عِناق الولادة: اندلاعُ العشرين (1)

 


 

 


eltlib@gmail.com
(1)
عندما أفتحُ صفحة العالم الفضائيّة، على جهازٍ من الأجهزة الناقلةِ لصُوره وصوته وحركاته، أرى مدى فداحة التكتّم على تَسمية ما يَحدث، في السودان وفي كلّ مكانٍ في العالم؛ التكتّم الذي احتَضَن الوقاحة. ولكننا نعلم كذلك كم يخاف البشر من التسميات، فتَجدهم دائماً يختَرِعون (الاسم) بعد انقضاءِ الحدث: أي، عند أول لحظةٍ يفكّرون فيها – بذهولٍ - فيما حَدَث. وعلى مدى التاريخ، ظلَّت تسميات أحداثه دائماً زائفة، وتعتمد اعتماداً تامَّاً على منطق القوّة والعنف فقط. لكن الأسماء الكبرى لما أحب أن أسميه (الحرب العالميَّة المستمرَّة)، بدأت مع اندلاع القرن العشرين: عصر الاتصال الأول!.
(2)
نعلم، كذلك، أن شعلَة الاتصال الأولى بين البشر كانت اللغة؛ التعبير، ويتنوّع ذلك ما بين الكتابة والرسم والصوت والحركة وغيرها؛ لكن، مع تكوّن الجماعات، أصبح الاتصال – دائماً- مدعاة لعنفٍ ما، حرب، امتلاك وتنازع. ثمَّ تضخّم الأمر إلى أن أصبح استعمارات متعدّدة الأوجه، واستمرّ إلى يومنا هذا.
لكن الذي اختلف مع القرن العشرين هو البداية الفعليّة لإلغاء (الزمان والمكان). يبدو أن هذا الإلغاء أمرٌ غير مُفَكَّر فيه بين أغلبية مواطني الكرة الأرضيّة، فهو يُلغي، فعليّاً، ولأول مرةٍ في تاريخ العالم، جميع الخرائط المكانيّة والزمانيّة التي رَسَمتها الحرب العالميّة المستمرّة، إلغاءً تامّاً وكاسحاً، وبسرعةٍ مُرعبةٍ كذلك. لم نكن لنشعر، أبداً، أننا في كوكبٍ واحدٍ إن لم يحدث هذا الإلغاء، ولكننا نواجه بعضنا – كشعوب – لأول مرة، بل إننا – في السودان - نتعرّف على شعوب (بلداناً) للمرّة الأولى والأعنف كذلك!
(3)
الاتصال يولّد العنف. لماذا؟ لأننا نُواجَهُ بشخصٍ (آخر)، فجأةً، داخل المنزل؛ على شاشة العالم الشخصيّة، ونحن لا نَعلم عنه شيئاً سوى ما علَّمته لنا الحروب المستمرّة، وما يظلّ يعلّمنا له إعلام عالم (الأزمنة والأمكنة). أَضِف: الغبن العميق من انعدام العدالة الشامل، وتكشّفها، لحظةً بلحظة، أمام أعيننا وبسمع آذاننا: إننا نحدّق في العالم يموتُ باستمرارٍ بين أصابعنا.
(4)
لا تُسمَّى الحربُ (عالميَّةً) إن لم يَصل العنف قلبَ المَرَاكز!. ومع اندلاع العشرين تَرَكَّزت الثروة والسلطة والقوّة والتطوّر العلمي في مراكزَ بعينها، وتمّ التعاقد – صُوَرِيَّاً كالعادة – على ما أنتجته آخر "الحروب العالميّة" من خرائط ودول!
والآن، وصَلَ الاختلالُ مداه الحتمي؛ لم تصدمني صور المتصارعين في شوارع أوربا، لمدّة ثلاثة أيامٍ متتالية، في شوارع مدينة فرنسيّة تعصّباً لكرة القدم في "القارّة المتحضّرة"، وبروز تنظيمٍ كـ(الدولة الإسلاميّة) لم يَخلَعني إذ قرأت "أعمَالَه" في الكتب القديمة، ثمَّ وقد حذّرتنا الكتب، وعبّرت الموسيقى ورُسِمت الأهوال!. لقد اتضح أنه لا تمرّ ثانية في العالم من دونِ ضحايا، في جميع أرجاء الكوكب، ويبدو أن لا حلول في الأفق سوى تمدّد العنف.
لن أصابَ بالهلع إن نجح (ترامب) في الانتخابات الأمريكية إذ سيكون متماشياً مع الخلفيّة الموسيقيّة لهذا الفيلم المأساوي الطويل والممل (يعني لازم في الحلقة الأخيرة يكون في هتلر في مكانٍ ما؟ ولازم التكرار والملل؟ حتّى أصوات الأسماء تتشابه؟!)، وإن جئنا للحقيقة فترامب قد فاز بالانتخابات وانتهى؛ فبهذا الكم الهائل من المؤيدين ضمن شعب دولةٍ شديدة البأس و(عظمى؟) يعني أن سُبل تطبيق برامجه العنصريّة ستتمّ - حتّى وإن خَسِر الانتخابات – بأساليبٍ أخرى: أجدى وأنجع وأقسى تدميراً.
السيّء في الأمر هو التعوّد على الكوارث لدرجة (الملل)! تصوروا! حياة كاملة عبارة عن سلسلة [ذلّ وإهانة مستمرّة] لدرجة الملل!.
(نواصل الجمعة المقبلة)

 

آراء