عن حدود سلمية الثورات الشعبية العربية . بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي

 


 

 

من حماة إلى بنغازي وبالعكس



تفرض الثورات الجارية إعادة النظر في ثورات وانتفاضات سابقة أسيء فهمها. وعلى رأس هذه الانتفاضات تلك التي شهدتها حماة في شباط/فبراير عام 1982، التي نجح النظام السوري في تصويرها على أنها كانت مجرد صراع مسلح بينه وبين الإخوان المسلمين. ولكن إعادة تأمل تلك الأحداث على ضوء ما شهدته البيضاء وبنغازي ومصراتة في ليبيا مثلاً، وما شهدته صنعاء، يظهر تلك الأحداث في ضوء جديد. فقد كانت حماة، مثل بنغازي ومصراتة وسربرينتسا، مدينة محررة من طغيان نظام قمعي متوحش، تعرضت للاجتياح من قبل أشباه راتكو ملاديتش، ولكن في عصر سبق تدخلات الناتو ومحاكم لاهاي.
وربما يكون أحد مقاتل النظام السوري تكمن في أنه يدرك أنه جرب من قبل قمع الثورات الشعبية عبر العنف الدموي قبل أكثر من عقد من الزمان من مجازر البوسنة ورواندا، ونجا من عواقب جرائمه، بل نجح في تعزيز مكانته الدولية. وإذا كان العقيد القذافي اضطر في خطبته المشهورة للاستشهاد بإنجازات غيره في ارتكاب المجازر (ناسياً أو متناسياً مجزرتي بنغازي اللتين كانتا وراء الثورة الشعبية ضده) فإن النظام السوري لا يحتاج لاستعارة أمجاد غيره، لأنه يفخر بمجازر تخجل سابقية من جنكيزخان إلى ميلوسوفيتش، بدءاً من مجازر تل الزعتر ومروراً بحماة. ولأن مجازر سوريا ولبنان وقعت في أيام الحرب الباردة، وفي وقت طرح فيه النظام السوري نفسه لخدمة الأجندة الغربية في لبنان بالتصدي لمنظمة التحرير واليسار اللبناني، ولأن الإسلاميين وقتها كانوا يخيفون القطبين (أمريكا بسبب إيران وروسيا بسبب أفغانستان) فإن القوى الكبرى تغاضت عن تلك الجريمة التي كانت وقتها شاذة إلا إذا قورنت بمجازر كمبوديا التي عوقب نظامها عبر غزو فيتنامي مدعوم من روسيا.
ولعل ما يغيب عن كثير من غير المطلعين على الشأن السوري عن قرب أن انتفاضة حماة عام 1982 لم تكن الأولى في عهد حكم البعث، بل كانت حماة أيضاً في طليعة انتفاضة شعبية عارمة انطلقت في نيسان (أبريل) من عام 1964، شاركت فيها قطاعات واسعة من الشعب، وعمت العديد من المدن السورية الأخرى. وقد قامت سلطة البعث وقتها باتباع أسلوبها المعهود في القمع المسلح للانتفاضة، بما في ذلك قصف المساجد التي لجأ إليها المتظاهرون، وهو ما لم تجرؤ عليه حتى السلطات الاستعمارية الفرنسية التي كانت تحترم حرمة المساجد. ولم تتوقف السلطات عند هذا، بل قامت بإغلاق بعض المدارس "بصورة نهائية"، وتهديد المواطنين علناً بالتصفية والقتل والتهجير، ولم تقصر في تنفيذ تلك التهديدات.
وقد ساهمت تلك الأحدث في تبلور التوجهات والتيارات التي شكلت مستقبل سوريا فيما بعد وساهمت في خلق أزماتها المتلاحقة. وكان أهم هذه التطورات ظهور الاستقطاب الطائفي إلى السطح، حيث زاد نفوذ حركة الإخوان المسلمين وأصبحت الحركة رأس حربة المقاومة للنظام البعثي وفي نفس الوقت ممثلة للأغلبية السنية في وقت تراجعت فيه القوى السياسية الأخرى. ومن جهة أخرى أصبح حكم البعث غطاءً شفافاً لطموحات الأقليات الدينية والطائفية وبعض القوى الريفية. بنفس القدر أظهرت الأحداث تنامي التيارات المتشددة في الطرفين، حيث تعاظم التيار المتشدد في حركة الإخوان المسلمين بقيادة مروان حديد (توفي في المعتقل عام 1976)، بينما تنامى نفوذ الضباط المتشددين ذوي النزعات الطائفية في نظام البعث، وانتهى الأمر بالإطاحة بالرئيس أمين الحافظ في عام 1966، وتعزيز نفوذ المتطرفين الذي قادوا البلاد إلى هزيمة عام 1967. في تلك الفترة أيضاً بدأ ظهور "الشبيحة" والبلطجية كأداة للدولة، حيث قامت طوائف من أنصار النظام بمهاجمة المحتجين وفتح المحلات المغلقة بسبب الإضراب بالقوة ونهب محتوياتها. وقد أثارت هذه التصرفات وتبني الدولة لها موجة احتجاجات واسعة واستنكار في كل البلاد، مثلما أثار استهداف المدنيين والعدوان على المساجد واستباحة الحرمات استنكاراً واسعاً في الدول الإسلامية ولدى بعض الجهات الدولية.
من هذا المنطلق فإن أحداث الأعوام 1979 إلى 1982، التي انتهت باجتياح حماة واستباحتها لمدة 27 يوماً بدءاً من الثاني من شباط/فبراير 1982، لم تكن سوى امتداد لذلك الصراع الذي تطاول ولم يحسم. وقد شهدت البلاد حالة استقطاب طائفي مقلق، حيث تصاعد العنف وارتكبت أحداث تصفية طائفية من قبل عناصر إسلامية متشددة. ورغم أن حركة الإخوان المسلمين أدانت تلك الأحداث وتبرأت منها، إلا أن النظام وجد فيها فرصة لتوجيه ضربة قاصمة لمنافسه الشعبي الأقوى، فقام بإصدار القانون رقم 49 لعام 1980 الذي يحكم بالإعدام على كل منتسب لتنظيم الإخوان المسلمين، وبأثر رجعي. ويعتبر هذا القانون أول تقنين رسمي للإبادة الجماعية لفئة من المجتمع منذ أن أعلن النازيون "الحل الأخير" للمسألة اليهودية عام 1942. والمدهش أن هذا القانون الوحشي لم يثر ما يستحق من إدانات دولية، مما يعكس ازدواجية المعايير.
بصدور هذا القانون لم يعد أمام منتسبي الإخوان خيار سوى المواجهة المسلحة المفتوحة مع نظام لم يترك لهم خياراً إلا الموت. ولكن من الخطأ اعتبار ما حدث في حماة في عام 1982 مواجهة بين الإخوان والبعث، لأن المدينة بكاملها انتفضت في وجه النظام كما فعلت بنغازي بعد ذلك بثلاث عقود. وبسبب طبيعة الأنظمة في البلدين التي لا تسمح بأي مساحة تحرك شعبي حر، كان لا بد أن تتحول المواجهة إلى صدام مسلح، لأن المعارض هنا إما قاتل أو مقتول.
ما قامت به القوات السورية تجاه حماة في عام 1982 من تطويق المدينة وقصفها بالمدفعية واجتياحها عسكرياً كما تجتاح معاقل العدو الأجنبي، بدون أدنى مراعاة لسلامة المدنيين أو حرمات المساجد أو لكنوز حماة الأثرية التي لا تقدر بثمن، لا يختلف إذن عما كان القذافي ينتويه تجاه بنغازي لو لا لطف الله. فقد هدمت القوات ثلث المدينة بالكامل، وكل مساجد المدينة وكنائسها تقريباً. وقد قدر عدد القتلى بمايقرب من أربعين ألفاً، والمفقودين بخمسة عشر ألفاً بينما اضطر نحو 100 ألف نسمة إلى الهجرة عن المدينة.
في تلك الحملة التي قادها العقيد رفعت الأسد الشقيق الأصغر للرئيس السوري الذي تولى مهمة الحاكم العرفي في مناطق وسط سورية وشمالها، وتولى قيادة "سرايا الدفاع"، وهي ميليشيا حزبية-طائفية (ورثتها بعد ذلك "الفرقة الرابعة" في الجيش السوري التي يقودها كذلك ماهر الأسد، شقيق الرئيس الحالي الأصغر)، زال تماماً أي فرق صوري بين الدولة كدولة وبين العصابة المسلحة المارقة. وقد اضطر الرئيس حافظ الأسد بعد ذلك إلى إقصاء شقيقه الأصغر رفعت ونفيه لأن الثاني أراد أن يستبد بالأمر ويتحول إلى رئيس العصابة الأوحد، ويفشل مخططات الأسد الأكبر في توريث الحكم لأبنائه. ولكن هذا لم يكن يعني توقف النظام عن الاعتماد على العصابات المارقة لتثبيت سلطته، بل عنى إدخال هذه العصابات من فرقة رابعة وأجهزة أمنية وشبيحة كجزء من صلب مؤسسات الدولة، بحيث أصبحت الدولة والعصابات (والمؤسسات الاقتصادية المشبوهة) هما وجهان لعملة واحدة.
في ضوء الأحداث الأخيرة في سوريا وليبيا والثورات العربية الأخرى يمكن النظر إلى أحداث حماة عبر منظور جديد، وكذلك إلى الثورات العربية عبر نظرة أوسع. فهناك ما يشبه الإجماع على أن هذه الثورات حققت نجاحها لأنها كانت ثورات سلمية، ولكن هذا الموقف لربما يحتاج إلى إعادة نظر. صحيح أن الثورات أعلنت بوضوح أنها ذات توجه سلمي، وقاومت الاستفزازات التي سعت إلى استدراجها للتحول إلى مواجهة مسلحة، وهو الميدان الذي تتمتع فيه الأنظمة القمعية بتفوق تحسد عليه. وقد تجلى ضبط الناس هذا في أروع صوره في اليمن، وهي بلد معروف بأنه يفيض بالسلاح ومتهم بأنه واقع تحت سطوة القبيلة. وكان من السهل جداً أن ينزلق ذلك البلد إلى الحرب الأهلية كما ظهر من الاشتباكات بين أنصار الرئيس وزعامات قبيلة حاشد التي ينتمي إليها خلال الأسابيع القليلة الماضية. ولكن المدهش هو أن اليمن قاوم مثل هذا الانزلاق إلى القبلية والصراع المسلح رغم الاستفزازت الكثيرة.
إلا أن الثابت كذلك هو أن هذه الثورات لم تكن سلمية بالكامل. ففي الثورة التونسية، وبصورة أوضح في المصرية، شهدنا قيام المتظاهرين باجتياح مراكز الشرطة والأمن وإحراقها ومقار الأحزاب الحاكمة أو بعض مباني الإدارات المحلية. شهدنا في ميدان التحرير كذلك المواجهة مع قوات الشرطة والأمن والبلطجية وردع هؤلاء وهزيمتهم. ولكن ليبيا هي الوحيدة التي تحولت المواجهات فيها إلى حرب أهلية حقيقية استدعت تدخلاً دولياً. وعليه فإن مزاعم النظام السوري عن لجوء بعض المعارضين إلى المقاومة المسلحة لا يمكن استبعاده ولا يمكن أن يقدح في طبيعة الثورة ومظهرها السلمي العام. فقد تعرض المواطنون السوريون لاستفزازات شديدة من قبل الشبيحة/البلطجية وعناصر الأمن والميليشيات. وقد يدفع هذا بالبعض للتصدي لهؤلاء، خاصة وأن التظاهر السلمي لم يعصم المحتجين من القتل. فقد يشعر البعض بأنه إذا لم يكن من الموت بد، فمن العجز أن تموت مكتوف الأيدي. وهناك إضافة إلى ذلك ما نشهده من انشقاق لعناصر من الجيش والشرطة والأمن لم تعد تطيق تنفيذ سياسات النظام الدموية. وهذه بدورها تواجه عواقب وخيمة لانشقاقها تجعلها تستسهل مواجهة النظام. وقد سعى الرئيس بشار الأسد في خطابه الكوميدي بالأمس إلى طمأنة هذه العناصر بأنها ستكون بأمان لو استسلمت لعناصره الأمنية التي تعرف من بطشها ما لا يسعها معه ابتلاع طعم الأسد.
ولا يستبعد مع ذلك أن نشهد تطوراً موازياً للحالة الليبية (وأيضاً لتجربة حماة في السابق)، أي نشوء مناطق ومدن "محررة" تقوم الجماهير فيها بالاستيلاء على مؤسسات الدولة وطرد القوات الحكومية خارجها، أو على الأقل مهاجمة وحرق بعض المقار الحزبية والأمنية. ويبدو أن شيئاً من هذا حدث في مدينة جسر الشغور. وقد يؤدي هذا بدوره إلى استقطاب يسمح بالتدخل الأجنبي. ففي الوقت الحالي يصعب التدخل الأجنبي لعدم تحقق فرز جغرافي كالذي حدث في ليبيا وقبل ذلك في كوسوفو. ولكن إذا تكرر ما وقع في جسر الشغور، وتعرض المدنيون لتهديد من القوات السورية ولم يكن هناك مخرج للجوء إلى الخارج، فإن تدخلاً خارجياً تقوده تركيا سيصبح حتمياً.
يمكن إذن تلخيصاً أن نقول أن ما يميز الثورات العربية ليس هو سلميتها المطلقة، ولكن ثقلها الجماهيري مع نزعتها السلمية الغالبية. هذا الثقل الجماهيري والوحدة الوطنية النادرة التي عبرت عنها الثورات هو ما حتم نجاحها. ولعل الدرس الأهم من كل ذلك هو أن عالم اليوم هو غير عام 1982، بل هو حتى غير عام 1996، تاريخ مجزرة سجن أبوسليم في بنغازي بليبيا. فلا الشعوب هي الشعوب، ولا العالم هو العالم.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]

 

آراء