كنت وكلي أمل، وقد هلت تباشير عيد الفطر المبارك علينا لنفرح، ويتم إيقاف السيل السياسي الهادر الذي جرف ويجرف البلاد نحو الهاوية، وأن يتجه النظام لحل مشاكل السودان بالخروج بحلول جذرية توقف الدماء التي تنزف في: دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق، والإمكانات المهدورة في تجارة الحرب لتذهب نحو النمو المتوازن وإعادة البناء والتعمير. بل يحل العيد ويحمل في جعبته حربا جديدا، متمثلا في الازمة الاقتصادية - الاجتماعية الجاسمة الحادة(الغلاء الفاحش، الوقود، السيولة، افلاس البنك المركزي باعتراف وزير المالية، العطالة والبطالة، الفقر والجوع والعطش، الامراض ...)، المدمرة للبلاد. هذه الأزمات الدائمة الملتهبة ـ المتفاعلة مع السياسة المتبعة من أصحاب القرار والمسيطرة عليها نهج التدويل بالاستثمار للانتاج للخارج على حساب انتاج المواطن السوداني(سحق القطاعين الزراعي والصناعي)، لحل مشاكل السودان، أدت إلى شل قدرة وفعالية الدولة(اين نحن من تجربة نمور آسيا في التنمية – نالوا الاستقلال بعدنا-، هذه التجربة التي قامت على الحوار واشراك جميع فعاليات المجتمع بتطوير الانتاج الداخلي) ، بل وصل الامر ليصبح الفساد (الكلامولوجيا) في بلدنا موجة وموضة دارجة "لتنمية الوطن"، ويقبع في سماء سابعة، حيث يصعب الوصول اليه والتخلي عنه.
نعم لقد حل العيد هذا العام على النازحين واللاجئين والسودان عموم، ليس باليمن واليسر وإنما بالعسر والحزن والخوف، بل أتى ليغرق السودانيين مرة أخرى في الحزن العميق باستمرار قتل بعضهم البعض، و ليظهر كل فريق من فرقاء القتال شيئا من الابتهاج الوحشي عند تساقط الضحايا لدى الفريق الآخر... ولم ينتبه الجميع إلى أنهم ينتحرون وينحرون وطنهم عبر مباراة التقتيل الجماعي، التي يندفعون إليها خارج الوعي الذهني. هذه اللوحة القاتمة تعكس حلول عيد الفطر المبارك في السودان، الذي شكل ويشكل فيه الصراعات السياسية تهديدا مستمرا له بالتمزق في أتون الحروب الأهلية والقبلية.
ويؤدى سكان مخيمات النزوح واللجوء على سبيل المثال وليس الحصر: كلمة في جنوب دارفور، زمزم في شمال دارفور، الحميدية وخمس دفائق في وسط دارفور، واللاجئين في شرق تشاد، وأفريقيا الوسطى، أدوا فريضة شهر رمضان المعظم في بلاء وجوع وفقر مدقع. بل يعيشون الخوف والهلع من سيل القتل والنهب والسلب والترويع الممارس من القوات الحكومية ومليشياتها المعسكرة والبلطجية والحال كذلك في جبال النوبة والانقسنا. واصبح المجتمع الدولي شاهد زور، متمثلا في دور " برنامج الغذاء العالمي" الذي ساهم ويساهم بقوة في تجويع النازحين، وتطبيق سياسة النظام "الغذاء كسلاح " على النازحين الفقراء في المعسكرات. وفي نفس الوقت تقوم الدولة السودانية بالتبرع السخي بمئات ألوف الأطنان من الذرة والدخن واللحوم لشعوب خارجية، وابناء الوطن يموتون جوعا! بل نزل البلاء أيضا على ساكني العراء مع هطول الأمطار الغزيرة ، وجرفت السيول معها مساكنهم المشيدة من الكرتون والسعف والخيش، وتركهم في العراء والنوم على طين الوحل. كما اختلطت مياه الشرب مع مياه القاذورات الإنسانية والحيوانية، بل تراكمت جميعها في البرك لتجلب الروائح الكريهة والناموس والحشرات الناقلة للأمراض الفتاكة. يضاف إلى كل هذا الانفلات الأمني الممنهج ، والمليشيات المعسكرة نظاميا، والبلطجية، والمستوطنون الجدد الذين تم جلبهم من خارج البلاد، واستولوا بقوة السلاح على الحواكير والأراضي. ويُشبه وضع المعسكرات بيوم القيامة كقوله تعالى في سورة الحج: (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. صدق الله العظيم). هكذا انقضى شهر رمضان، واستقبل النازحون واللاجئون عيد الفطر المبارك بالحزن والبكاء، واليد قصيرة لا تملك حتى قيمة رطل البلح، الذي لم يتذوقوا طعمه طوال شهر رمضان الكريم...
بالعودة مرة اخرى لشاهد الزور، لابد من الاشارة لإستقالة المغربية الناطقة السابقة لقوات "اليوناميد" ، د. عائشة البصري، ولماذا تركت المنصب طوعاً والتاريخ يشهد لها(شاهد الفيدو في المقابلة التى اجراها الصحفي صلاح شعيب معها بندوة الاعلاميين السودايين بتاريخ 11.05.2014 في واشنطن). الرجاء الرجوع لهذه المقابلة للاطلاع على دور قوات اليوناميد في دارفور. وفي آخر المطاف، استقر الامر ان تصبح اليوناميد قوات "لانزال السلام، دون وجود السلام!". بل تكافؤ هذه القوات الاممية بإهدئها الدولة السودانية ارضا في موقع استرتيجي سياحي رائع في قولو بمرتفات جيل مرة، لتكون اكبر قاعدة عسكرية لها في افريقيا، لتنطلق في تنفيذ مهامها التي اوردتها د. عائشة البصري.
لقد أضاعت الدولة السودانية فرص لا تعوض برفضها مبادرة مولانا رئيس القضاء السابق، دفع الله الحاج يوسف، التي كانت ودأت الحرب في دارفور في مهدها. والحال كذلك المتفق بين النائب الاول السابق، علي عثمان محمد طه والعم احمد ابراهيم دريج في نيفاشا. وليس الحال افضل اتفاقية نافع – عقار تحت مظلة الراحل رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زيناوي بشهادة الرئيس السابق لجنوب افريقيا أمبيكي، ووزيرة الخارجية الامريكية آنذاك كلينتون، هذا الاتفاق كان ايضا ينجي البلاد من الدماء التي سالت ولا تزال تسيل في النيل الازرق وجنوب كردفان. نعم، ان سياسة الأخطاء القاتلة، والجهود المبددة، والفرص المضيعة، وعدم الالتزام بالاتفاقيات، واتخاذ القرار الأحادي، أدت جميعها إلى الوضع الخطير المتربع اليوم على صدر ما تبقى من أرض السودان. الاحداث المذكورة، تشكل واقع ما كانت تصبو اليه النظام. ولا اريد الرجوع الى ما حدث، بدءاً من ابوجا الى الدوحة، والتي لم تجلب إلا المسكنات، دون معالجة الداء في المناطق الملتهبة.
الازمة الاقتصادية الراهنة المعلقة على رقاب عموم السودانيين، ما عدا "القطط السمان"، ومعالجته، يحبذ الاطلاع على سبيل المثال على تحليلات ومقترحات الدكتور التجاني الطيب ابراهيم، البروفيسور حامد التجاني، البرفيسور حسن بشير، والقائمة اطول ...
لقد اصبح السودان وطنا ينحر من خلال كل الازمات العالقة المستمرة، وانكار الدولة لها. ان السلطة الحاكمة تختصر الدولة في نفسها. الولاء لهم هو الولاء للوطن. الوطن مقولة ميتافيزيقراطية تتجسد في ذواتهم، حاشيتهم امتدادا لهم. الدولة شئ آخر، هي الناس بعجزهم وبجرهم، هي الناس الاحرار الذين تنغرس الدولة في ضمائرهم. ضمائر الناس هي التي تقرر الدولة، لا تفعل ذلك الا بالحوار والنقاش. ولكن عندما تتحول الدولة الى طرف واحد فاعل او غير فاعل، تكون مجرد سلطة تتحكم بالفاعليات الاخرى، وتسيرها وتدعي تنميتها. بالطبع يكفر المواطنون ويترحمون على ايام ما قبل الاستقلال. لانها كانت هناك بنية تحتية واقتصاد وتنيمة موارد. واصبح الاقتصاد في يد طبقة جديدة موجهة من قبل السلطة من اجل الربح والنهب والفساد لصالح حاشية النظام والمقربين، وهم مشغولون بأمر السلطة وبقائها. واصبح الوطن ليس مكانا للعيش، بل منطلقا الى مكان آخر: الى الشرق والغرب كهجرة او الى السماء عن طريق الموت بالغرق. ويتحمل النظام االمسؤولية الكاملة لتردي الاوضاع الاقتصادية – الاجتماعية – السياسية ، وهي التي ادخلت الوطن في هذا النفق المظلم ولا أمل أو ضوء للخروج منه ، لان الاصلاح المرتقب والمقرحات جرفتها السيول والفيضانات والامطار.