فترة الثقافات المبكرة من تاريخ السودان القديم (5) !!

 


 

 

ahmed.elyas@gmail.com

تناولنا في الموضوع رقم 4 من هذه السلسلة الثقافات المبكرة في منطقة لقية حتى الألف الخامس قبل الميلاد، وتعرفنا بإيجاز على الأوضاع في منطقة النيل المقابلة لها في تلك الأوقات. وسنواصل هنا التعرف على الثقافات المبكرة في منطقة لقية منذ الألف الخامس قبل الميلاد. وسنتعرف في هذا الموضوع على ثقافة أبكان والصلات بين الثقافات السودانية المبكرة في الألف الخامس قبل الميلاد.

ثقافة أبكان في الألف 5 ق م
نشأت ثقافة أبكان قرب قرية أبكان بالقرن من الشلال الثاني، والموقع الأثري عبارة عن أخدود يحتوي على بقايا أثرية ورسوم صخرية. ((Lange and Nordstrom, 2007, p 297 وتكونت ثقافة أبكان المبكرة من مجموعات من صيادي السمك يعيشون فقط على ضفاف النيل. ) وترى Usai أن ثقافة أبكان تطور مباشر لثقافة قادان أو الخرطوم متباين (Usai, 2020, p 101, 108)
وقد تطورت ثقافة أبكان في جنوب النوبة السفلى وبطن الحجر في الألف الخامس ق م، وشمل امتدادها الجغرافي مناطق واسعة جنوب الشلال الثاني ومنطقة لقية وربما منطقة العتباي. وترى جتو أن ثقافة أبكان قد امتدت جنوباً في مناطق صاي ودنقلة وربما وصلت إلى منطقة كدروكا شمال الشلال السادس. وامتدت غرباً في منطقة لقية. وكما ترى جتو أن الشك لا يزال يدور حول تبعية مقابر وادي Elei في أعلى وادي العلاقي لثقابة أبكان. (Gatto, 2002, p 15 - 16) ويمكن ان تعتبر أبكان تطوراً إقليمياً ينتمي الى مجموعة ثقافية واسعة في وسط حوض النيل. Lange and Nordstrom, p 299, 300; Gatto, 2002, p17)
وقد وجدت في مناطق جنوب أبكان العديد من المواقع الأثرية، ففي بطن الحجر عثر على آثار منطقة سكنية مكتظة بالسكان والعديد من الأدوات الحجرية والفخار، وفي آثار جزيرة صاي حيث امتد السكن على طول النيل. ورغم أن مدى امتدت ثقافة أبكان جنوبا لم يحدد بعد إلا أنه يبدو مؤكداً أنها أسست علاقات بأقاليم غرب النيل وبخاصة منطقة لقية. ويرى لانج أنه سوف لن تكون هنالك مفاجأة إذا ما وجدت صلات متنوعة لأبكان. Gatto, 2000, p 17; Lange and Nordstro,p, 300, 301)
وفي المرحلة الأخيرة من ثقافة أبكان يوصف الغذاء باعتمد أساساً على السمك، ولكن بدأت تظهر بعض الأدلة التي تخالف ذلك. ومن سوء الحظ فإن ثقافة أبكان لم تدرس بعد بعمق ويلاحظ أنه في نفس الوقت الذي انتهت فيه ثقافة أبكان بين 4000-3500 ق م ظهرت ثقافة المجموعة أ A-Group في شمال منطقة أبكان. (Gatto, 2002, p 15 - 17)

تواصل الثقافات السودانية المبكرة في الألف 5 ق م
قامت ماريا كرملا جَتو (Gatto,2002) في موضوعها المعنون "المجموعة النوبية فيما قبل التاريخ: تقاليد الفخار والمناطق الثقافية" بدراسة العلاقات بين الثقافات المبكرة وبمراجعة مجموعة كبيرة من الفخار الذي تم التعرف عليه في الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد في منطقة واسعة شملت في مصر: جنوب مصر ووادي الحمامات في الصحراء الشرقية والواحة الداخلة في الصحراء الغربية. وشملت في السودان: مناطق صحراء العتباي شرق النيل ومناطق البطانة والقاش وأعالي نهر عطبرة ومنطقة النيل بين الخرطوم وأسوان ومناطق لقية ووادي هور ونبتا والجلف الكبير غرب النيلن.
ويلاحظ أن الباحثة تناولت كل هذ المناطق المذكورة أعلاه تحت عنوان"الثقافة النوبية" كما ورد في عنوان المقال. وسأتناول هنا مجموعات المجموعات الثقافية السودانية فقط مضمناً مناطق نبتا والجلف الكبير ومنطقة ما بين حلفا وأسوان ضمن حدود السودان القديم. وسأسلط بعض الضوء على التواصل والعلاقات بين تلك الثقافات االمبكرة
أوضحت الكاتبة أنها اتبعت نظرية (Theory of Style) التي تحدد شكل الصناعات الفخارية وتزيينها كعلامة مميزة للمجموعة الثقافية. وتوصلت الى 105 نوع من أنواع الفخار قسمتها إلى 49 وحدة ثقافية تشترك في بعض السمات وتختلف في بعضها. وقسمت هذه الوحدات الثقافية في كل مناطق دراستها إلى أربعة مراحل زمنية. تمتد كل مرحلة لخمسمائة عام كالآتي: المرحلة الأولى 5000 – 4500 ق م، المرحلة الثانية: 4500 – 4000 ق م، المرحلة الثالثة: 4000 – 3500 ق م، المرحلة الرابعة 3500 – 3000 ق م (Gatto, 2002, p 8 - 10) وسأتناول هنا المرحلتين الأولى والثانية في الألف الخامس قبل الميلاد.

التواصل في النصف الأول من الألف 5 ق م
شهد النصف الأول من الألف الخامس قبل الميلاد كما يتضح من الشكل رقم 2 تداخل ثقافي إقليمي واسع شمل مناطق القاش وأعالي نهر عطبرة ومنطقة الشلال السادس والثاني ومناطق وادي هور والجلف الكبير والواحة الداخلة في الصحراء الغربية.
وقد ميزت الباحثة في المرحلة الأولى أربع مجموعات ثقافية في السودان أطلقت عليها مجموعة البطانة/القاش والمجموعة النوبية والمجموعة السودانية ومجموعة لقية. يلاحظ أن الباحثة هنا ترجع إلى ثقافات المنطقة النيلية جنوب منطقة دنقلة بالمجموعة السودانية.
توصلت الباحثة وفقاً لأنواع الفخار إلى 24 وحدة ثقافية في كل منطقة دراستها كما في الشكل رقم 2. (Gatto, 2002, p 9) ووجدت منها 10 وحدات ثقافية في مناطق البطانة/القاش معظمها مشترك في كل أنحاء المنطقة.وكانت الوحدات الثقافية في منطقة كسلا الحالية أكثرها تنوعاً. وقد اشتركت 7 من هذه الوحدات الثقافية مع الوحدات الثقافية في منطقة النيل والصحراء الغربية.
وتوصلت الباحثة إلى 14 وحدات ثقافية في مناطق أبكان والجيلي وشقدود كما في الشكل رقم 2 (Gatto, 2002, p 9) تشنرك 9 منها مع ثقافات منطقة الصحراء غرب النيل. ويلاحظ أن وادي هور أغزر مناطق غرب النيل ثقافة إذ تضمن 15 وحدة ثقافية اشتركت مع بعض ثقافات المطقة وخارجها.
ويدل هذا التشابه الكبير في أنواع الصناعات الفخارية في المنطقة الواقعة بين أعالي نهر عطبرة شرقاً والجلف الكبير بالقرب من الحدود الليبية غرباً إلى التواصل المبكر بين هذه المناطق في النصف الأول من الألف الخامس قبل الميلاد.
وقد أدى ذلك التواصل في النصف الأول من الألف الخامس قبل الميلاد في المنطقة الواقعة بين نبتا بلايا شمالاً ووادي هور جنوبا والممتد شرقاً حتى النيل إلى ظهور نوع جديد من الفخار في وادي سهل ووادي شاو أُطلق عليه "الأفق النوبي المبكر في لقية"(ENHL) "Early Nubian Horizon of Laqiya ويتطابق هذا النوع من الفخار مع فحار ثقافة أبكان على النيل ومع ثقافة العصر الحجري الحديث في نبتا وبئر كسيبا وفترة الحجري الحديث المبكرة في الخرطوم. كما بدأ تطور جديد في وادي هور تحت تأثير ثقافة العصر الحجري الحديث في منطقة الخرطوم، وتزامن مع تطور تدجين الحيوان على النيل في وسط السودان. ولذلك يرى لانج أنه يمكن افتراض أن ذلك حدث نتيجة التداخل بين تلك المناطق مما أدى إلى دخول المنطقة في حقبة جديدة تختلف عن الحقبة السابقة في صناعة الفخار وسبل كسب العيش. (Lange 2006, p 109)
وقسم لانج كما (Lange 2006-07, p 249) ثقافات مستوطنات منطقة لقية بالتطابق مع مراحل الفخار ونمط الغذاء والتواصل الإقليمي إلى ثلاث مراحل: المرحلة مبكرة والمرحلة الوسطى والمرحلة الأخيرة. وقد تناولنا المرحلة المبكرة (قبل القرن 5 ق م) في موضوعنا السابق.
المرحلة الوسطى من بداية الألف الخامس وتمتد حتى نهاية الألف الرابع قبل الميلاد. ويظهر التطور في هذه المرحلة نوع جديد من الفخار صُنف بفخار منطقة النوبة المبكر، وفي نهاية هذه المرحلة صنف الفخار بفخار المجموعة الثقافية A المبكر. وتأثر سُبل المعيشة في منطقة لقية بمنطقة النوبة السفلى ونبتا بلايا. وانتقلت تجمعات المستوطنات من مرحلة الجمع والصيد الى مرحلة نظام الغذاء المختلط (Mixed economy ويوضح ذلك التواصل ةتل الروابط بين منطقة لقية والنيل بما في ذلك الصلات مع المجموعة الثقافية أ ما سنتناوله في موضوعاتنا القادمة.
وترجع أقدم تاريخ مخلفات الصناعات الحجرية لمستوطنات وادي شاو في منطقة لقية إلى نحو عام 4730 ق م. والفخار الأقدم من النوع المنقط المموج المزين أرخ له Schuck بنحو عام 4600 ق م، وقد وجد في عدد من المواقع. (Schuck, p 423; Langue, 2006, p 109)
وبالنسبة لمناطق شرق النيل ترى جتو إنه لم يتم بعد دراسة فخار منطقة العتباي لمقارنته بفخار المناطق الأخرى، لكنها ترى أن تقافة منطقة العتباي جزء من ثقافة منطقة النيل النوبية، وكان سكان النيل يرتادون هذه المناطق للجمع والصيد والرعى والحصول على المواد المعدنية المتوفرة في المنطقة وبخاصة الذهب. وفخار وادي العلاقي ووادي قبقابا –الذي يقع غرب وادي العلاقي ويصب في- ينتمي إلى فخار أبكان على النيل (Gatto, 2012, p 44, 52)

التواصل في النصف الثاني من الألف 5 ق م
المرحلة الثانية من مراحل الوحدات الثقافية في الفترة 4500 – 4000 ق م كما تراها جتو تكونت من: 1. ثقافة نبتا بلايا 2. مجموعة وادي هور والجرف الكبير 3. المجموعة النوبية التي تضمنت ثقافة أبكان في منطقة الشلال الثاني وثقافة كآرت في منطقة دنقلة وثقافة منطقة لقية في الصحراء الغربية التي تنتمي إلى ثقافة أبكان 4. المجموعة السودانية انحصرت في هذه المرحلة في منطقة الخرطوم فقط. 5. الصحراء الشرقية
ميزت الباحثة في هذه المرحلة الثانية وفقاً لأنواع الفخار 18 وحدة ثقافية في كل المنطقة كما في الشكل رقم 3 (Gatto, 2002, p 11) تمثلت ثقافات منطقة النيل في هذه المرلة في مناطق أبكان وصاي ودنقلة والكدرو، وقد وجدت 15 ودة ثقافية في هذه المناطق من مجموع وحدات هذه المرحلة الثمانية عشر مما يشير إلى تطور المجتمعات النيلية في النصف الثاني من الألف الخامس قبل الميلاد. كما يتضح التواصل الكبير من منطقة غرب النيل حيث تشترك المنطقتن في 8 وحدات ثقافية، إلى جانب تواصلها مع صحراء العتباي في شرق النيل. وقد تم العثور في مقابر بالعتباي على ثلاثة ثقافات تنتميان إلى هذه الحقبة وتشترك هذه الثقافات مع ثقافات النيل والصحراء الغربية.
ووجد في وادي شاو فخار قديم من نوع المنقط المموج إلى فخار مختلف أُطلق عليه فخار لقية وقد أرخ له Schuck بنحو عام 4250 ق م. (Schuck, p 423) وانتشر كلا الننوعيم على نطاق واسع في مناطق برح الطيور شمال لقية وفي وادي حريق جنوب لقية وفي حوض بحيرة دارفور القديمة وفي عرق إنيدي غرب بحيرة دارفور القديمة وفي وادي هور وفي جبل تقرو جنوب وادي هور. وكان فخار وادي شاو المنقط المموج الأكثر انتشاراً حيث وُجد على النيل. (Lange 2006, p 109)
ويلاحظ في نهاية الألف الخامس قبل الميلاد تطابق الكثير من ثقافات صناعة الفخار في الصحراء الغربية من وادي هور جنوباً وإلى الجلف الكبير شمالاً مع صناعة ثقافة فخار في منطقة النيل بين الشلالين السادس والأول وصحراء العتباي . وقد اعتمدت معيشة السكان في هذه المرحلة على صيد السمك، ولكن توجد أدلة من منطقة دنقلة والصحراء الغربية توضح ممارسة الرعي. وكنتيجة لذلك دخلت مجتمعات هذه المرحلة بين 5400 – 4000 ق م قترة العصر الحجري الحديث وبدأت في انتاج الغذاء الذي اعتمد أساساً على تربية الحيوان. (Gatto, 2002, p 16)
وهكذا يمثل الألف الخامس قبل الميلاد كما اتضح من أبحاث جتو ولانج تطورا واضحا في الثقافات السودانية المبكرة بين منطقة القاش شرقاً وصحراء غرب النيل ووادي هور شرقاً. ورغم أن تركيز دراسات جتو ولانج – المشار إليها هنا – قد تركزتا على صناعة الفخار ولم يشملا المقاابر ومحتوياتها – إلا أنهما أوضحتا ثراء تلك الثقافات من خلال تنوع صناعاتها الفخارية والسمات المشتركة بينها مما يشير إلى الأعداد الكبيرة لسكان المستوطنات وتطور أنماط غذائها ونظمها الاجتماعية.
ويقول العباس سيد أحمد (2003 ص 26) في ختام بحثه عن النيل والصحراء أن التحولات الحضارية خلال العصور المبكرة:
"مرتبطة إلى درجة ما بظروف بيئية متقلبة بين الرطوبة والجفاف خلال تلك الحقب قادت في الكثير من الأحيان إلى امتزاج سكاني بين الجماعات المحلية على النيل والجماعات الوافدة من الصحراء، تولدت عنها حضارة هجين جمعت بين شرائح الاقتصاد والتنمية والمعتقدات والعمارة وخلافها. وقد كانت الجماعات الصحراوية هي صاحبة الريادة في تلك التحولات، بحكم إنها عاشت في منطقة أكثر حساسية للتحوىت البيئية، كما كانت أكثر قابلية للتكيف. ولعل هذا الوضع - فيما نظن – يقدم تفسيراً مؤقتاً على الأقل لظاهرة التحولات الحضارية المفاجئة للحضارات النيلية وإرساء قاعدة الدولة عند فجر التاريخ"
وقد تمخض كل ذلك في ظهور الحضارات المبكرة في الألف الرابع قبل الميلاد في هذه المناطق بين خور القاش ووادس العلاقي شرقا ومناطق لقية ووادي هور عرباً قبل أن تتوج تلك التطورات بظهور مملكة تاستي نحو نهاية الألف 4 ق م. وسنسلط في موضوعاتنا القادمة بعض الأضواء على تلك الحضارات.

المراجع
- العباس سيد أحند محمد على، 2003 "النيل والصحراء خلال العصور الحجرية: تباين بيئي وتكامل حضاري" أدوماتو، العدد السابع ذو القعدة 1423 هـ - يباير (كانون الثاني) ص ص 7 – 30.
Gatto, Maria Carmela, 2002, “Ceramic Traditions and Cultural Territories: the Nubian Group in Prehistory” Sudan and Nubia, Bulletin no. 6, pp 8 – 19.
- Gatto, Maria C. 2012 “The Holocene Prehistory of the Nubian Eastern Desert” in Bernard, Hans and Kim Duistermaat, eds. The History of Peoples in the Eastern Desert, Monograph 73, Los Engeles: University of California.
Lange, Mathias 2006 “The Archaeology of the Laqiya Region (NW-Sudan): Ceramic, Chronology and Culture” in Caniva, I. and A. Roccati (eds.) Acta Nubica,. Proceedings of the 10th International Nubian Studies, Rome2006, proceedings of the X International Conference of Nubian Studies, Rome: 9 – 14 September 2002, pp 107 – 115.
Lange, Mathias “Development of Pottery Production in the Laqiya-Region: Eastern Sahara” CRIPEL, 26 (2006-2007). 243 – 251.
Lange, Mathias and Nordstrom, H. 2007. Abkan connections – The relationship between the Abkan culture in the Nile valley and Early Nubian Sites from the Laqiya Region (Eastern Sahara, Northwest-Sudan). Archaeological of Early Northern Africa Studies in African Archaeology 9. Poznan Archaeological Museum. 297-312.
Schuck W. 1989. “From lake to well: 5000 years of settlement in Wadi Shaw (Northern Sudan)”, in: Krzyzaniak L., Kobusiewicz M. (Eds.) Proceedings of the 2nd International Symposium: late Prehistory of the Nile Basin and the Eastern Sahara. Studies in African Archaeology, vol. 2, 421-429. Poznan.

 

آراء