عِلل الاتفاقيات والمواثيق الدستورية، في نصوصها أم في موقعيها؟

 


 

 

ابتداءً من اتفاق مؤتمر المائدة المستدير الموقع في جوبا 1965م، وليس انتهاءً باتفاق جوبا للسلام الموقع بذات المدنية عام 2020م، خلال 55 عاماً، التاريخ شاهد على توقيع ما تجاوز الأربعين اتفاقية سلام على وجه الخصوص، ناهيك عن اتفاقيات الصلح الموقعة بين القبائل السودانية، بغرض فض المواجهات المسلّحة بينها. يضاف إلى هذا العدد، الوثائق الدستورية الموقعة بين الحكومات والمعارضة المدنية، على شاكلة الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية الموقعة عام 2019م.

التاريخ يشهد كذلك على أنّ كافة هذه الاتفاقيات والوثائق الدستورية، تم الالتفاف عليها، ولم تنّفذ نصوصها حرفيا، بما في ذلك اتفاقية نيفاشا، رغم تنفيذ جوهرها المتمثل في فصل الجنوب. فأين مكمن الخلل، في هذا الكم الهائل من الوثائق، في نصوصها أم في الموقعين عليها؟ دعونا نحاول سبر أغوار هذه الإشكالية، بغية العظة والاعتبار من الماضي التليد والقريب، لتفادي تكرار ما يمكن تفاديها في حاضرنا الماثل، سيما وأنّ هنالك وثائق أخرى، قد أينعت وحان وقت التوقيع عليها.

· يلاحظ أنّ الطرف الحكومي، غالباً ما يوقع على الوثائق مع الثوار المسلحين والمعارضة المدنية، وهو مرغم مرحليا، لذا نجده يبّيت نية النكوص عنها، ويضمر الانقلاب على ما يوقع عليه، إي افتقار حسن النوايا، من أحد الأطراف على الأقل.

· يلاحظ أنّ نصوص الكثير من هذه الوثائق والاتفاقيات، فضفاضة وغير مُحكمة الصياغ، مما يسّهل تأويلها من كل طرف على حسب هواه، الأمر الذي يغري الالتفاف حولها.

· حسب مناهجنا الدراسية، لا نهتم كثيرا بضبط أحرف النصوص، سيما حركات الأحرف الأخيرة، وغالباً ما نلجأ إلى قاعدة "سّكن تسلم" السهلة. وجدت مقارنة منهجية للمفكر الراحل أبو القاسم حاج حمد، بين منهجيّ الفرنكفونية والأنجلوفونية، ويقول فيها أنّ الأولى أكثر ضبطا وإبداعا، مقارنة بالجنوح إلى التقليد في الأخيرة، مستشهدا بتميز الزعيم إسماعيل الأزهري، والأديب معاوية محمد نور خريجي الجامعة الأمريكية بيروت على رفاقهم خريجي كلية غردون التذكارية.

· يرجع الدكتور النور حمد، "السبهللية" السياسية، إلى غلبة العقل الرعوي على الحضري في السودان، حيث يقول فيما معناه، أن الرعاة في البوادي، يتعاملون مع فضاء مفتوح، يتحاشون الدخول في الأُطر الزمانية والمكانية.

· خلال الكثير من المحادثات الشائكة، تؤجل القضايا الخلافية إلى اللحظات الأخيرة، نتيجة الضغط الزمني، وضغط الرأي العام المتابع للمحادثات، لذا تتم "كلفتتها"، حدث ذلك لملف منطقة أبيي الحدودية بين الشمال والجنوب، في محادثات نيفاشا، وتكرر ذلك بالنسبة لتركيبة عضوية المجلس السيادي، وكيفية رئاسته خلال مفاوضات الوثيقة الدستورية الانتقالية عام 2019م.

· يبدو لنا أنّ المفاوض السياسي السوداني، قصير النفس، يفتقر إلى مهارة "التشطيب" بشكلٍ عام، وينقصه المقدرة على وضع اللمسات الأخيرة، في التفاوض، كما في سائر مناحي الحياة العامة.

· بعض الاتفاقيات والمواثيق، اتضحت فيما بعد أن لها بنود سرية، مخفية عن أعين الشعب، شكلت متفجرات ناسفة لها، كاتفاقي نيفاشا وجوبا للسلام آخر الاتفاقيات الموقعة، هذه الظاهرة المفتقرة للشفافية والنزاهة، أفقد الشعب السوداني، الثقة في الحكومات والتنظيمات السياسية على السواء، سيما، ما تسمى بالحركات المسلّحة.

· من مسببات عدم صمود الاتفاقيات والمواثيق الدستورية، عدم وجود أجهزة تشريعية ورقابية فعّالة، ومستقلة عن الجهاز الحكومي، ولا غرابة في ذلك، إذ يلاحظ أنّ الغالبية العظمى من هذه الوثائق، وقعت في عهود الأنظمة الشمولية، ومعظمها لا تعرض للأجهزة التشريعية، ناهيك عن الاستعداد لمراقبتها. وبعضها أجيزت بالإجماع السكوتي المعيب، مما يدل على شكلية هذه الأجهزة.

· في معظم الأحيان، خلال تنفيذ هذه الاتفاقيات والوثائق، تشّكل المحكمة الدستورية غيابا تاما، ناهيك عن تسيس الجهاز القضائي، وبالتالي تنعدم المرجعية، للاحتكام إليها، عند التباس تفسير النصوص الواردة.

· هناك اتفاقيات تبدو كيدية، لشق حزب، أو فصيل ثوري، أو لإضعاف كيانات المعارضة السياسية، (اتفاق نداء الوطن مع حزب الأمة بجيبوتي 99 ، والمصالحة الوطنية الموقعة ببورتسوان 77 كأمثلة)، وبالتالي تلقائيا يتجاوز الزمن مضامين مثل هذه الاتفاقيات.

· بعض الأطراف الموقعة، تعول كلياً على الضامن الدولي والرقيب الإقليمي، وكما هو معلوم، المتغطي بالمجتمع الدولي عريان، هذه الأطراف، ليست لديها ما تفعلها بصورة مؤثرة، إذا ما تعّنت أحد الأطراف الموقعة، سيما إن كان الجانب الحكومي صاحب النفوذ الفعلي على الأرض، وبعضها تجدها أول من تبارك ضمنيا الخروقات، إن لم تحّرض عليها، والضغط الدولي الوحيد، كان حول تنفيذ مضمون اتفاق نيفاشا، المتمثل في انفصال الجنوب.

· الكل يعلم أنّ الطرف الأقوى من الموقعين على هذه الوثائق، هو دائماً من يلتف حول نصوصها، مع سبق الإصرار والترّصد، وهو الجانب الحكومي بالطبع، ليجد الطرف الأضعف أنه لا حيلة، ولا حول ولا قوة له، لذا أحياناً يضطر للتظاهر بالتحلي بالمرونة، والانحناء للتعدي الحكومي على نصوص الاتفاقيات الموقعة معها، وأحياناً تضطر المعارضة للعودة لركوب الصعب، كما في اتفاقيتي أديس أبابا 72 وأبوجا الثانية 2006م. وهذا يمثل العلة الرئيسية في هذه الظاهرة السياسية.

· وما لم تكسب القوى السياسية لجان المقاومة إلى صفها، وما لم تحافظ هذه اللجان على تماسكها، فإن العسكر سينقلبون مرة أخرى على التسوية المقبلة لا محالة، مستغلين كالعادة عدم تكافؤ القوى على أرض الواقع، سيما في وجود فلول مناوئة لأية تسوية تخرجها من المعادلة السياسية، ومتربصة بالثورة.

من يستكين لحلق شعرة في مفرق رأس أي اتفاق سياسي، بالتأكيد لن يحرك ساكنا، إن حُلق الشعر كله، والانتهازي الخنوع، يقول لنفسه "الصلعة" موضة وصحة! لذا لابد أن تقود الفترة الانتقالية الثانية، عناصر ثورية صلبة، ليست على استعداد للتنازل عن "شولة" وردت في نصوص الوثيقة القادمة.

ebraheemsu@gmail.com

 

آراء