فترة الثقافات المبكرة (6)

 


 

 

ahmed.elyas@gmail. com
ثقافة ما قبل قسطل (المجموعة أ) في الألف الرابع ق م ..
تضح من خلال تناولنا في الموضوع السابق (رقم 5) أن الألف الخامس قبل الميلاد شهد تواصلاً وتداخلاً وتطوراً واضحا في الثقافات السودانية المبكرة بين منطقة القاش شرقاً وصحراء غرب النيل ووادي هور شرقاً. كما اتضح ثراء تلك الثقافات من خلال تنوع صناعاتها الفخارية والسمات المشتركة بينها مما يشير إلى الأعداد الكبيرة لسكان المستوطنات وتطور أنماط غذائها ونظمها الاجتماعية
وسنشرع في الموضوعات التالية بتناول الموضوع الثاني من موضوعات تاريخ السودان القديم وهو: فترة الثقافات المبكرة قبل قيام مملكة تاستي في نهاية الألف 4 ق م. ونبدأ بثقافة منطقة ما بين الشلالين الأول الأول والثاني وهي الثقافة المعروفة تحت اسم "المجموعة أ A-Group" وقد اقترحنا في موضوعنا السابق عن "مقترح تقسيم تاريخ السودان القديم" أن نطلق عليها اسم "ثقافة ما قبل قسطل" وهو الاسم الذي سنستخدمه فيما يلى في هذا المقال وفي كتابانا اللاحقة.

الكشـوف عن ثقافة ما قبل قسطل
وتعرف ثقافية ما قبل قسطل بصورة رئيسة في الآثار التي تم التنقيب عنها في مشروعات مسح آثار النوبة بين عامي 1907 و 1969م المسح الآثاري لآثاري الأول 1907 – 1911م (4 مواسم كشفية) غطى 75 موقعاً لثقافية ما قبل قسطل. والمسح الآثاري الثاني بين عامي 1929 – 1934 (5 مواسم كشفية) وغطى 16 موقعاً لثقافية ما قبل قسطل. والمسح الآثاري الثالث بين عامي 1959 - 1969 (10 سنوات) اشتركت 29 بعثة كشفية في التنقيب في المنطقة الواقعة بين الشلالين الأول والثاني، بعثتان فقط نقبتا عن آثار ثقافية ما قبل قسطل هما بعثة الاتحاد السوفييتي التي نقبت في منطقة دكا عند مصب وادي العلاقي والبعثة الهندية التي نقبت في منطقة عافية جنوب مصب وادي العلاقي. (آدمز، 2020 ص 165 – 171 )
فكل المعلومات المتوفرة عن ثقافة ما قبل قسطل على النيل تم جمعها في 19 موسم كشفي فقط من نحو مائة موقع. وتعتبر هذه المدة وعدد المواقع التي تم الكشف عنها قليلة جداً لمساحة واسعة امتدت بين الشلالين الأول والثاني. ويكفي على سبيل المثال أن نذكر أن شارل بونيه وفريقه ظلوا ينقبون ويدرسون آثار منطقة كرمة لمدة خمسين سنة. ورغم ظهور نتائج أبحاثه في الكتاب الذي نشرته جامعة هارفارد عام 2019 “The Black kingdom of the Nile” إلا أن أعمال البحث لم تنته بعد.
ولذلك فإن ما تم الكشف عنه من آثار ثقافة ما قبل قسطل يعتبر في غاية القلة والنقصان، ولا توفر المادة التي تم الكشف عنها المعلومات الكافية للتعرف على أصحاب ثقافة ما قبل قسطل بصورة كاملة أو تمكن التوصل إلى نتائج نهائية فيما يتعلق بها. فالمستوطنات التي تم الكشف عنها على النيل قليلة، ونتائج بعض مواقعها لم تنشر بعد بالتفصيل.( William, 2011 p 83) ومعظم مقابر ثقافة ما قبل قسطل المبكرة غير جيدة الحفظ حيث وجدت الجثامين في بعضها ملقية على الرمال مما يرجح وجود الكثير من من المقابر المبكرة المفقودة. (Gatto, 2006 a, p 224)
هذا إلى جانب امتداد القرى ومواقع السكن على المناطق الأثرية مما أدى إلى ضياع عدد من المواقع، ولذلك فإن ثقافة ما قبل قسطل ناقصة المواد والكشوف. Bruce, 2006, p 178)) كما أدى توزع المادة الأثرية المكتشفة المتعلقة بثقافة ما قبل قسطل على عدد من المتاحف الغربية وضياع بعضها إلى فقدان بعض المعلومات تلك الثقافة. (2006 a, p 223)
ونسبة لضيق وقت فترات الكشوف لم يتم تنقيب المواقع التي تم الكشف عنها بإتقان. فقد كان التنقيب وتدوين الأماكن الحية عملية عرضية وثانوية في أغلب الأمر. وعبر فيرث عن ذلك – كما نقل آدمز - مرة أو مرتين عن أسفه من أن ضيق الوقت لم يكن يسمح لفرقه الميدانية بأن تفحص بعض المدائن الخربة التي لاحظوها على امتداد الطريق. (آدمز ص 89) ثم اختفت آثار ما فبل قسطل بين الشلالين الأول والثاني بعد عام 1969 تحت مياه بحيرة النوبة.

ظهور مصطلح المجموعة أ
ظهر هذا المصطلح في المسح الآثاري لإنقاذ آثار النوبة حيث وجد عالم الآثار الأمريكي جورج أ رايزنر في الموسم الأول للمسح 1907/1908 مواد أثرية كثيرة في منطقة جنوب الشلال الأول تختلف عن المواد الأثرية المصرية شمال الشلال الأول الذي يمثل الحدود بين مصر والسودان. تعرف رايزنر من خلال هذه المواد على أريعه مراحل ثقافية لا يوجد لها نظير في الثقافات المصرية. واعتقد رايزنر أن تلك الثقافات نتجت عن سلسلة تحركات سكانية لأقوام مختلفين غير مترابطين دخلوا المنطقة من مصر، ورأى أنه لو وجدت أي صورة ترابط في تلك الآثار فهي مصرية الأصل وليست صوراً محلية. (Adams, 1977, p 4)
ولما كانت هذه الثقافات ليست مصرية ولا تتوفر معلومات عن أصحابها في ذلك الوقت عرفها رايزنر بالحروف الهجائية A, B, C and X (أ، ب، ج، س) وهى الرموز التي أصبحت علماً لها وعرفت بالمجموعات الثقافية "المجموعة أ A-Group والمجموعة ب B-Group والمجموعة ج C-Group والمجموعة س “X-Group. وقد راجع الباحثون بعد رايزنر ما ورد عن المجموعة ب وتوصلوا إلى أن ما نسب إليها من آثار يعتبر تابعاً للمجموعة أ. وانحصرت المجموعات الثقافية المبكرة في المجوعتين أ، ج.
وإذا كان سبب إطلاق هذه الحروف الهجائية علماً على بعض ثقافاتنا القديمة في مطلع القرن العشرين له ما يبرره وهو عدم التعرف على أصحاب تلك الحضارات في ذلك الوقت، فإن استخدام هذه المصطلحات بعد مضي أكثر من مائة عام ليس له ما يبرره. فأصحاب تلك الحضارات - رغم اختفاء معظم آثارهم تحت مياه بحيرة النوبة – إلا أن الكثير من معالم تاريخهم أصبح معروفاً بدراسة ما تم إنقاذه من آثار في المنطقة النيلية الواقعة بين الشلالين الأول والثاتي وبدراسة ما جاور تلك المنطقة النيلية شرقا وغرباً.
وقد أدت أعمال سمث وشتايندروف بين عامي 1912- 1937م إلى وضوح السمات المميزة لثقافة ما قبل قسطل. وقد أدت حملة إنقاذ آثار النوية في مناطق وادي حلفا والشلال الثاني إلى تحسن كبير في التعريف والتعرف بأصحاب تلك الثقافة وبخاصة أعمال نوردستروم 1972 ووليامز 1986.
ولما كانت هذه الحروف رموز مبهمة لا دلالة لها فقد حاول بعض الباحثين بناءً على ما توفر من معرفة جديدة تغييرها. فاقترح B. G. trigger عام 1965 أن يطلق عليها ثقافات النوبيين المبكرين بدلاً من ثقافة المجموعات أ، ج. واقترح آدمز عام 1977 إطلاق اسم الأفق النوبي Nubian Horizon بدلاً من هذه الحروف (الأفق النوبي أ والأفق النوبي ج) وأوضح آدمز أنه فضل استخدام أفق للدلالة على ما يراه من تجانس تلك الثقافات، وأن أصحابها ليسو أقواماً منفصلين كما رأي ريزنر الذي اعتبر أن كل حرف يدل على ثقافة مختلفة. (Adams, p 7) ولكن لم يكتب للمصطلحين النجاح. وفي عام 1966 توصل سمث إلى أنه لا وجود لـ B كوحدة ثقافية. (Gatto b, 2006, p 62)
وقد استخدم مترجم كتاب وليامز مصطلح "ثقافة" بدلًا من أفق. وأرى أن استخدام مصطلح ثقافة أقرب دلالة على المعنى الذي رمز له رايزنر بالحروف. ومن الواضح أن اقتراحي ترقر وآدمز لم يتغلبا على مصطلحات رايزنر القديمة التي ساد استخدامها بين الباحثين داخل وخارج السودان، وانتشرت في المؤلفات التاريخية وفي المناهج في كل مراحل التعليم العام والعالي.
وأرى أنه ينبغي على المشتغلين والمهتمين بدراسة تاريخ السودان القديم وبخاصة واضعي المناهج التعليمية التوجه الجاد نحو تغيير هذه الحروف المبهمة التي لا تحمل دلالات حضارية أو جغرافية بل يحمل بعضها دلالات سالبة مثل المجموعة س التي تُعَرّف بالفترة المجهولة أو الفترة المظلمة.

النشأة المبكرة لثقافة ما قبل قُسطُل (المجموعة أ)
الرأي السائد بين الباحثين أن ثقافة ما قبل قسطل نشأت على النيل بين منطقتي أسوان شمالاً وبطن الحجر جنوب الشلال الثاني جنوبا. ظهرت أولاً في بدلية الألف الرابع قبل الميلاد في كبانية جنوب وخور بهان في منطقة الشلال الأول، ثم امتدت جنوبا نحو منتصف الألف الرابع قبل الميلاد إلى منطقة دكا/سيالة عند مصب وادي العلاق، ثم امتدت جنوباً إلى منطقة الشلال الثاني.(William, 2011, p 83; Gatto, 2000, p 105; Gatto, 2006 a, p223) وقد تطورت ثقافة ما قبل قسطل في آخر الألف الرابع قبل الميلاد إلى مملكة تاستي التي كانت عاصمتها قسطل جنوب الشلال الثاني.
وتعتبر منطقة الشلال الثاني من أهم مناطق الثقافات المبكرة على وادي النيل. إذ شهدت هذه المنطقة تطور وتسلسل حضاري قديم مثل ثقافات قادان وأركينيان وشماركيان و متباين الخرطوم وأخيراً ثقافة أبكان التي تطورت في الألف الخامس قبل الميلاد وتولدت منها ثقافة ما قبل قُسطُل.
وقد أدت الأبحاث الحديثة إلى مراجعة الرأي السائد الذي ربط نشأة ثقافة ما قبل قسطل بالنيل فقط شمال وجنوب منطقة الشلال الأول. فقد ارتبطت نشأة ثقافة ما قبل قسطل أيضاً بأبكان في منطقة الشلال الثاني، كما ارتبطت بمنطقة لقية في منطقة الصحراء الحالية غرب لنيل. وسنتعرف بإيجاز على علاقة نشأة ثقافة ما قبل قسطل بهتين المنطقتين.
ثقافة ما قبل قسطل وثقافة أبكان
تعرفنا على ثقافة أبكان في موضوعنا السابق " فترة الثقافات المبكرة من تاريخ السودان القديم 5" وذكرنا أن ثقافة أبكان تطورت في منطقة الشلال الثاني وبطن الحجر في الألف الخامس ق م، وشمل امتدادها الجغرافي مناطق واسعة جنوب الشلال الثاني حتى مناطق صاي ودنقلة وربما وصلت إلى منطقة كدروكا شمال الشلال السادس. كما يوجد قسم من ثقافة أبكان في منطقة لقية (Gatto, 2002, p 15 - 16)
وقد تزامنت ثقافة أبكان على النيل مع تطور الفخار في وادي شاو ووادي سهل الذي يعرف بالأفق النوبي المبكر في منطقة لقية "Early Nubian Horizon of the Laqiya Region نحو عام 4670 ق م، كما تزامنت ثقافة أبكان مع النيولثك المتأخر في نبتا بلايا وبئر كسيبا. ولذلك يمكن ان تعتبر أبكان تطوراً ثقافيّاً إقليميّاً ينتمي الى مجموعة ثقافية واسعة في وسط حوض النيل. ويبدو وجود ثقافة أبكان مؤكداَ بمنطقة العتباي في الصحراء الشرقية. وترى جتو أن الشك لا يزال يدور حول تبعية مقابر وادي Elei في أعلى وادي العلاقي لثقابة أبكان. (Gatto, 2000, p 17; Lange, 2006 b, p 109; Lange and Nordstrom, 299 – 301
وتدين ثقافة ما قبل قسطل بقدر كبير إلى ثقافة أبكان، فقد عاصرت ثقافة أبكان في فترتها النهائية ثقافة ما قبل قسطل المبكرة وتم التواصل بينهما خلال النصف الأول من الألف الرابع الميلادي. ونتج عن ذلك التواصل الشبه والتماثل بين الثقافتين واتحادهما. فحلت ثقافة ما قبل قسطل محل ثقافة أبكان في منطقة الشلال الثاني. (Lange and Nordstrom, 2007, p299; Roy, p 81; Gatto, 2006 b p 73; Gatto, 2002, p 16)

ثقافة ما قبل قسطل ومنطقة لقية
تمثل منطقة لقية التي تقع غرب منطقة الشلال الثالث محوراً مهماً من محاور تطور الثقافات السودانية المبكرة، وقد تم التعرف على آثار منطقة لقية في ثلاثينات القرن الماضي عندما عثرت بعثة كندي شاو في وادي يقع غرب المنطقة على بعض الآثار القديمة، وقد عرف هذا الوادي فيما بعد باسمه، وادي شاو. وفي عام 1983- 1983 قامت جامعة كولن بمسح آثاري في وادي شاو ووادي سهل المجاور له حيث تم الكشف عن 150 موقعاً أثرياً. ثم توالت عمليات الكشوف والتنقيب وبدأت الأبحاث تنشر عن المنطقة مثل أبحاث W. schuck و R. Kuper وMathias Lange الذي كان بحثه لشهادة الدكتوراه في جامعة كولن عن "فخار مواقع منطقة لقية في الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد"
تم العثور على آثار المرحلة المبكرة من وجود الانسان في منطقة لقية في مخلفات المقابر التي يرجع تاريخها إلى الألف الثان قبل الميلاد. وأول توثيق آثاري للمستوطنات في المنطقة يعود إلى نحو 5700 ق م. وفي نحو عان 4700 ق م ظهر في منطقة واديي شاو وسهل نوع فخار جديد أطلق عليه اسم "فخار الأفق النوبي المبكر في منطقة لقية" يتزامن مع ثقافة أبكان على النيل (ص 110) ومع النيولثك المتأخر في نبتا بلايا وبئر كسيبا. 2006 b, p 107) (Lange, ولذلك ارتبطت منطقة لقية منذ فجر تاريخها بمناطق النيل المجاورة لها,
ولعل الدراسة المتصلة للمادة الأثرية التي تم التعرف عليها في منطق لقية – كما يرى الباحثون - تمكن من إعادة تفسير آثار المنطقة وبخاصة المستوطنات التي كان يستخدمها رعاة أصحاب ثقافة ما قبل قسطل أثناء الألف الرابع قبل الميلاد والتي امتدت نتائج دراستها على آثار منطقة النيل. ولذلك يرى لانج ان استقرار حقيقي ثقافة جماعة ما قبل قسطل (المجموعة أ) قد وجد في منطقة لقية بالرغم من انه حتى الآن ارتبطت هذه الثقافة بالنيل فقط. وعليه فإن إقليم لقية كان جزءا من المنطقة الثقافية التي كان مركزها على النيل في النوبة السفلى. 7, 110; Lange, 2003, p 122)
ويرى الباحثون أن نتائج الدراسات السابقة إلى عهد قريب كانت ترى أنه ليس هنالك وجود لجماعة ثقافة ما قبل قسطل بعيداً عن النيل باستثناء ما وجد في Grassy valley في عام 1935عبارة عن إناء فخاري وبعض الخرز من العقيق الأخضر ربما تكون ذات اصل A ، ثم وجود فخار في بئر صحارى. ولذلك ارتبطت نشأة ثقافة ما قبل قسطل المبكرة بمنطقة الشريط النيلي بين كبّانية شمال أسوان شمالاً وسهل دكا/سيالة عند مصب وادي العلاقي جنوباً (Lange, 2003, p122; Gatto, 2006 b, p 62
ويمكن اعتبار أن تزامن فخار الأفق النوبي المبكر في واي سهل ووادي شاو أن يكون تطوراً ثقافياً ذا صلة مشتركة في المنطقة جمع في الألف الرابع قبل الميلاد ثقافات مناطق لقية وأبكان ووادي هور وما قبل كرمة وما قبل قسطل. ويبدو المزيد من البحث في منطقة لقية مهما وضروريا لتوفير المزيد من المادة الأثرية. (Lange, 2006 b, p 10 2006 b, p 107, 109) (Lange,
وترى جتو b 2006 ص 61 بالرغم من صدور عدد من الأبحاث منذ نهاية القرن الماضي عن المجموعة الثقافية A وهي بالتأكيد واحدة من أفضل الثقافات المعروفة في شمال شرق افريقيا إلا تحديث معرفتنا _ بما في ذلك المناطق التي تحيط بمنطقة النوبة شرقا وغربا ما زالت مفقودة.
فمجال أصحاب ثقافة ما قبل قسطل كان يضم مساحات واسعة ليس على النيل فقط بل كذلك في الصحراء الغربية. فالتحرك جنوبا وغربا من أجل توفر المراعي الجيدة كما في نبتا بلايا وبئر كسيبة وبئر طرفاوي ومنطقة لقية وواحة سليمة التي تمثل منطقة وسطى بين النيل والصحراء. (Lange, 2003, p122) وقد أوضحت قبور المجموعة ثقافية ما قبل قسطل على لنيل أنها تحتوي على عظام بقر وغنم وضان مستأنس. (Ross, 2013, p 51) ويدل ذلك على ارتبط أهل تلك الثقافة بمناطق المراعي على جوانب النيل.
وهكذا يتضح أن نشأة ثقافة جماعة ما قبل قسطل المبكرة لم ترتبط فقط بالمنطقة النيلية الواقعة شمال مصب وادي العلاقي. فقد ارتبطت النشأة المبكرة لثقافة ما قبل قسطل بالرحلة الأخيرة من ثقافة أبكان في بداية الألف الرابع قبل الميلاد واتحدت معها كما رأينا أعلاه في منطقة الشلال الثاني جنوب مصب وادي العلاقي. ويؤرخ لمرحلة ال (Usay, p325- 326) وبداية الألف الرابع قبل الميلاد هو التاريخ الذي ارتبط بنشأة ثقافة ما قبل قسطل على النيل، فمتى نشأت ثقافة ما قبل قسطل في منطقة لقية؟

متى نشأت ثقافة ما قبل قسطل في منطقة لقية؟
يرى الباحثون أن ثقافة ما قبل قسطل تأسست على النيل في منطقة الشلال الأول نحو عام 3800 أو 3900 ق م. تم بدأت تمتد جنوباً حتى منطقة دكا/سيالة نحو 3600 ق م. وأطلق على هذه الفترة المرحلة المبكر للثقافة. وقد تم التوصل لهذا التاريخ عن طريق فحص المواد الأثرية التي تم الكشف عنها مبكراً في مناطق الشلال الأول ودكا/سيالة، ولم تدخل المواد التي تم الكشف عنها لاحقاً في منطقة لقية في تحديد هذا التاريخ. (Lange, 206 b p 110; Gatto, 2000, p 105; Gatto, 2006 b, p 264; Roy, p 19 )
وبناءً على ما تم التعرف علية من آثار في منطقة لقية يرجح لانج أن مواقع ثقافة ما قبل قسطل في منطقة لقية ترجع إلى فترة مستوطنات منتصف عصر الهولوسين. (Lange, 2006 b, p110) وفترة منتصف عصر الهولوسين كما يرى الباحثون (Yletyinen, p 24; Lange, 2006/07, p 243: أزهري مصطفى صادق، ص 32) تغطي الفترة الممتدة بين الألفين الخامس والثالث قبل الميلاد.
ففي أثناء تناوله لموقعي وادي سهل الأثريين 18/66 و2-82/82 الذين يؤرخ لهما بمنتف الألف الخامس قبل الميلاد ذهب لانج إلى أنهما أيعاصران ثقافات أبكان والعصر الحجري الحديث المتأخر في نبتا بلايا وبئر كسيبا وحجري حديث الخرطوم المبكر. وأوضح أن أهمية الموقعين الاقليمية تأتي في أنهما يعاصران تدجين الحيوان على النيل في وسط السودان. ورغم عدم وجود عظام حيوانات في هذين الموقعين، إلا أنه يمكن افتراض أن التحول الثقافي لمستوطنات عصر الهولوسين في منطقة لقية له ارتباط بانتشار تدجين الحيوان على النيل. (Lange 2006 b p 110)
ونسبة للعدد الكبير الذي تم الكشف عنه من فخار أصحاب ثقافة ما قبل قسطل في منطقة لقية في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، فإن لانج رأى أن نشاط استيطاني كبير لأصحاب ثقافة ما قبل قسطل قد تم في منطقة لقية، وكانت منطقة لقية جزء الاستيطان الاقليمي الذي تم في المنطقة التي كان مركزها على النيل في الشمال الشرقي، وكانت منطقة لقية تمثل الحدود الجنوبية لأصحاب ثقافة ما قبل قسطل (Lange 3003, p 118; Lange, 2006 b, p 110)
ولذلك اقترح لانج أن مستوطنات أصحاب ثقافة ما قبل قسطل في منطقة لقية تم في فترة منصف عصر الهولوسين. ولم يوضح لانج (Lange, 2006 b, p110) بالتحديد الوقت الذي اقترحه لقيام مستوطنات أصحاب ثقافة ما قبل قسطل في منطقة لقية، لكنه حدد تواريخ بعض المواقع الأثرية لمستوطنات أصحاب ثقافة ما قبل قسطل في بعض مواقع واديي سهل.
ذكر لانج نتائج فحوص كربون 14 في الجدول رقم 1 (Lange, 2003 p,124)عن تواريخ مواقع وادي هور ووادي شاو وعلاقتهما بثقافة ما قبل قسطل. يحتوي الجدول على 19 موقع أتت تواريخ فحصها بين عامي 3801 – 2960 ق م. ثمانية من هذه المواقع تعود إلى الفترة المبكرة بين عامي 3801 – 3317 ق م. ويهمنا هنا منها الأربعة مواقع المبكرة التي يمكن ربطها بنشأة ثقافة أصحاب ما قبل قسطل جات كالآتي:
1. موقع وادي سهل 4- 38/82 تاريخه 4168 ق م ± 802
2. موقع وادي سهل 1- 38/82 تاريخه 3800 ق م ± 200
3. موقع وادي سهل 4- 38/82 تاريخه 3794 ق م ± 148
4. موقع وادي شاو 41- 38/82 تاريخه 3622 ق م ± 70
وفي مكان آخر (Lange 2006/07 p 249) في الشكل رقم 4 عن مراحل الاستيطان الرئيسة في منطقة لقية تظهر مستوطنات أصحاب ثقافة ما قبل قسطل في لقية نحو الربع الثاني من الألف الرابع ق م
كل هذه التواريخ تربط نشأة أصحاب ثقافة ما قبل قسطل في بداية الألف الرابع قبل الميلاد قبله بقليل أو بعده بقليل. وهذه التواريخ قريبة من التواريخ التي توصل إليها الباحثون لنشأة هذه الثقافة استناداً على المادة الأثرية في المنطقة النيلية. غير أنه ربما وجدت بعض الدلائل التي ترجح ظهور الثقافة الأسبق أصحاب ثقافة ما قبل قسطل في منطقة لقية .
فتاريخ الموقع رقم 1في وادي سهل (4168 ق م ± 802) قد يعود بنشأة ثقافة أصحاب ما قبل قسطل في منطقة لقية إلى بداية الألف الخامس قبل الميلاد أي في وقت مبكر في عصر الهولوسين الأوسط.. وعلى كل حال تبدو مراجعة مكان وتاريخ نشأة ثقافة ما قبل قسطل ضرورية.

ونواصل

المراجع
- آدمز، وليام ي، النوبة رواق افريقيا، ترجمة محجوب التجاني محجوب، الخرطوم: دار المصورات للنشر والطباعة والتوزيع 2020
- أزهري مصطفى صادق، 2013 "بيآت عصر الهولوسين والتغير الثقافي في نهر النيل الأوسط – السودان 10000 – 3000 ق م" في الإنسان والبيئة في الوطن العربي في ضوء الاكتشافات الآثارية، عبد الرحمن الطيب الأنصاري وآخرون (تحرير) الرياض: مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية.
- Adams, William Y. 1977, Nubia Corridor to Africa, London: Allen Lane Penguin Books Ltd
- Gatto, Maria Carmela, (2000). “The Most Ancient Evidence of the A-Groups Cultures in Lower Nubia” Recent Research in North-eastern Africa,, Studies in Africa Archaeology 7, Poznzn Archaeology Museum
- Gatto, Maria Carmela, 2006 a, “The Early A-Group in Upper Lower Nubia, Upper Egypt and the Surrounding Deserts’ in Chlodnicky, M. et al (eds.) Archaeology of Early Northern Eastern, studies in African Archaeology, 9, Poznan Archaeology Museum, 224 – 234.
- Gatto. Maria Carmela, 2006 b “The Nubian A-Group: A Reassessment” ARCHEONIL no. 16-December, p 61 – 76.
- Lange, Mathias 2003, A-Group settlement Sites from the Lagiya Region (Eastern Sahara, Northwest Sudan), Studies in African Archaeology, 8, Posnan Archaeological Museum, 106-127.
- Lange, Mathias 2006 “The Archaeology of the Laqiya Region (NW-Sudan): Ceramic, Chronology and Culture” in Caniva, I. and A. Roccati (eds.) Acta Nubica,. Proceedings of the 10th International Nubian Studies, Rome2006, proceedings of the X International Conference of Nubian Studies, Rome: 9 – 14 September 2002, pp 107 – 115.
- Lange, Mathias . 2007. “Development of Pottery Production in the Laqiya-Region: Eastern Sahara” CRIPEL, 26 (2006-2007). 243 – 251.
- Lange, Mathias and Nordstrom, H. Abkan connections. The relationship between the Abkan culture in the Nile valley and Early Nubian Sites from the Laqiya Region (Eastern Sahara, Northwest-Sudan). Archaeological of Early Northern Africa Studies in African Archaeology 9. Poznan Archaeological Museum. 297-312.
- Ross, Larry, 2013, Nubia and Egypt 10 000 BC to 400 AD, New York: The Ewin Mellen Press.
- Salvatori, Sandro and Usay, Donatella, 2006-2007, The Sudanese Neolithic Revisited, CRIPEL, 26.
- William, Bruce B. “Relations between Egypt and Nubia During Naqada Period” in Lee (ed.) 2011.
- Yletyinen, Johanna (2009) “Holocene Climate Variability and Cultural Changes at River Nile and its Saharan Surroundings” Examinsarabite Grundniva Geographi, 15, hp, G 1.

////////////////////////////

 

آراء