عن رحيل صلاح حاج سعيد: لسة بيناتنا المسافة

 


 

 

ما يزال يذكر بوضوح تلك الامسية من امسيات السنتر، أو حرم جامعة الخرطوم الرئيسي البهيجة في رُشاش عام ١٩٨٤ ، ومعه صديق له هو خدن الطفولة والصبا والشباب والكهولة الماثلة الان ايضا، وهما يسيران في شارع النشاط، يتآنسان كالعادة ويلغطان في مواضيع شتى، فاذا بهما يتسمران قبالة الباحة الغربية الصغيرة المعشوشبة لكلية القانون، ليستمعا لاول مرة الى اغنية جديدة لمطرب تلك الحقبة الصاعد الى ذرى عرش الغناء والتطريب في السودان انئذ، الاستاذ مصطفى سيد احمد .. وكانت تلك الاغنية هي رائعة الشاعر الغنائي الشفيف ، الاستاذ صلاح حاج سعيد ، الذي فجعت الاوساط الفنية والادبية برحيله الى دار البقاء والخلود مؤخرا. ولعلها كانت اول مرة يؤدي فيها ذلك المطرب العبقري ، تلك الاغنية من على خشبة المسرح في حفل جماهيري عام. بيد ان المفارقة قد كانت هي ان حضور ذلك الحفل الذي اقيم في اطار اسبوع القانون، لم يكن كبيرا البتة، ولم يكن في مستوى تلك الاغنية المبهرة، ولا سبيل البتة بالطبع، الى مقارنته بالحشود الهائلة التي كانت تؤم حفلات مصطفى سيد احمد في زمان لاحق، منذ اواخر ثمانينيات القرن الماضي وحتى تاريخ وفاته في مطلع عام ١٩٩٦م، فقد صار الزمان غير الزمان، وبات كل الشباب يودون حينئذٍ، ان يكونوا مع الطيور " الما بتعرف ليها خرطة ولا في إيدا جواز سفر ". ربما لان تلك السنة كانت سنة شهباء مجدبة، أذهلت جميع السودانيين عن الاستمتاع بكل شي بمن فيهم طلاب الجامعة ، بينما كان النظام المايوي يترنح قبل سقوطه المدوي بعد اقل من عام واحد منذ تلك اللحظة.
وقد علق صديقي السميّع الذواقة، وذو الاذن الموسيقية المرهفة عندما الجمتنا الدهشة معاً ، واستبد بنا الطرب من فرط روعة تلك الاغنية كلماتً ولحناً وموسيقى وأداء، فقال: انه سوف يمر على الناس زمان طويل، حتى يتذوقوا هذا الغناء الجميل، ويقدّروا هذه الموهبة العظيمة حق قدرها، وقد صدق لعمري.
يا لروعة الاداء عندما يرفع مصطفى سيد احمد عقيرته بقول صلاح حاج سعيد في ذات الاغنية:
يوم تجيبني عليك بصدّق
إنو مرة الحظ طراني !!
تلك حنجرة ثكلى أخرى تضج بالمواجد، كما وصف صديقي الشاعر ابراهيم الدلال حنجرة المطرب الرائد ابراهيم عوض ذات مرة.
لقد قابلتنا هذه العذوبة الاسرة من قبل في الواقع في عمل آخر مشترك بين صلاح حاج سعيد ومصطفى سيد احمد ، هو اغنية " الشجن الاليم " التي جاءت من الحان محمد سراج الدين، والتي شكلت ضربة البداية الحقيقية في تقديرنا لمصطفى سيد احمد، كمطرب استثنائي، وكرسته فناناً كبيراً حقا، تبوأ موقعه بجدارة بين الكبار حتى ان احدهم قال: كما ان الشعر العربي قد افتتح بملك هو امرؤ القيس واختتم بملك هو ابن العميد، فان فن الغناء الحديث في السودان قد افتتح باحمد المصطفى واختتم بمصطفى سيد احمد، فكأنه ابتدأ بمصطفى واختتم بمصطفى، أو كما قال !.
ولا شك في ان مصطفى سيد احمد مدين في نجاحه كفنان، للاستاذ الشاعر صلاح حاج سعيد رحمه الله، وهو شاعر الروائع الخالدات على قلتها. تلك لعمري اغنيات مثل: لقيتو واقف منتظر أو يخلق من الشبه أربعين التي يؤديها الفنان الكبير الاستاذ الطيب عبد الله، ونوّر بيتنا التي لحنها الموسيقار بشير عباس وأدتها البلابل، ثم باقة فواحة الشذى من الاغنيات التي اداها الفنان الراحل الاستاذ مصطفى سيد احمد، الى جانب اغنية: يا جميل يا منتهى الإلفة التي اداها الفنان الشعبي الاستاذ حسين شندي، وذلك على سبيل المثال فقط. رحم الله الشاعر الكبير الاستاذ صلاح حاج سعيد وتقبله عنده في الصالحين.

 

آراء