة "قمعية" رادعة لحماية سلطة النظام (لا الدولة !) من الشعب.
2/ ووظيفة "دعوية" لترسيخ ثقافة وأيديولوجية السلطة ونشرها في الفضاء العام.
تتغير تماماً وظيفة الشرطي في أي دولة تفقد حياديتها، حين تسيطر على سلطاتها أي طبقة/ عصابة أيديولوجية. بغض النظر عن صدق أو زيف هذه الأيديولوجية.
ولكنه في كل الأحوال يقوم بوظيفة مزدوجة:
- قمع معارضي السلطة باستخدام القوة المفرطة وغض الطرف عن المهددات التي تستهدف أمن المواطنين. هذا من ناحية.
- ومن ناحية أخرى النهوض بدور الشرطة الدينية برصد كل ما يتنافى مع الرموز الدينية والثقافية لأيديولوجية السلطة وفرضها على على المواطنين بالقوة.
لأن أيديولوجية الدولة بطبعها، وكل أيديولوجيا ترفض التنوع ولا تعترف بحرية الاختلاف، لأنها إقصائية وتنميطية، تسعى لصب الناس في قالب فكري ونفسي وسلوكي موحَّد.

(8)
مصداق هذا ماثل الآن في واقع السودان قبل الثورة وبعدها.
ففي الوقت الذي تعاني فيه البلاد من الانفلات الأمني الذي لم يشهد له السودان مثيلاً في عصوره، حتى في سنوات انهيار سلطنة سنار حيث عمت حالة من انعدام الأمن تقطعت بسببها الطرق التجارية من وإلى العاصمة سنار لكثرة قطاع الطرق الذين كانوا ينهبون القوافل التجارية، كما يحكي المؤرخون. ولا حتى في لحظة انهيار دولة المهدية قبل معركة كرري. كان الأمن في المدن مستتباً، وإن شابته بعض التفلتات الأمنية، ولكنها لم تبلغ ما تبلغه الآن من فوضى في عاصمة الدولة السودانية، أو في أطراف البلاد شرقاً وغرباً. وما يحدث الآن من فوضى أمنية، بل انهيار تام للأمن هنا لم أجد ما يقاربه سوى ما حدث في مصر قبل غزو الفرنسي بأيام، وقد صوره الجبري بتفاصيل كنت أظنها مشاهد من وحي خيال المؤرخ لفظاعتها اللامعقولة. والآن ها نحن نشهد هذا يحدث عندنا في مطالع الألفية الثالثة.
هل تريد أن تعرف مدى انحراف العقليات التي تدير المؤسسة الأمنية ؟.
في ذروة هذا الخطر الأمني الوجودي الذي يهدد بزوال الدولة ذاتها، يدير المسؤول عن أمن المواطنين فتعشى عينيه عن رؤية عصابات النهب المسلحة بالسكاكين والسواطير وبالأسلحة النارية في شوارع عاصمته تمارس إرهابها ونهبها رابعة النهار وتقتحم البيوت وتقطع الطريق على المركبات الخاصة والعامة، فلا يثير ذلك حساسيته الأمنية، يطعن طالب أمام بوابة الجامعة وينهب جواله، تدخل عصابة مسلحة مستشفى شرطته تطلق النار وتقيد الحرس، وتطلق سراح تاجر مخدرات خطير رهن الاعتقال يعالج في مستشفى الشرطة.
تعشى عينيه عن رؤية كل ذلك ولا يثير انتباهه سوى ملابس البنات وتسريحات شعر الشباب الغريبة عليه، وسى نسوة فقيرات متعففات لم يجدن ما يربين به أطفالهن سوى بيع الشاي تحت ظلال الشجر الشحيح، أو شاب وشابة يسيران مع بعضهما في الطريق، أو عائلة، أو حتى مجموعة من الأصدقاء والصديقات يقمن احتفالاً لمناسبة خاصة ما. فتنتفض غدده الأمنية حماسة، ويستشعر الخطر الذي يحدق بأمن المدينة فيشن حملة شعواء (على المنكر !) مستتراً بقانون ما !.

(9)
ماذا أقول؟.
فتاة دهستها سيارة مسرعة وولى صاحبها هارباً، التفَّ الناس حول الجسد الملقى وسارعوا يعملون على وقف النزيف وانشغل بعضهم بما يعرف من مبادئ الإسعافات الأولية، والبعض يتصل بالإسعاف، والبعض يحاول إيجاد مركبة لنقل الفتاة لأقرب مستشفى، عدا واحد كان يربك جهود الناس لإسعاف الفتاة، منشغلاً بتغطية رأسها الكاشف وفخذها العاري، ويحاول جهده منع الرجال من لمس جسد "الحرمة/ الأنثى" المغطى بالدم والتراب وعن حرمة !!!.

مصادر
(1) محمد بدوي، تفويض قوات الشرطة وجدل السلطات التنفيذية والتشريعية ، موقع صحيفة سودانايل، نشر بتاريخ: 27 آذار/مارس 2021.


izzeddin9@gmail.com

 

آراء