فاجعة الفشل وشح الأنفس: مصائر السودانيين بعد زوال السودان

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم


مقدمة:
تشير الدلائل الماثلة أمامنا اليوم الى أن السودان يسير بخطى أكيدة نحو التمزق والزوال رويدا رويدا. واذا ما آل السودان الى هذه النهاية المفجعة, فسيكون بنوه وليس سواهم هم السبب فى زواله بسبب أنانية بعضهم وغطرستهم الجوفاء وقصر نظرهم وشح أنفشهم وفشلهم الذريع فى أخذ مصيرهم ومصير بلادهم مأخذ الجد والجلوس لحلحلة مشاكلهم بالحكمة. وقطعا تتحمل حكومة الاسلامويين المسؤولية التاريخية العظمى فى ضياع الوطن وانفراط عقده. فتأمل معى – عزيزى القارئ - فى هذا التفريط الذى بدأت علاماته منذ وقت بعيد, ولا حياة لمن تنادى.
هجرة العقول من السودان:
أبدأ من البيت كما يقولون. فالحى الذى أسكن فيه لاتتعدى مساحته كيلومتر مربع واحد أحصيت به حوالى عشرين من السودانيين كلهم من الآساتذة الأكاديميين حملة الشهادات العليا والأطباء المتميزين والمهندسين والقانونيين. وأترك للقارئ الحصيف تقدير حجم الخسارة على الوطن بفقدان هذه الكوادر المؤهلة والمدربة تدريبا عاليا مكنتهم من المنافسة فى سوق العمل فى أى مكان من العالم. فهاجر السودانيون الى كل بلاد الدنيا مسلحين بالعلم والتدريب والأمانة والأخلاق السامية مشبعين بثقافة راسخة فى الصدق والتفانى فى العمل وحب الآخرين. وسبب فقدان الوطن لهذه الكوادر المؤهلة هو سوء السياسات التى اتبعتها الحكومات المتعاقبة عسكرية كانت أم طائفية وفشلها الذريع فى ادارة البلاد وتوظيف الكوادر المدربة لاستنهاض التنمية الشاملة. اذ تعتمد نهضة الشعوب وتقدم الأمم على الكوادر البشرية المدربة لتقود عملية التنمية كما نراه اليوم لدى أمم انعتقت من نير الاستعمار بعدنا بعشرات السنين, لا لشئ الا لأنهم دربوا  ثم احسنوا ادارة مواردهم البشرية.
بدأ السودانيون  في الهجرة الى خارج الوطن باعداد ملحوظة ابان السبعينات من القرن الماضي في فترة الدكتاتورية العسكرية الثانية وذلك على اثر تدهور الاقتصاد السوداني بعد إلحاقه بالنظام الرأسمالي العالمي وفتح الأسواق وتخفيض قيمة الجنيه السوداني. فتدنت مستويات المعيشة، وتدنت القيمة الشرائية لسبب خفض العملة. فهاجرت اعداد من خيرة الشباب المتعلمين يطمحون لعيشة افضل ودخل يؤمن لهم ضرورات الحياة.
 يلحظ متوالية ازياد اعداد المهاجرين خارج الوطن ابان فترات الدكتاتوريات الشمولية العسكرية خاصة في ظل حكومة الجبهة الاسلامية التي كان ولا يزال العسكريون هم عمادها. اذا اخذنا في الاعتبار ان جل المهاجرين خارج الوطن هم تقريبا من الطبقة الوسطى من المتعلمين خريجى الجامعات الحاصلين على كفاءات عالية وتدريب عالي مكنهم من المنافسة في سوق العمل العالمي في كل بقاع العالم. وقد اثبت السودانيون حقا مقدراتهم العظيمة وتدريبهم العالي في كل المهاجر التي حطوا فيها، وصاروا مضرب المثل في التفاني والعفة والصدق بالاضافة الى الكفاءة العالية في العمل. وقد شهدت لهم بذلك كثير من المؤسسات الدولية وعلى رأسها بعضا من أمناء الأمم المتحدة. تأتى المفارقة المدهشة هنا في ان السودانيين يحتفى بهم كثيرا وتقدر مجهوداتهم وتثمن اسهاماتهم في المهاجر التي يهاجرون اليها، بينما في داخل بلدهم لايجدون الا العنت والمشقة و المطاردة و التسفيه. وهذا يفسر الى حد ما اختفاء الطبقة الوسطى من المجتمع. والسبب في ذلك ببساطة شديدة هو ان الحكومات العسكرية الدكتاتورية التي جثمت على البلاد حوالي 80%من عمر الاستقلال لاترغب حقيقة في بقاء مثل هذه الطبقة المتعلمة المستنيرة بين ظهرانيهم وهم السادة (العساكر). وينطبق ذات القول على الحكومات التي سيطرت عليها القوى الطائفية. فكلا النظامين_العسكري والطائفي_كانا ولا يزالان زاهدين في بقاء الطبقة الوسطى من المتعلمين والمثقفين الذين لهم القدرة على استقلالية القرار واستقلالية المصير.
كانت نتيجة ذلك ان نظام التعليم السوداني كان في حقيقة الأمر ينتج خريجين للعمل في سوق العمل الخارجي .اذ تشير الاحصاءات الى ان اعداد السودانيين في المهاجر تتراوح ما بين سبع الى تسع ملايين سوداني تفرقوا في الشتات (حوالي23%من جملة سكان السودان). لم اسمع في تاريخ البشرية ان امة هاجر ما يقرب من ربع سكانها بسبب سوء ادارة الحكم وتسلط الأنفس الشح التي لاتريد ان ترى خيرا للأخرين وتعطيهم حقهم الذي وهبهم اياه خالق الخلق في التفوق والنبوغ والملكات، فحرمت منها العباد والبلاد، فتلقفتها امم حادبة على مصالح شعوبها واستفادت من خبراتهم. أما هم فقد وجدوا مكانا يعزهم ويحفظ لهم حقهم وينمي ملكاتهم ويطور قدراتهم لخدمة الانسانية جمعاء. هجرة هذه النخبة المتميزة من السودانيين الذين هم رأس الرمح في أي تنمية في البلاد تركت ماتبقى من مجموع السكان(77% او اقل) عبارة عن كتلة صماء من الناس الاميين والشيوخ والأطفال والرعاء والنساء الذين يشكلون نسبة ال95%من السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر. اما ال5% المتبقية فهي التي تمسك بالمال والسلطة والجاه وتتحكم في مصير البلاد والعباد المغلوب على امرهم. هذه النخبة الحاكمة الثرية تتكون من العسكريين (اسياد البلد) ورجالات الامن وطبقة التجار المتحالفين معهم وانصاف المتعلمين والانتهازيين من العلماء والمثقفين الموالين. فلنقل ان 23%من السودانيين ذوي الخبرة والكفاءة هجروا البلد او اجبروا على مغادرة البلد، فلننظر الى ماتبقى من السودانيين حتى الأن داخل البلد.
انفصال الجنوب (1/3 السكان):
يقدر ان سكان الجنوب يشكلون ثلث سكان السودان. الترتيبات الجارية الأن والتي تمت كتابة فصلها الأخير تشير الى الانفصال الحتمي للجنوب في الأشهر المقبلة. وبانفصال الجنوب يذهب ثلث  سكان السوان.
دارفور تنفصل :
السيناريوهات المعدة لدار فور والتي يتم طبخها على نار هادئة خلف الكواليس تشير الى مصير مشابه لمثل ذلك الذي يتم في الجنوب. تقول النظرية الاستعمارية بعدم امكان او استحالة التعايش بين العناصر العربية والافريقية. ولفض الاقتتال والفظاعات ومعاناة اللاجئين، فسوف لن يقبل الضمير الانساني مثل هذه المشاهد المخزية في القرن الحادي والعشرين. ولما كان القوم موغلين في الاحتراب بسبب البغضاء والشحناء والانانية وشح الانفس، فيتوجب على المجتمع الدولي فض هذا الاقتتال بفصل كل عنصر في داره وحبس كل ما رد في قمقمه. ويقدر تعداد سكان دارفور بنحو خمس سكان السودان. واذا ذهبت دارفور فتكون دولة السودان قد فقدت خمس سكانها.
ثم ينفصل الشرق:
عناصر الشرق من البجا والهدندوه والامرأر وغيرها من المجموعات "الحامية" عانت الامرين من الاهمال والتهميش والفقر والجوع في ظل السودان الموحد. واذا كانت نخبة حكام السودان الاقحاح لاترعى عهدا ولاذمة لمواطنيهم من الأعراق والثقافات الاخرى، فسوف تسعى المجموعات المنسية الى اقامة كياناتها ودولها المستقلة حتى تنعم بحريتها وتأخذ بمصائرها بعيدا عن عسف وجور وظلم حكام الخرطوم .واذا انفصل شرق السودان، يكون سدس سكان السودان قد ذهبوا.
مثلث حمدي:
اذا انفصلت هذه الجهات العزيزة من الوطن، يكون السودان الجغرافي قد انكمش حقيقة الي مثلث حمدي على النيل وجانبيه. وهذا هو المطلوب والمرسوم في الخارطة الجديدة للعالم _ضم مثلث حمدي لمشروع الشرق الأوسط الكبير، او ان شئت مشروع "دولة اسرائيل الكبرى من الفرات الى النيل".
فاذا ما سارت الامور الى غاياتها كما هو مخطط لها _ وهي كما ترى كالتي تسعى لحتفها بظلفها_ فسوف يصحو السودانيون ذات يوم ليكتشفون بعد فوات الأوان انهم قد فقدوا الوطن الذى كان يسمى السودان. اما مصائرهم في الوضع الجديد فسيجدون متسعا من الوظائف ك "بوابين" في الوطن الجديد شمالا. كما سيجدون متسعا من الوظائف شرقا كرعاة ابل واغنام وفي احسن الأحوال كبائعين في الدكاكين وفي اسواق السيارات. اما ما تبقى منهم مرتبطا بالأرض، فسوف يصيرون وذرياتهم فلاحين يحرثون الأرض ويرعون الماشية لبيعها في الأسواق بثمن بخس للتجار والشركات التي تقوم بتصديرها وتجني من ورائها خمس اضعاف (أو ثلاثين ضعفا) ما يجنيه المنتج. اشار الدكتور بجامعة كردفان المتخصص في تسويق الصمغ العربي الى ان منتج الصمغ العربي يحصل على 3% فقط من مردود انتاجه محسوبا بسعر التصدير العالمي للسلعة. (للعلم: نال الأستاذ الجامعي درجة الدكتوراه بامتياز من احدى الجامعات الألمانية وقد اشرف على الرسالة عدد من البروفسيرات الألمان). هذا بالطبع اذا لم يتم بيع"خصخصة" الأراضي السودانية التي يعيش الناس الأن على ماتنتجه لهم من زرع و ضرع. اما اذا تم تفعيل قانون الاراضي وتم بيع الأراضي  كما هو حادث الآن في مشروع الجزيرة، فتلك اذن الطامة الكبرى اذ  لا واقي للناس يومئذ من الهلاك جوعا.
ارجو مخلصا الا تتحقق هذه الهواجس المزعجة. وهى قطعا ستتحقق اذا ما سدر القوم فى غيهم وضلالهم القديم. هي دعوة صادقة لكل السودانيين الممسكين بزمام الأمور الآن ان يغسلوا أنفسهم من الأنانية والجشع وشح النفس والتعالي على الناس والحسد والبغضاء والشحناء والاقتتال. فهذا البلد فيه من الخيرات مايكفي الجميع ويفيض ليعم الدنيا. اما اذا لم يتخلص الناس من هذه الادران التي تشوه الأنفس والقلوب مفضية الى سفك الدماء, فسوف لن يقف العالم طويلا يتفرج على هذا العبث الأرعن المهلك,  بل سوف يفيقون ذات يوم  ليجدوا انهم فقدوا هذا البلد العزيز المعطاء وتكون تلك حسرة عليهم ولعنة الأجيال القادمة.
د. أحمد حموده حامد   
 الاحد 18/04/2010   
fadl8alla@yahoo.com

 

آراء