عَنْ رَجُلٍ لا يُمثلنا في الجامِعَةِ العَرَبيّة

 


 

 

(1)

محبّة الوطن ليست درساً نتلقاه في المعاهد- برغم نبل مقاصدها- لكنه الدرس الذي  نتلقاه  منذ لحظة الميلاد  عند ارتضاع حليب الأم.  إن الذي التقمه الطفل ، ليس سائلا أبيض فحسب، بل هو ضياء  من روح  الأم، يلاقي بريق محبّة  ذلك الطفل  لأمه  التي حملته وهناً على وهن .

تلك هي  الإشارة  الثرية بالحكمة ، التي أطلقها الراحل الطيب صالح، حين أمعن النظر في حال وطنه الذي أحب، فرأى أناساً أحبّوا وطنهم وكأنّهم يكرهونه، زادوا علل وطنهم  مدّعين أنهم مرسلون لطبابته.  أمعنوا في خنقه بزعم أنهم قادمون لإحيائه.

أولئك نفرٌ جبلوا على محبّة أنفسهم بإفراط مصطنع، لا على محبّة أمهاتهم بتواضع الفطرة.  لكأنّهم  رفضوا الأمومة والأبوّة والأخوّة ، فيتّموا أنفسهم بجائحة الكراهية لتنمو أنانيتهم ، قهراً وفساداً وإذلالاً  لبني وطنهم. إنّهم أحبّونا لثلاثين عاما، لكنّها  محبّة الكراهية  والحذق في بناء الدمار، وفي تجويد إذلال  أمتهم.  الظنّ أنهم  لم يدركوا- وهم أدعياء التفقه في الدين- أصل كلمة الأمة في اللغة ، ومعناها مشتقّ من الأمومة التي ما عرفوها . .

أحد أزلام تلك الفئة ، شخصٌ يحتل منصباً مرموقا وبإسم السودان ، في  جامعة العرب العاربة والمستعربة، يعلف  مع العالفين فيها ، وهي جسد رميم لا حياة لشعوبها فيها . خرائب على شط النيل في قاهرة المعز، تمرح في ذلها.  ليس ذلك مقام انتقاد تلك  الجامعة التي لم تجمع وقد تجمعوا بإسم شعوبها، لكنها جامعة حكّام لا محكومين ، جامعة  خريف العرب  المتوجسة دوما من مواسم ربيعهم.

 

(2)

قبل أن احدّثك عن ذلك  الرجل،  دعني أحكي لك عن أم درمانيّ شاعر ودبلوماسي سوداني عالي المقام، إسمه صلاح أحمد ابراهيم.  هو ممّن ارتضع محبّة وطنه  على النحو الذي أوضحته لك في الأسطر السابقة.  وإني أذكر هنا أني لأقلَّ الناس تزيّداً  بانتمائي لتلك المدينة الحبيبة أم درمان. . وإن أرضعتنا  من حليبها محبّة الوطن ، وما كان فصالنا  في عامين،  بل  حتى بلوغنا بإذنه تعالى، أواخر العمر.

في أوّلِ مهمة لي في وزارة الدبلوماسية أواسط سبعينيات القرن العشرين، جئتُ إلى الجزائر عاصمة الجمهورية الجزائرية للمشاركة ضمن وفد سوداني في  مؤتمر اقتصادي، تنظمه اللجنة الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة لأفريقيا . قدِمْتُ فرِحاً إليها وما تهيّبتْ المهمة،  قدر تهيّبي للقاء سـفير للسودان هناك،  هو قامة سامقة، ومن أبناء مدينتي الحبيبة  المستنيرين أدباً ودبلوماسية . سألتُ فور وصولنا الجزائر عن سفيرنا صلاح، فقال لي القائم بالأعمال في سفارة السودان تلك، أنّ السفير غادر في مهمة خارج الجزائر ولم يفصّل في الحديث. ذلك تبرير دبلوماسي حصيف ، غير أن المبرّر كان غير ذلك ، إذ عرفت التفاصيل إثر عودتي من تلك المهمة.

علمت ممن حدثني همساً  في الوزارة، أن السفير صلاح أحمد ابراهيم قدّم استقالة مُسبّبة  وغادر مقر عمله نهائيا إلى العاصمة الفرنسية، بل وغادر وظيفته الدبلوماسية بكامل متعلقاتها.

واستقصيت فعلمت أكثر من ذلك الهمس، أنّ السفير صلاح بلغته شتيمة لاذعة لدواعٍ سياسية   من رئيس الدولة،  نحو سيدة فاضلة  هي فاطمة أحمد ابراهيم  شقيقة السفير صلاح . لم يرضَ صلاح- وبحكم تقديره الشخصي -  أن يكون سفيراً لنظامٍ لم يراعِ رئيسه  أنّ له سفيراً يمثله في دولة عربية  شقيقة  سيتناهى إلى سمع مسئوليها  أن رئيساً لدولة  يُسيء لسفيره عندها على هذا النحو.  خرج صلاح إلى فرنسا ، ليس من وطنه ، بل من  نظامِ لم يعطه احتراما ولا تقديراً لائقا.  لم تكن كرامة صلاح، إلا طرفا من كرامة وطنه ومحبته له.

 

(3)

دعني بعد تلك القصة، أحدثك عن رجلٍ  إسمه كمال حسن علي  وهو من أبناء النظام البائد  المُخلصين،  رضع من ثدي "الانقاذ" سنين عددا ، فتدرّج من  مشرف على معسكر ليافعين أسموه "الدفاع الشعبي"، وهو في الحقيقة  معسكر أقيم في مدينة "العيلفون" جنوبي الخرطوم،  لتأديب الصبية وإذلالهم ، وتهيئتهم للإذعان لنظام القهر السائد آنذاك. بعدها  كلف الرجل ليدير مكتبا لحزب النظام المباد :  "المؤتمر الوطني" اللافتة الأمنية للنظام في العاصمة المصرية.  ثم تدرَّج ثالثة ، ليكون سفيراً للنظام البائد في القاهرة ، وليس له في الدبلوماسية ، إلا من خبرة "قنصلية" محدودة   في مراقبة  من يعارضون نظام "الإنقاذ" في مصر.

ثم يتدرّج  الرّجل مرّة رابعة ، ليصير وزير دولة  في وزارة الدبلوماسية، فيرشحه نظام "الانقاذ" المباد لوظيفة سامية في أمانة جامعة الدول العربية.  هو حتى لحظة كتابتي هنا، لا يزال يشغل وظيفة  مساعد الأمين العام للشئون الاقتصادية في أمانة الجامعة العربية.

 

(4)

لا تسألني  كيف  بقي الرجل مستقرّاً في وظيفة صاغتها له أصابع المحسوبية في أيدي نظام "الإنقاذ" المباد ، ولم تتمكّن أيادي ثورة ديسمبر - وهي تدخل عامها الثالث- من زحزحة هذا الرّجل الذي لا يستشعر أن ثورة نبيلة أطاحتْ بسدنة نظامه المباد،  بل ولا يستجيب لطلب أولياء الدّم ، محاسبته على ما اقترف من سيءِ الأفعال في مجزرة  طلاب معسكر "العيلفون"، كما لن  يستجيب جكما ، لمساءلة تنتظره  حول مخالفات ارتكبها إبان فترته سفيراً  للسودان في القاهرة.

لا تسألني  عمَّن يحمي ظهر الرّجلِ ، أويستبقيه في منصب لا يستحقه ، مُمثلاً لنظام ثوريّ في للسودان لا ينتمي إليه . إني  أتصوّر أنك تدرك ، يا عزيزي القاريء، كيف تستضعفنا الأقدار أمام  من نحسبهم إخوة أشقاء ، فلا تغيب عن أنظارنا ما يضمرون.

 

(5)

لا تسألني أينَ ذهب ضمير الرّجل،  أو كيف لم تستيقظ كرامته -إن بقيَ فيها شيء – فيقدم على استقالته  من المنصب الذي لا يستحقه ، قبل أن تطاله  أيدي العدالة  في بلاده التي لا ولم يمثلها في يوم من الأيام.  ويزيد عجبي  على جامعة عربية  تنهي مهمة  سفير ودبلوماسي مهني ضليع،  مثل السفير عبدالمنعم  مبروك ، الذي كان سفيراً للسودان في القاهرة قبل "رجل الإنقاذ" ذاك، وأدار مكتبها  في نيروبي بحذقٍ وحصافة ، فتتخلص منه أمانة الجامعة  باستغلال ضعف حراك سفارتنا في القاهرة .  في ذات الوقت يتضاعف عجبي لاستبقاء  أمانة الجامعة  سودانياً  ليس له في الدبلوماسية من شيء، بل يحتمي بالبقاء في منصب الأمين العام المساعد،  خوف ملاحقة  تنتظره  في الخرطوم..

 

(6)

من رضع من ثدي أمه حليب الأمومة الحقة، لأدرك كيف تكون قيمة المحبّة لوطنه .  فلا تسألني  بعدها ، كيف تستيقظ الكرامة  فيمن لم  يحب وطنه .  ليتك يا هذا ملكت أحاسيس شاعرٍ نبيلٍ مثل صلاح أحمد ابراهيم،  لغشيتك إذاً  سحائبُ محبّة الوطن  وغمائم كبرياء الكرامة،  فتغادر المنصب قبل طردك منه ذليلا.  لكن دعني  أسألك من أيّ ثدي ارتضعت ، وإلى أي فئة انتميـت. . ؟  ألست أنت من الفئة الباغية التي قال عنها الراحل الطيب صالح : كارهي أوطانهم. . ؟

إني أدعو ثوار ثورة ديسمبر المجيدة  ، بل وأحرّض شبابها  علانية، لسحب  كل  ما يثبت إنتماء ذلك الرّجل  إلى  السودان، فلا ملك قيّمه ولا كرامته.

 

2 أغسطس 2021

 

 

آراء