غلطان بالنمرة ..!بقلم: رباح الصادق

 


 

رباح الصادق
16 November, 2009

 

بسم الله الرحمن الرحيم

Rabah Al Sadig [ralsadig@hotmail.com]

 

(1) جرس إنذار أول

نحن نأتي من بيئة أنصارية، والأنصار قوم لهم ثقافة محكمة النسج في تفاصيل تركتها كثير من الجماعات بدون ذكر، وأحد الظرفاء علق على إحداهن في هذه الخاصية بأن المتعامل معها يحتاج لكاتلوج! ومن ضمن ما يقدرون خطله البليغ "التمباك" ومن فرط الحرب على التمباك فإنهم لا يذكرونه باسمه كأن ذاكره قد نال منه شيئا فلو نطقت الكلمة لقيل لك "تف من خشمك"، ويقولون له "المصيبة" فلو أراد أحدهم أن يقول لك إن هذا الشخص يفعلها يقول لك يتعاطى المصيبة.. ومن فرط حربهم له أن أحد الأئمة استلم سؤالا من إحدى الأصقاع حول امرأة كانت متزوجة من رجل "يفعلها" مات فهل تحل لأحد الأحباب ليتزوجها أم أنها بذلك قد تنجست؟.. ومثل هذه "المصيبة" تحضرنا الآن ونحن نحاول الحديث عما نراه لا يقل مصيبة عنها. عن ذلك النوع من الكتابات التي تنتهك أعراض الناس بنفس السهولة التي يتعاطى فيها الواحد المصيبة إياها، وإن كانت تلك مصيبة تنجسه وتنجّس من لمسه في نظرنا الأنصاري، إلا أن الخوض في أعراض الناس على صفحات الصحف ينجّس مجتمعا بأكلمه! وقد وصفه المولى حتى في الحديث بين الأفراد باعتباره إشاعة للفاحشة بين الذين آمنوا، ولعن الخائضين في أعراض المحصنات في الدنيا والآخرة، فما بالك لو كان هذا الخوض في صفحات الصحف التي يقرأها الآلاف؟

 في العام الأخير وصلت الصحافة السودانية دركا لم يكن معتادا. سن صحافيون كثر أقلامهم خوضا في أعراض الناس ومن أعلى قمة المجتمع وقادة السياسة والفكر وقائداتها هذا من جانب، ومن جانب آخر وصلت المقالات المرسلة والمعبرة عن أمزجة الكتاب وأهوائهم وعواطفهم لدرك بعيد وصلت حد الحديث المباشر والوصف المقزز للمرأة وجسدها.. هذا النوعان من الكتابة اللذان دشنا رسميا في الصحافة السودانية في العام الأخير يؤذنا بهبوط الذائقة وهبوط المجتمع ككل، فمن جانبين مختلفين يعملان كمعاول هدم في جسد المجتمع بإشاعة الفاحشة في المجتمع من جهة وبالتطبيع مع هبوط الأفكار والأقلام واعتبارها مسألة عادية يقوم بها الكتاب والصحافيون وهم في بلد أمي قادة مجتمع، وحري بهم الدعوة للاستنارة. نريد أن نناقش هذه القضية ولكن كعادتنا الأنصارية نهرب من ذكر اسم "المصيبة" وقد درج قلمنا ومنذ سنناه أن يتحاشى ذكر أهل المنكرات باعتبار أن مجرد سوق تلك الأسماء معناه التطبيع مع منتجاتها.

بمنظار تاريخاني فإن هذا الخوض الجهري والنهاري في أعراض الناس عامة ناهيك عن أشرافهم سابقة لم تعرفها الصحافة السودانية على الأقل بالنسبة للناشطات النسويات. لقد لاقين عنتا كبيرا من المجتمعات التقليدية والمتخلفة والتي تعتقد أن العفة قرين الترباس والمزلاج لا الأخلاق والتربية والاستقامة الفردية. وبالطبع فإن مجتمعنا السوداني يعاني ككثير من المجتمعات الجمعية في أفريقيا وفي العالم العربي من انعدام فكرة الأخلاق الذاتية أو الهيكل القيمي للفرد والاعتماد الكلي على توقعات المجتمع والرقيب الجمعي كما سنناقش أدناه.

هذه الظاهرة الجديدة خطيرة وخطيرة للغاية إذا راجعناها من منظور مجتمعنا الذي يقوم على أعراف كثيرة وتابوهات أكثر. فانحراف الصحافة من كونها نصير للنساء العاملات والناشطات أمام الذهنية التقليدية لتكون هي نفسها ناقل للذهنية التقليدية الرجعية، واتخاذ الصحافة للمركون من تابوهات كثيرة في الذهنية المجتمعية حول النساء هو سلاح ينبغي ألا تتم الاستهانة به، إنه ينذر بتحطيم ما بنته المرأة السودانية عبر العقود الطويلة إن لم نقل القرون..

الأقلام التي تعيق عمل المرأة بهذا النوع من الهجوم اللاأخلاقي استحقت المقاطعة منذ زمان سحيق ولكنها لا تعتد بمقاطعة النساء السودانيات قاطبة ومن ناصرهن. ولا ينكر أحد أن ما كتبته بعض هذه الأقلام الآثمة مثلا حول مسيرة مناصرة الأستاذة لبنى أحمد حسين بقذف كل من سار فيها كان له مفعولا لا ينكر يدل عليه الفرق بين الحشد في المسيرة الأولى بتاريخ 4 أغسطس والثانية بتاريخ 7 سبتمبر 2009م. كذلك فإن السابقة الجديدة بالتشهير المباشر والمنسوب لشخص بعينه إزاء الأستاذة رشا عوض في تصديها الشجاع للحريات النسوية ليس إلا درجة جديدة من درجات العدوان الآثم على مسيرة النساء، لأن التهم الموجهة لرشا كلها لم تكن تخصها كشخصية يعلم الجميع مدى رزانتها ورصانتها واستقامتها ولكنها وجهت لكامل الشريحة النسائية التي تعمل بالعمل العام والتي تسهر في سبيل ذلك وتسافر وتختلط بالرجال بدون صحبة محرم أو رقيب. وإن كن أمهاتنا قد عملن في العمل العام وسافرن على الحمير وعلى البغال وعلى الجمال وعلى العربات وعلى الطائرات منهن من عملت داية ومن سافرت في مهمة سياسية ومن اغتربت كمعلمة، ووجدن الترحيب والمساندة من قادة الاستنارة في البلاد حتى في القوى المحسوبة تقليدية، فإنه ليس من الممكن أن نقبل في القرن الحادي والعشرين أن تتم سن أسلحة الذم والقدح والتشهير والقذف لتحجيم عمل النساء ونضالهن من على المنابر. لقد كانت والدتي المرحومة سارا الفاضل أحسن الله نزلها ومثواها أول امراة سودانية تسافر للتعليم بالخارج وشجعها جدها الإمام عبد الرحمن المهدي منذ خمسينيات القرن العشرين فسافرت بدون رقيب وظلت سنوات تتعلم وتعمل وعادت فلم تكن إلا مفخرة لأهلها، فكيف تجد حفيداتها الآن من يقول إن سفر المرأة لوحدها عيبٌ؟

إن الانتخابات القادمة ستحمل على الأقل 112 امرأة للمجلس الوطني الاتحادي من ولايات مختلفة. هاته النساء سوف يخضن حملات انتخابية شرسة وليالي سياسية يطفن فيها على ولاياتهن فهل يعقل أن يطالبن باصطحاب رفقة ذكورية مأمونة؟ وهن سيأتين للخرطوم لاجتماعات المجلس ويقطن في الفنادق يتابعن دورات المجلس واجتماعاته فهل يكون ذلك ب"محرم" أعطاهن صوته لينبن عنه باعتبارهن أبلغ علما وأمضى صوتا؟ أم سيتم التعامل معهن كساقطات وهن قادة مجتمع بأكمله؟!

نحن لا نطالب بمقاطعة أو مقاضاة لهذه الكتابات وإن كانتا مطلوبتان في حد ذاتهما أما المقاطعة فهي تحصيل حاصل لأن الذي يخوض هكذا في شرف النساء ويرميهن جملة وتفصيلا من أقلام معروفة في صحف معروفة خاضت في لبنى أحمد حسين ومناصري قضيتها ومناصراتها ما شاء لها، وما استدعى ذلك من إرهاب أدخل في زمرته رشا عوض في صحف لم تكن معروفة بهذا النهج، أقول هي أقلام مقاطعتها تحصيل حاصل وكذلك من يسكت عنها أو يبرر لها. كذلك لا نطالب بمجرد المقاضاة وإن كانت ثلاث مقالات على الأقل نشرت في بحر هذا العام في أشهر مختلفة لكتاب مختلفين يستحقون أن يحاكموا وتحاكم من خلفهم الصحافة السودانية كلها التي صمتت على هذا التردي حتى وصل لهذه الدرجة، وحتى يتم تطهيرها من هذا الخبث وتطهير المجتمع من الدنس. إننا نقوم بدق جرس إنذار عالي الصوت يبلغ جميع المسامع ويوقظ النائمين. ونقول إنه لا بد من ميثاق شرف صحفي مغلظ يكتبه الصحافيون ويلتزمون به ليس بالتدقيق على ما يمس شرف الدولة وأجهزة أمنها كما هو الدارج، بل الابتعاد عما يمس شرف المجتمع ويحاول تقذير صفحته بإشاعة الفحشاء وبتلطيخ الشرفاء والشريفات.

 

(2) الأخلاق الغيرية

هو موضوع ذو صلة.. ولكنه قائم بذاته. فالكتابات الحالية التي تحاول وصم النساء كلهن تتغاضى عن حقائق فردية في الحركة النسائية السودانية، وتحاول الاستفادة من أنماط التفكير التقليدية ومخاطبة قعر رأس مخاوفها. إنه خطاب خبيث ولكن أسوأ ما فيه أنه يدعو لما سميناه الأخلاق المائلة.. الأخلاق التي تقوم على الرقيب وعلى وجود الغير الحارس وهي من سمات الثقافات الجمعية السيئة.

الثقافة العربية قبل الإسلام ثقافة جماعية، والثقافة الأفريقية موغلة في الجماعية .. أمثال كثيرة فيها تؤكد "أنا لأننا نحن" أو أن الإنسان لا يعيش إلا معرفا بالجميع... والثقافة السودانية على تنوعها فيها درجات مختلفة من هذه الجماعية ولكنها حاكمة. كان الدكتور توري نوردنستام (صاحب كتاب "الأخلاق السودانية" الذي ترجمه للعربية أحمد علي محمد المهدي) اهتم بثلاثة مخبرين من تلامذته من السودان الشمالي، وأكد أن أهم سمات الأخلاق السودانية كما رآها أنها غيرية التحديد وخارجية الاتجاه، أي أن قيمة الشخص تظهر خلال الجماعة وعبر تصرفات الآخرين أكثر من كونها داخلية الاتجاه ومستندة على آرائه الذاتية. وأنها تركز على الكرم بشكل يعلي من شأن الضيافة (في مقابل الجود والإحسان)، وذلك يتسق مع النسق الغيري الخارجي للأخلاق. هذه الصورة الغيرية للكرم تذهب إلى الحد الذي يقرره المثل في قوله (الضيف عدو) بمعنى أنه إذا لم يكرم "سيشيل الحس" وهو المعنى الظاهر في وصية العربي لابنه:

والضيف أكرمه فإن مبيتــــه         حق ولا تك لعنة للنـــزّل

وأعلم بأن الضيف مخبر أهله    بمبيت ليلته وإن لم يسأل

فتكون الأخلاق الغيرية مناقضة للأخلاق بالمفهوم الذاتي، الذي فيه يعطي المرء بيمينه ما لا تعلم يساره! وهذا يقودنا لما وجده نوردنستام من أن الاتجاهات الذاتية والداخلية لدى مخبريه كانت دائما راجعة للتصورات الدينية، فكأنما الدين الإسلامي هو أحد أطواق النجاة من طغيان الأخلاق الغيرية أو الحد من آثارها السيئة في مجال الأخلاق والانضباط الأخلاقي في الدوائر العامة والخاصة.

الأساس الغيري المحض للأخلاق يهرق أحد ركائز التفويض في الإدارة الأخلاقية (فهي تستند على شقين: المحاسبة وهي خارجية والمسئولية وهي ذاتية وداخلية).. هذا الأسلوب الغيري يجعل المجتمع هو الحاكم الوحيد، فهل هذا هو السبب في علو معدلات الرذيلة والفساد لدى كثيرين بعيدا عن مجتمعهم ومجتمع عشيرتهم وأهلهم الذي يعنيهم؟ ألهذا قال المثل (بلدا ما بلد أقدل فيها عريان؟).

هذا من جانب.. من جانب آخر فهو –أي الأساس الغيري للأخلاق- يجعل الجماعة هي الحاكم في تعريف القيمة الأخلاقية، وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان أن يأتي الإنسان بشيء لا توافق عليه الغالبية من حوله ويمكن لها أن تكون فاسدة أو تدعو لممارسات فاسدة.. هذه الخاصية تعيق استراتيجية (دوائر النزاهة) التي تتطلب أن يطلق الإنسان صافرة الفساد، بل كل القيم الإيجابية في هذا الصدد الذي أتت بها الأديان.. مثلا: لا يكون أحدكم إمعة!. ومن ذلك أن يستند الواحد في نقده لمسلك أو دعوته إليه على مدى جمعيته واتفاق الناس عليه، هذه الخاصية أيضا تجعل مواجهة الظلم إذا كان مقبولا للجميع شيئا غير محمود..

وهي تجعل سلم القيم الأخلاقية يبدأ بالمشاركة وجبر الخواطر (لو تقعد للحول ما تقوم بخاطر زول) والتغاضي ومثل هذه المفاهيم التي هي سبب ما يقال عن التسامح السوداني مع أن السودانيين في غالبهم قوم حربيون.. سلم القيم الأخلاقية يضع تلك المفاهيم في درجات أعلى من مفاهيم مثل التبرؤ أو إعلان النزاهة "لماذا التبرؤ والموت وسط الجماعة عرس؟" أو المواجهة "فالوجوه خناجر" أو التصدي للأمر العام وهو أمر لا يخص أحدا "وشهرا ما عندك فيه نفقة ما تعد أيامو"!!.. وهكذا.

(3) غلطان بالنمرة

في مجتمعنا قيم كثيرة حميدة نريد أن نستصحبها في بنائنا الوطني المنشود، ولكن هذه الأخلاق الغيرية مائلة في نظرنا، وتناقض تعقدات العصر التي يصعب معها أن يوجد هذا الرقيب الغيري في كل جحر، كما تناقض السلوك الحضاري المطلوب في المجتمعات المدنية.. هذه الذهنية الغيرية للأخلاق هي وراء استشراء الفساد والتعدي على المال العام في دوائر الخدمة المدنية، ووراء الانحطاط الأخلاقي الفعلي الذي أثبتته دراسات لمنظمات دولية مرموقة وتقارير أمن المجتمع وسط كثير من الشباب والشابات لأن المجتمع الحضري لا مناص فيه من الابتعاد عن الأهل أو غياب عين الرقيب لبعض الوقت فإذا "غاب أب شنب لعب أب ضنب".. العدو الذي ينبغي أن نحاربه ليس الابتعاد عن الأهل بدون رقيب فذلك لا محيص عنه كما قلنا للرجال وللنساء والمفاسد التي تأتي من الشباب الذكور بعيدا عن ذويهم لا حصر لها ولا عد بل هي المهدد الحقيقي لقيمية المجتمع لأن النساء قيودهن الذاتية أكبر بكثير من قيود الذكور. العدو الحقيقي هو هذه "الأخلاق المائلة" وينبغي أن ندعو للاستقامة والعفاف وغيرها ليس عبر الرقيب الأسري بشواربه التي يقف عليها النسر، أو عبر وضع القيود القانونية والتدخلات الرسمية من الدولة، ولكن عبر تركيب برنامج الأخلاق الذاتية والهيكل القيمي للفرد ذكرا كان أو أنثى.. السؤال هو: كيف يكون للرجل أو المرأة رادع حقيقي من الرذيلة؟ والأسئلة الأخرى حول كيفية تقييد النساء غير مطروحة ولا مشروعة، وفهم السؤال هو الطريق الوحيد للإجابة. هذه المسألة هامة ليس لدى الحديث عن الحركة النسوية والناشطات والمناديات بحقوق النساء فهؤلاء سواء كن شابات أو نساء مسنات أصلا ممن رحمهن ربي بدرجهن في سلك الهم الوطني والعام أو الاهتمام بالجادة وهن محظيات بذلك من أمراض سرت في المجتمع خاصة وسط الشباب والشابات بانعدام الهدف واللامبالاة و"الفراغ العريض" الذي بحسب المرحومة ملكة الدار محمد في روايتها هو سبب انزلاق بعض النساء وراء التجارب والمغامرات غير الحميدة.. فالذي يهتم ببحث الفساد بين الناشطات قد أغفل الهدف مرتين: مرة بطرح السؤال الخطأ، ومرة ببحث الإجابة في الكتاب الخطأ، وعلى حد أغنية صباح: غلطان بالنمرة!

وليبق ما بيننا

 

آراء