لم أقرأ مباشرة إلا قليلاً مما ورد من انتقادات للملتقى السوداني الذي تداعت له في مطلع الأسبوع الجاري فئة من أهل الرأي السودانيين، ممن يعرفون يد الأوطان التي سلفت ودينها المستحق، وكان فخراً للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن استضافه في الدوحة المضيافة أبداً. ولكن معظم المشاركين في هذا اللقاء الأول من نوعه منذ بدأ الحراك الشعبي المبارك في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كانوا ينقلون إلينا ما يصل إليهم عبر الوسائط الاجتماعية (أو اللا اجتماعية أحياناً) من تساؤلاتٍ وتكهناتٍ ومطالبات. وقد شملت المداخلات تساؤلاتٍ مشروعةً بشأن مغزى اللقاء ومراميه، إضافة إلى مطالباتٍ بالمشاركة ما كان لنا أن نفي بها إلا إذا عقد اللقاء في ساحة عامة أو استاد رياضي. ولكن الغالب كان إداناتٍ مسبقةً للقاء ومراميه، ورمي التهم على المشاركين، بغير علم ولا بيّنة.
ولا علم لنا بهوية من كال التهم الخيالية للقاء ودوافعه، لأن قادة الحراك الشعبي أكّدوا لنا دعمهم الصريح، ولم نمض إلى عقد اللقاء إلا أن بعد قبول عدد من رموز الحراك البارزين المشاركة فيه. وكان هذا مما حفّزنا لعقده، ودفعنا إلى الطلب من المركز العربي استضافته، فلا معنى للقاءٍ يناقش الحراك وأهدافه ومآلاته بدون أن يكون لأهل الحراك مشاركة فيه. وإن كانت الظروف دفعت بعض المدعوين إلى المشاركة إلى الاعتذار، فإن رسائلهم التي وصلت إلي مباشرة بغير واسطة أكدت التقدير لهذا الجهد المتفرّد في التدبر العميق في التحدّيات والإشكالات، وتثمين نفرة طائفةٍ من أهل التفكّر في المآلات البعيدة، والتحدّيات المعقدة التي تواجه البلاد في هذه المرحلة. وكان هناك إجماعٌ بين المتصلين بأن هذا الجهد من الواجبات الملحّة التي لا تسمح انشغالات بعضهم بالنضال اليومي بالتصدّي لها، ولهذا يوجهون لنا كل الشكر للتصدّي لها في هذا الوقت الحرج. وعليه، فإنني أبرئ قيادات الحراك من الإسفاف الذي ساد بعض الخطاب عن الملتقى، مما لا يليق بأي حركة نضالٍ تدعو إلى الديمقراطية التي لا بد أن تكون عاقلةً ومتدبرّة، لا عمياء هوجاء من فعل الغوغاء ومن لا يعقلون، وأن تسع الجميع بطبيعتها.
وقد كان التعقل والحرص على مستقبل الوطن قد حفّزا المتداعين إلى عقد هذا الملتقى الأول من نوعه، من حيث جمعه طائفةً من أهل الفكر من مختلف المشارب والآراء، ومن حيث حرصه على إعمال الفكر المتعمّق والمتجرّد من كل تحيزاتٍ حزبيةٍ أو جهويةٍ أو نوعية، فقد حرص الملتقى على أن يضم في صفوفه أهل الشرق والغرب، والجنوب والشمال والوسط. ضم أيضاً ثلةً من أنصار الحراك، وقلةً ممن مؤيدي النظام وبعض "المحايدين"، مع تأكيدٍ مسبقٍ بأن الدعوة هي بصفتهم الشخصية سودانيين ومفكّرين. أكدت ديباجة الورقة كذلك على أن هذا اللقاء لم يكن له هدف تفاوضي، أو تقديم "مبادرات"، لأن من شارك فيه لا يمثّل إلا نفسه، وليس مفوّضاً من أي جهةٍ للتحدّث باسمها، ولكن القاسم المشترك لم يكن مجرّد التمثيل، وإنما الجدارة بالمهمة والعطاء الفكري المشهود، والقابلية للتجرّد من التحيزات. حرص الملتقى كذلك على إعطاء المرأة دورها ومكانتها، حيث أسند للمشاركات الكريمات رئاسة ثلاثٍ من جلساته الرئيسة الخمس.
قبل ذلك وبعده، كان عنوان المنتدى هو "ملتقى تحديات الانتقال الديمقراطي السلمي في السودان"، وشملته كل الدعوات التي أرسلت إلى المشاركين، حتى يكون قبولهم على بيّنةٍ بغايته الواضحة المعلنة، من تذليل العقبات التي تواجه التحوّل الديمقراطي السوداني، والحرص على سلميته. وقد جاء في مطلع الورقة الخلفية التي أطّرت للقاء أن باعثه الأساس هو إدراك المخاطر التي تواجه البلاد بسبب عدم التجاوب السياسي من النظام مع المطالب المتصاعدة للتغيير، وتصاعد الاحتجاجات والقمع بدون أفقٍ لحلولٍ توافقيةٍ، وفي غياب آلياتٍ مقبولة للحوار. كذلك أكدت ديباجة الورقة على أن هذا الملتقى فكرة وشأن سوداني خالص، تواضعت عليها ثلةٌ من أهل الفكر، بعد مشاوراتٍ واسعةٍ مع كل الأطياف، قبل أن تطلب من المركز العربي استضافته، جرياً على عادة سابقة في استضافات لقاءات سودانية، منها لقاء عام 2012. وقد رحب المركز مشكوراً بمجرّد أن عرف بوجود التوافق السوداني الواسع.
وأكدت الورقة أن المهمة الأولى للملتقى تحقيق وضوح الفكر والرؤية عبر دراسة متعمقة وتشاركية للوضع القائم من كل جوانبه، بدءاً من تحليل طبيعة الأزمة القائمة ومآلاتها المتوقعة، ودراسة مواقف وخيارات الأطراف الرئيسة فيها، والتدبّر في الحلول السلمية الواقعية التي تتوفر فيها شروط الشرعية الأخلاقية والقبول الشعبي. وقد حدّد الأسئلة التي طرحت أمام الملتقى في خمس محاور، أولها التوصيف الدقيق للواقع على الأرض، خصوصاً ما يتعلق منها بتوازن القوى بين طرفي هذه المواجهة. ويدخل في هذا سؤال مدى قدرة النظام على الصمود في ظل تصاعد الاحتجاجات ومحدودية الموارد، ومدى قدرة الحراك على الاستمرارية، والتقدّم للضغط باتجاه التغيير والحفاظ على الوحدة.
أما ثاني الأسئلة فكان بشأن السيناريوهات المحتملة لهذه المواجهة، في ظل ما ظهر من استعدادٍ للنظام لمقابلة تصاعد الاحتجاج بقدر أكبر من العنف. وقد طرح سؤال عن مواقف القوى الداخلية والخارجية، إذا أدى تصاعد العنف إلى خروج المواجهة عن سلميتها، وهل سيؤدي ذلك إلى تدخلاتٍ خارجية؟ وإلى أي حدّ يمكن أن تؤدي هذه السيناريوهات بالأطراف إلى تغيير استراتيجياتها، والبحث عن بدائل توافقية للحل؟
تناول ثالث المحاور تقييم مبادرات الأطراف السودانية من أجل الخروج من الطريق المسدود الحالي، وإلى أي حدٍّ تشكل خطواتٍ إلى الأمام، بحيث تقدم حلولاً تعجّل بالانتقال إلى وضع يحقق التغيير المنشود بأقل تكلفةٍ ممكنة؟ وإذا لم تكن كذلك، كيف يمكن تطويرها؟ وهل هناك حاجةٌ لمبادراتٍ جديدة؟ وهل المبادرات الداخلية كافية، أم هناك حاجةٌ للاستعانة بمساهماتٍ إقليمية ودولية؟
وفي المحور الرابع، جرى تناول تجارب السودان السابقة في الانتقال الديمقراطي، إضافة إلى تجارب الدول الأفريقية والعربية الأخرى، مع اهتمام خاص بعثرات الانتقال. وشمل ذلك الخلافات على طول الفترة الانتقالية، وحياديتها، وإشكاليات أولوية الدستور على الانتخابات، ومقترحات في تعزيز المؤسسات الديمقراطية، وضمان التمثيل العادل لكل المصالح والهويات. وشملت الأسئلة تحديات استدامة الديمقراطية، وما يتطلبه ذلك من ابتكار آليات توازنٍ بين متطلبات العدالة والتمثيل والفعالية وضمان حقوق الأقليات والفئات المستضعفة، وكذلك ضمانات حيادية مؤسسات الدولة ونزاهتها، وآليات العدالة الانتقالية، وإنهاء الصراعات المسلحة، وتوفير الجو لمعالجة سليمة للأزمات الاقتصادية.
أخيراً طرح سؤال الخروج من دائرة العنف الذي ظل يتحكّم في السياسة السودانية منذ ما قبل الاستقلال، وتصاعد إلى مستويات كارثية بعد عودة الحرب الأهلية والصراعات المسلحة في أنحاء البلاد المختلفة منذ مطلع الثمانينيات. وطرح سؤالٌ عما إذا كان انتقال الثقل إلى العمل المدني بعد انتفاضة 19 ديسمبر يمكن أن يمثل فاتحةً لنقلةٍ نوعيةٍ لإنهاء كل الصراعات المسلحة، وجعل الحوار، ومعه الاحتكام إلى الدستور والقانون، والقيم المدنية المتوافق عليها، محور السياسة السودانية. ويشمل هذا تعزيز دور القضاء المستقل، والإعلام، ومؤسسات المجتمع المدني. وفي الوقت نفسه، تجريم كل أنواع العنف غير المشروع خارج الدولة، ونزع سلاح المليشيات والتشكيلات المسلحة من أي نوع، وقصر استخدام السلاح على مؤسسات الدولة التي لا بد أن تخضع لسلطة القانون. طرحت كذلك محاذير تحوّل هذه الفرصة التاريخية إلى نقيضها، فيتحول قمع الاحتجاجات السلمية إلى مصدرٍ جديد للعنف، خصوصاً لو اتبعت الثورة السودانية السيناريو السوري أو الليبي أو المصري. وكيف يمكن تجنّب هذه المحاذير، وضمان سلمية العمل السياسي، ومن أسسه قيام دولة العدل التي لا تستخدم احتكار العنف لأجندة سياسية؟
لا مجال هنا لإيراد كل المداولات حول هذه النقاط، وأخرى أثيرت في أثناء الحوار، لأن هذا مجاله التقرير المفصل الذي سيصدره المركز العربي، بموافقة المشاركين. ولكني أختم هنا بملاحظة بشأن هذا الملتقى المتفرّد الذي شرّفني المشاركون بالإشراف على إنجاز متطلباته العملية، فقد حضرت أو نظمت، بحمد الله، خلال عقود، مئات الملتقيات حول العالم، ولكني أزعم أنني لم أشهد في أي ملتقىَ جديةً أكثر مما شهدتها هذا الأسبوع. كان الموعد المضروب لبداية المداولات هو التاسعة من صباح السبت، وهو يوم عطلة في قطر. وكان عدد من المشاركين وصل إلى الفندق في الثالثة صباحاً. ولكن كل المشاركين كانوا في القاعة قبل التاسعة ببعض الوقت، وبقي الجميع في مقاعده طوال الجلسات حتى السابعة والنصف مساءً، بحيث لم يكن هناك مقعد خالٍ. تكرّر ذلك في اليوم الثاني، حيث اضطر بعض الزميلات والزملاء إلى أخذ إذن تغيّب من العمل. وفي إحدى الحالات، اضطرت زميلة لتأجيل عودتها إلى العمل مرتين، وتكليف زملاء بسد مكانها في المستشفى، ما عنى أنها ستعمل ليلاً بعد يوم كامل من المداولات!