عِشقٌ هادئ في مُنتصف العُمر

 


 

 

abdallashiglini@hotmail.com

 

  

   انزلق الشِعر من جيوب لُغة النثر ، وفرّت عصافير الهوى تُقلِّب الأمزِّجة  من غُبار الكَدر إلى غيومِ النَّدى تتجمَّع في السماء تُخفي الشمس ، فيبدو لنا قُرصها رسماً من ضوء تحت عَباءة  سحاب ساقته الريح  .

 

  جاءت هي من بعد زمان تُعاتِب عاشقها عبر الهاتف النقال  أنه لم يكُن هناك ساعة الانتظار ، فَرَدَّ عليها :

 

ـ إنني أشاهدُكِ الآن صوتاً وصورة .

 

    حَزَم الدّم أمْرَه وتجمَّع أشتاتاً حمراء من خلف الوجنتين خجلاً.  قال العاشق لنفسه :

 

ـ ما أجملها  شجرة عُمرٍ أينعت ولم تَزل بورقِها وثمارها ناهضة إلى السماء يرنو إليها المرء عن قُرب ويتجمَّل .  تُظللكَ  هيَّ بالرَياحين . رَجَّ العُمر عَجينها فَخَرجت يانعة وضّاحة تُسكِر الشَّاربين بغير شراب . هيَّ قِدر خُرافة ، به كل ما يتمنى المرء ليستطعِمْ ، وعلى نار عُمرٍ هادئة نَمَا ذِهنها فارد الجناح .  جسدها رَسَمٌ ببنانِ نَحّاتٍ  مُبدع .

 

   قالت تصف له يوم الانتظار في باحة القُدوم عند المطار :

 

ـ كنتُ ذلك المساء أتقَّلب في حَيرة ، كيف نُدبر أن نلتقِ  خِلسةً دون عِلم مَنْ مَعي ؟ . أنظرُ حولي وأتَفرَّس الأوجُه لعلي ألمحُ صورتكَ بين الغادِين أو أراكَ تتجوّل بيننا . تَوسطتُ مكاناً بين ابنتي  وابني  .جلسنا جميعاً نراقب القادمين من الوطن وأنا موزّعة الأهواء بين أن أراكَ و بين شوقي للقاء شقيقتي الكُبرىHkh l,.um hgi,n fdk; H . كنتُ مُحاصرةً : أمٌ نذرت نفسها أن تكون صدراً لمن يغلبه البُكاء بسبب أحمال الدُنيا  و غطاء تدفئة : هيَّ الأمومة التي قَبَض العُمر على عُنقها وأحاطها بهالة من نار . أنتَ تعلم أني امرأة  مُطلَّقة بِرغبَتي  و تعلم أن العُيون في كَوننا الاجتماعي تتَرقبني ترقُُّب الصيد عند المُنعطفات ومخابئ العُشب ألا أكون إلا تمثالاً أسقطه النَسيان أو جسداً بلا رَوح  ! .

 

    قال  باسماً :

 

ـ كنتُ هناكَ ! .

 

    فَرَدَتْ الدهشة أثوابها من فاهٍ يكشف لآلئها والعينان اتسعتا لتأخذ من الضوء أكثر مما احتملهُ الجمال المبثوث . بَدَتْ غير مُصدِّقة وهي تقول  :

 

ـ أ صحيح كنتَ هُناك ... من أي المهابط ؟

 

   اتسعت الابتسامة وهو يقول  :

 

ـ نعم كنتُ هناك . رأيتُ أضواءكِ تنبعثُ من المخبوء تحت ثوب البنفسَج الداكِن البهي ، تملئين فراغ الأمكِّنة بالوَدَاعة . لبِستُ ساعَتها ما يُخفيني وتسلّلتُ قُرب جنبَكِ الأيسر ولمستُ طرفاً من ثوبكِ  ولم تَلْحَظين وُجودي.

 

  ضحكَتْ وقالت :

 

ـ أنتَ تُكذب !

 

 قال :

 

ـ  أرقَّ حديثٍ بينَ عاشِقَين ما احتَمَلَ أكثر من مَعْنى .كذبتُ  أنني لم أَمسّ رداءكِ الفضفاض إلا بناظريَّ ولم أُكذب في كل الذي رَويت ، لكنني حضرت أفراح المكان بكِ . كنتُ أتجوَّل  بضع أمتار عن صَلصالَكِ المُتحرِّك بالأنوثة والجمال .

 

   أطرقَتْ هيَّ تُفكِّر ، فقال لها يكَفكِف ثوب الحَيرة :

 

ـ كيف حال  ( سَامر ) ... ابنَكِ ؟ .شاهدته ذاك اليوم و قد نهض يبدو أكبر من عُمره . نظراته الخفيضة والمسروقة من الانتباه إليكِ ، فيها الكثير الذي لم أفهمه .

  

   قالت كأنها تهربُ من غرابة حبيبٍ يتحدث بلسان صدقٍ هوَّ أقرب للكَذب :

 

ـ أ رأيته ؟

 

   قال مُبتسماً :

  

ـ ألا تُصدقين أني كنتُ هناك !

 

  قالت :

 

ـ  قلبي يُصدِّقُكَ والبقية في حَيرة ... نعم ( سَامِر )  يعلمُ أنني قد أصبحتُ أماً وأباً  بعد أن رحل والدهم من المسئولية  إلى مكان بعيد ، وترك أبناءه لأسرَّة المَهاجِر الباردة . ( سَامِر ) في نظري طفلٌ  رغم أنه في مُقتبل العُمر . نظرّته إليَّ من وراء شُرفاتٍ بعيدة في الذهن أو من وراء  قَصص الأتْراب  يبدو كأنه حارس من حُراس قبيلة رعوية من قبائل الوطن . حَمل من المسلك الموروث ما  أوكل له الحفاظ على الرخو من فجوات الأنوثة التي يدلُف منها الغُزاة . أصبح رجل البيت الصغير ! . يعبأ  بأمري كأم وكامرأة تحتاج سنداً أو قريناً ولكن نفسه تأبى أباً آخر . يرى هو أحياناً أنني لم أزل فاتنة أفوق منْ في عُمري من السيدات نضاراً وحيوية وجمالاً ، إذ أبدو كأني أخته الكُبرى !. ذهنه يتقلب حين يتفكَّر أنني أُم  وامرأة اختلطا في عجينة واحدة  ربما يرغب رجلٌ ما  أن يصطادها لمسكن العُشرة  ، أو أباً  تأتي به الدُنيا ذات صدفة و ينـزِع الأمَ عن أبنائها لمخدعه . عندها يهتـزّ سقف الأمومة  الذي يحمي من الجفاء  ، و إن جاءت  الدُنيا بمثل تلك الصُدفة  ، فهي مِن  السُنن التي تجُرّ في أذيالها الحُزن مخلوطاً بفرقعات الفرح .

 

 في ذلك اليوم التقى الأهل جميعاً بعد طول فراق  .  إنه يوم لم يكُن في الخاطر . جئتَ أنتَ كما تقول: حبيبٌ في الخيال ، تلصصتَ بين الجمهَرة . عاشقة تنتظركَ تتلفَّت من قلقٍ ومن خوف . لقيت شقيقتي  من بعد زمان . ضامرة هي أتعبها مرض لا تعرف عنه كثير شيء . جاءتنا لُنضمِّد الأنفُس من جراحاتها. حالها : نصف إعياءٍ وشرود ذهن . حملتْ معها بطاقات وصوراً ضوئية وأوراقاً بها الكثير من تنجيم الأطباء عندنا في الوطن ! . يوم غريب الأهواء كمهرجان الغجر في أقاصيص القرى البعيدة ،  اختلطت فيه أفراح الدهشة بالخوف و بتعب يُعشش في دواخل من يُفرِحون الناس  .

 

تلوّنت نفسه بألمٍ  داخلي ، وقال :

 

ـ ألف سلامة لتوأم الروح ، ألف سلامة .

 

أطرق هو بُرهة وأكمل :

 

ـ  لقد كنتُ جواركِ ، أراكِ ولم تنتبهي . نَهَضَتْ أمام عينيكِ غيومٌ و أستار  . لَمحتُكِ تتلهَفين للقاء الأُسرة ، لعل الهواء المُتجدد ينفُث خيراً عند مقدم الواردين  وتفتح ذكريات الطفولة نافذتها ، فعذاب القابضين جمر الوطن يحتاج من يُخفف عنهم وطأته الثقيلة على النفس . حقيبتي صغيرة لا تشبه حقائب القادمين من السفر . جلستُ أنا بعيداً أرقبُ  وأتجمَّل بنافثات الضحك وأنتُم تتسامرون جميعاً . تتنسَمون مقدم الأحباء ببشائر الأضياف ، فصفاء السريرة  وروح الانتظار في مهابط الدُنيا تمنح قدراً من الترقُب السعيد . فالبعيد الذي تُقربه الدُنيا بسفائن الريح ومطارات المُسافرين تسُر رؤيته وتُفرِحْ  . تبتهِج الأنفُس وتجدُ لها مَخرجاً من لظى نار المهاجر .  

 

تكوّرت عيناها من الانتباه  . أطرق هو بُرهة ثم استطرد :

 

ـ لقد كنتُ جواركِ  أراكِ في باحة القادمين ولم ترينني ! . جلستُ للقهوة الساخنة في مقاعد الهواة مع من يُتقنون جلوس الوحدة ، فلا مُستقبِل ولا أنيس . بعيداً قرب طاولة منـزوية تَسمَّرتُ إلى مقعدٍ  يجعل مُشاهدتكِ نُـزهة من على البُعد . تجولت بناظريَّ أترصد الانتباه . قلبتُ سِفراً بين يديَّ يتحدث عن كيف تكون الكتابة عن التاريخ  ، جئتُ به كي أُخفي شوقي إليكِ بالأعذار . تمهّلتُ في الباب الأول من السِفر ووقفتُ عند الرؤى وطرائق سرد التاريخ ومحاذير الانزلاق في الروايات و غَش المصادر.

 

  انتظرت أن أستفرد بلمحة أو نظرة عابرة تُنبِهكِ أنني أشهد الحضور كصحافي لا دور له في فعل أصحاب القرار . انتظرت كثيراً لعل هنالك مَخرجاً فلم يتيسر الأمر. بين ساعة الانتظار وبين حسرة أنكِ لم تُبصرينني ، نهض بيننا سياج من حصار الأقربين . التَفَّوا مَنْ حولكِ  ببهجة ونضار فتهيبتُ أن أكسر الأُلفة بينكم وأنهضُ حاجزاً سميكاً بالتَكَلُّف .سيصبح ذاك اليوم تاريخاً مُعلّقاً في الأسقُف التي تعلو الأمكِنة العامَّة التي تموج بالبَشَر .  تبخَّرت الجلسة الموعودة معكِ . كان أملي أن نكون وحدنا وأغسل نفسي من غُبار علقَ بها ونستطعم شريحةً من فاكهة الدُنيا بُرهة زمان...

 

  ( رغم الوِلاد والنَّاس ) .

 

   تبخر الحُلم في زحام الأضياف وصدى الأصوات والضجيج الذي يرتد عن الحوائط التي تُطل علينا. تسلَّلتُ عند خاتمة  المطاف بخُطى كل واحدة تهزِم الأخرى  ورحلت !.

 

قالت تُغالب نفسها :

 

ـ لا تبتئس . نلتقي اليوم  إن شئت فقد فرغت مما يشغل . أنتَ  تختار الزمان والمكان ..

 

قاطعها تنهُده بصوتٍ مسموع فتوقف حديثها .  استعاد تَنفسه الطبيعي قائلاً  :

 

ـ أريد أن أسمع صوتَكِ يُهدهِدني إلى أن يموت إرسال الهاتف . فبيننا بُرهة زمان قبل أن تُقلِع  الطائرة لتعُد بي من حيثُ أتيتْ . لا وقت لنلتقي فأنتِ تعلمين عبودية العصر و قهره . في المرة القادمة أعدكِ أننا سنلتقي في سعةٍ و سنحتفل بطقس الحُرية ما وسعنا إلى ذلك من سبيل و سنُخيط معاً ثوباً جميلاً من أكذوُبة قديمة صنعناها لسامِر وأخته  : مَنْ أنا ؟ و ما الذي  بيننا ؟ .لم تعُد أكاذيب الأمس  تُناسب .

  

عبد الله الشقليني

 01/04/2007 م

 

آراء