عَـنْ فَـتـاةٍ شَــقِـيّة. .إسْـمُهَا فاطِـمَة

 


 

 

أقرب إلى القلب:

(1)
ليسَ كلّ من كتب كتاباً عن قصّة حياته أوعن تجاربه الحياتية ، يسلم من أمرٍ أو أمرين. . وربما ثلاثة أمور. .
أوّل الأمور التي ينبغي على من يكتب تجربته الحياتية - أو من يكتبها له قلمٌ آخر، أوتكون سيرة غيرية مَحضَة – أنْ ينأ ي عن حكايات تعطي الشخصية محور السيرة ، أكثر ممّا عـندها، فيقع الكاتب في فخ تضخيم الذات، فيبعد عن التواضع الموضوعي ,
الأمر الثاني، هو الجنوح بنية قاصدة أو بعفوية بريئة ، إلى كتابة جوانب وإغفال أخرى، بما قد يفضي إلى إضعاف المصداقية ومحورها الموضوعية، وإلى خلخلة الصدقية وهي التركيز على وقائع دون أخرى، وبما يقترب من الكذب الصُّراح .
الأمر الثالث الذي على الكاتبِ مراعاته ، هو أن يكتب شهادة خاصّة وصادقة عن تجربته في بيئته الثقافية بكافة جوانبها ، فليس له أن يكتب تاريخاً تسجيلياً ومدرسياً عن تلك البيئة، إلا بقدر تأثّره بما فـيها، وتأثيره بما تركه عليها. ذلك ما يعطي الكتابة جدتها وحيويتها.
تلك محض خاطرات طرأتْ على الذهن، ساعة اطلاعي على كتاب الأستاذة الجليلة فاطمة محجوب عثمان ، والذي عنونته "مذكرات فتاة شقية"، وصدر عن دار مدارات للنشر والتوزيع في عام 2019م. لم تعمد فاطمة على تضخيم داتها ، ولم تتعمّد إنتقاءاً أو إغفالا، كما راعتْ معايير الشفافية والصدقية في الذي كتبت. .

(2)
توزّعتْ أوراق كتابها من دفاتر ذكرياتٍ طازجة ، كتبتها بقلم سلس امرأة ذكيّة الذّاكرة، بهيّة الحضور، عن أيام طفولتها، وعن سنوات صباها، ثمّ عن عقود حياتها العمليّة . حين أمسكتْ قلمها – وهي المعلمة القديرة- جلست من عُلاها، تُمعن النظر وتستعيد آفاق حياتها ، وتسترجع كما في "فلاش باك" السينما ، وقائع فيها الطريف من سردٍ شائقٍ مِمراح، كما فيها المُحزن ممّا ينفـطِـر له القلب. في كلِّ ذلك، أجد في عتبات كتابها الصّدق كله ، إذ هيَ في "شقاوتها" سادرة لم تبرحها قـيـد أنملة، فوضعتْ تلك الصّفة في عنوان كتابها دون مواربة . في مقدمته الضّافية ، كتبَ صديقنا البروف عبد الله علي ابراهيم "الأتبراوي"، شيئا عن تلك الشقاوة فاستلف من لغة الفرنجة لفظ (trickster) ، وهي بالعربية أقرب إلى لفظ "المحتال". غير أنّي رأيت في ذلك اللفظ المُترجَم وما حوى من إضمارٍ سلبي، بعضَ ظُـلمٍ لفـتاة شــقـية في براءةٍ تصدر عن ذكاءٍ وقّـاد، خلتْ مقاصد أفعالها العفوية مِن الإضرار "الشرّاني" ، وإن جاء في وصفٍ قاله بعضُ جيران أسرتها، وهيَ تُمعن في شقاوة طفولتها: "تلـك المُنجِّضة الحَي". . ! لكنك تراهم أوّل من يسعى لالتماس التخفيف لدى والديها فلا ينزلان بها العقاب، وهو مستحقٌ في نظرهما.
حين أمعنتُ النظر في غلاف كتاب الأستاذة فاطنة محجوب عثمان، رأيتُ صورة امرأة لها عينان تشعّان ذكاءاً وتطفـر منهما "شقاوة أمدرمانية" بائنة. أقول لصديقي "الأتبراوي" العزيز : إن افتتاننا بأم درمان افتتانٌ لا يتزحزح، فهي مدينة آسِـرة بحق. .

(3)
كنتُ أدشّـن روايتي عن القبطي الأخير ، في نادٍ سودانيٍّ في بيروت عام 2018 ، وكانت الدكتورة آمنة بدري نائبة رئيس جامعة الأحفاد للبنات، حاضرة في تلك الأمسية الثقافية، فأنكرتْ عليّ قولي عن مدينتي أم درمان، أنّها مدينة مصنوعة. بالطبع ما رميتُ من قولي أنها مصنوعة مثلما يصنع النّجار الأثاث الخشبي . كلا. كان في بالي كيفَ اختار الإمام المهديّ عاصمته، بعيداً عن الخرطوم التي أنشأها "الـتُـرُك" ، إذْ كان أوّل حلوله قبل انتصار ثورته ودخوله الخرطوم، أن أقام بين ظهراني أهلنا بالفتيحاب والجموعية على ضفاف "بحر أبيض"، جنوبي أم درمان الحالية. . وشمالا حتى السروراب والازيرقاب وغيرهما، ثمّ صار البحران "الأبيض" و"الأزرق"، نهراً واحداً هو النيل، منبسطاً في واديه إلى مصر. . هكذا اختارها الإمام عاصمة لدولته، ومن بعد، جاء الخليفة التعايشي ليتساكن من جاء من مختلف الأصقاع السودانية، ومن كلِّ الإثنيات المتباينة، في عاصمة دولة الإمام. كانت تلك "بقعة المهدي" ، بقعة التساكن والتعايش والتصاهر ، من "فـِتـيح للخـوْر للمزالِـق . ."، وللمسالمة وحي العرب وأبي روف وبيت المال والعرضة وأبوعنجة والموردة والملازمين . . ثم كانت أم درمان تتخلّق كما شاءتْ لها فسيفساؤها الإثنية ، بسودانوية باهرة حـَقـّة. كثيرة هي المُدن السودانية التي شابهتْ أم درمان في تكويناتها الاجتماعية ، وفي تساكن عناصرها على اختلاف خلفيات أصولهم. إلا أنَّ أم درمان بقيتْ عاصمة وطنية ، فبـزّت سِواها من المُدن في صياغة جملة ثقافاتها من قيمٍ وأعرافٍ وفنونٍ ورياضة، باتجاه هوية جامعة. .

(4)
هذه الصبيّة التي أصولها في الشمال ، نشأتْ يافعة في الوسط الأم درماني ، وكسبتْ وعيها في تلك المدينة ، وارتوتْ من سقي نيـلها، ومن تنوّع أصول ساكنيها . وليسَ ما ننكره عليها، أنها شـبّـت في أم درمان "سَـينا" و "الهادي نصر الدين" و"بت بـتي" و"نصر الدين جكسا" و"صديق منزول" و "الكباكا" ، ومطربين وشعراء خرجتْ تسجيلاتهم من "حقيبة" صلاح أحمد، ولا يحصى لهم عدد. نشأت فاطمة بنت محجوب عثمان "ست الشقاوة"، في بيئة المدينة ، وعرفتْ أسواقها ودكاكينها ، ناس هريدي وجورج مشرقي وعباس رشوان والتيمان ، ومداخل "سوق الموية"، ومحلات شارع العدني، أوّل حيّ "الرّكابية"، وشارع كرري . شـبّتْ في حيّ "السيد المكيّ" فعرفت حواريه وبيوته ، الأسر الكبيرة فيها والصغيرة. تابعتْ زفّـة المولد في محيط جامع الخليفة، وبعد أن استهوتها "بِت أم لِعاب" أياما، هاهي تتلمّظ شـفتاها بعرائس حلاوة مولد حقيقية، وبالسمسمية والفولية، ليسَ بعيداً عن سوق "الزلعة" المجاور. .

(5)
ها هي واقفة وحدها في كتابها وما حوى من مشاهدات عاشتها، ورصدتْ بعيونٍ فاحصة وقائع تفاصيلها . بعضها كانت شاهدة غير معنية، وبعضها كانت هي طرفٌ فيه، وبعضها كانت هي بطلته بلا منازع . نالتْ فاطمة في كلِّ ذلك، ما كسبتْ من ثناءٍ وتقريظ ، ولكن أيضاً مِن عقابٍ وجلدٍ بالفلقة على يدِ والدها ، أو بقرصات في الورك بـ"مصاصة" التمرِ من يـدِ أمّهـا. كلّ ذلـك لا يتم إلا بحضور شهود يثبتون وقائع بعض شقاواتها وفيهم إخوة لها ، بينهم من تجلّه وتعـزّه ، ويجلّهُ معها ويعـزّه لاحقاً سودانيون كثرٌ، وقد استشهد في ملابساتٍ انقلابيةٍ، تحت مقصلة جبارٍ ظُلما .
وقف شاعرُ السودان محمد الفيتوري وقتذاك، يرثي شقيق فاطمة "ست الشقاوة" ، في بكائية بعد استشهاده تحت المقصلة، فكتب :
صَــوْتـُكَ
بـيـرقُ وَجهِــكَ
قـبــرُكُ. .
لا تحفـِروْا لـيَّ قـبْــرا
سـأرقُـدُ فـي كُـلِّ شِـبْـرٍ مِـنَ الأرضِ
أرقُـدُ كالـمـاءِ فـي جَـسَـدِ الـنـيْـلِ
أرقُـدُ كالـشمـسِ فَـوْق حُـقُــولِ بـلادي
مِثـلِـي أنـا ليـسَ يسْـكُن قـبـــرا . .

إنّهُ الشهيد عيدالخالق محجوب عثمان. .
تلك قصيدة رثاءٍ صادقة بليغة، كلفتْ الشاعر محمد مفتاح الفيتوري إسقاط الجنسية السودانية عنه، وهو المُسلاتي إبن الجنينة. .

(5)
كتبتْ الأستاذةُ فاطمة محجوب عثمان، بنت أمّ النصر، كتابها عن أيامٍ عاشتها . عن لحيظات حياة لم تزِد عليها، إلا بما رأتْ وبما سمعتْ . حكتْ عن شقاوتها . عن براءة الحكي عن بعض المسكوت عنهُ دونما مُبرّر. حتى وإن لم يرِد في كتابها شيءٌ عـن شقيقها الشهيد ، تظلّ روحه هائمة في صحبة سطورها عن الأسرة ، حضوراً بهياً في ذلك الغـياب النبيل.
قال الشاعر التُركي المناضل ناظم حكمت :
أجملُ البحَــارِ،
هُو البحرُ الذي لم تذهب إليهِ بَعـد
وأجملُ الأطفالِ،
هُم الذين لم يكبروا بعد
وأجملُ الأيام،
هيَ التي في انتظـارنا
وأجملُ القصـائد،
هي تلـك التي لم نكتبها بعـدْ

وأجمل الكلام وأصدقه، هو ذلك الذي لم تكتبه لنا فاطمة محجوب عثمان، عن شقيقها الشهيد. .
غيرَ أنّ ما كتبتْ تلك المعلمة الحصيفة من توثيقٍ، أسـماه صديقي البروف عبداللهِ علي ابراهيم: "إثنوغرافية المدينة" ، فإنّهُ سَـردٌ أمـدرمانيّ صادقٌ وشـفيف، عن سنوات الخمسينيات والستينيات (وإن تجنبت الكاتبة إيراد أيّ تاريخ ميلادي مُحدّد) ، وتوفّر مادته ينابيعَ لكتابةٍ إبداعيةٍ أوسع مساحة ، عن وقائع غاية في الطرافة ، وعن شخصيات - إناثاً وذكورا- وكـأنّها استدعتهم من أحلام طفلة ، شـغـفـت شـغـفاً ملكَ عليها لـبّها بكلّ الذي رأتْ والذي سمعتْ في مدينتها تلك . حدّثتْ فاطمة محجوب عن "عم جادو" بائع الفواكه. عن "حاجة حليمة" والاستدانة التي أغضبت الوالد، ولكن أكسبتْها تعاطف أخويها علي وعبدالخالق. حكَتْ عن نسوان الزّار وعن نساءٍ مشبوهات. عن "هِـلانة" وبيت الخياطة. عن "أم بليـنا" وأغانيـها : "ود أبْ رنّاتْ. .قاضي القضاة". عن مسرح أقامته من فوق طاولة المكواة في بيتهم، وَعن العجوز "أبو الكِر" وزوجته |مدينة"، وعن آخرين كثر. .
هذه "فاطـنـة السّــمحـة" ، وقد خرجَــتْ من بطــن الأحاجـي في حيّ "الســيّـد المــكي" بأم درمان، وكتـبـَتْ لنا كتـاباً عـنوانه : "مذكـرات فـتـاة شـقـية". . .

أم درمان- أول سبتمبر/أيلول 2021

 

آراء