فديو الجلد الفضيحة أو موت دنيا !! … بقلم: د. على حمد ابراهيم
هذه مقالة سياحة فى دروب ومتاهات الألم والغبن والظلم . اكتبها للتوثيق التاريخى بمداد من الحزن الراسخ ، جاءنى فى الساعات الاولى من الفجر الصادق، فجر السبت الحادى عشر من ديسمبر بالتحديد . وكعادة كل الدياسبوريين السودانيين ، اقبلت اتصفح الشبكة الدولية للانتر نت ، ابحث فيها عن نبأ سار واحد من اخبار الوطن القارة ، رغم أن السرور قد شح فيه منذ وقت طويل . ولكننا درجنا على ان نمنى النفس . فربما ينفلت من بين دياجير الظلمات المحيطة نبأ سار اذا سكت نافع على نافع ، وباقان أموم الى حين أو لبرهة قصيرة من الزمن . ولكننى ، دهمت نفسى ، من دون قصد ارادى ، بشريط الفتاة السودانية الصغيرة وهى تتلوى وتصرخ وتتأوه من ضربات سياط العنج التى كانت تتلقاها فى قسوة فريدة من اثنين من عساكر الشرطة ! ضرب مبرح فى كل اجزاء جسم الضحية الصغيرة ، وحيثما اتفق . فى رأسها . فى ظهرها . فى ارجلها . فى اياديها . فى صدرها . فى خصرها . و لا بد أن هذا الشريط المأساوى قد ذكر كل من شاهده باشرطة نظام طالبان الذى كان يتفنن بتعذيب النساء واهانتهن وقتلهن فى الميادين العامة. لقد شاهدت كثيرا اشرطة طالبان الافغانية . واستطيع ان اجزم ان شرطة طالبان الافغانية كانت اكثر حذرا فى تحديد مكان الضرب من شرطة طالبان السودانية . وأقل قسوة وتشفيا . على الأقل ان عسكرها لم يكونوا يتلذذون بمنظر المجلودة الصارخة الباكية كما كان يتلذذ عسكر طالبان السودانية . بل لم نر ولم نسمع القاضى الطالبانى وهو يستعجل الضحية لكى تنطرح للضرب (حتى يخلص !). ويخيرها بين هذا الضرب المبرح وبين السجن كما سمعنا من قاضى طالبان السودانية. باحسرة على أزمنة ولت من (السودان القديم! ) كان الرجل السودانى فيها يفتخر بأنه مقنع الكاشفة ، ومدرج العاطلة أم كراعا دم ! واصبحنا نشاهد رجالا يتناوبون فى ضرب وتعذيب فتاة قاصر وهم يتبخترون فى زهو كأنهم قد صرعوا ضرغاما هزبرا . واقعة هذا الشريط لو حدثت فى أى بلد لمادت الارض تحت أرجل السلطة القائمة فيه . هل تذكرون ما حدث فى القاهرة . وفى زيمبابوى . و فى اوكرانيا ، وفى ايران. ولكننا نعيش فى ازمنة معارضة النباح الاسبوعى ، الذى يتنزل علينا من لدن قادة ازمان الغفلة ، الذين اوكلنا اليهم مصير بلد بحجم قارة لينقذوه من براثن الضياع والذل والاهانة . وجعلناهم يتوهمون انهم فعلا فى مستوى ذلك الحجم القارى ، قبل ان نكتشف مقدار طيبتنا وسفاهة تقديرنا واحلامنا . واقعة طالبان السودانية التى حكاها وجسدها الفيديو الفضيحة لابد انها زادت سودانى الدياسبورا وهم فى اقاصى منافيهم البعيدة ، لابد انها زادت من تمزقهم الوجدانى الذى ظلوا يكابدونه ، و يحسونه ، و يجدونه فى جوانحهم وافئدتهم منذ ان فرضت عليهم الهجرة القسرية من الديار التى لم يكونوا يحسبون انهم سيغادرونها يوما الى اصقاع تسمانيا واستراليا ونيوزيلندة والاسكيمو . هذا الواقع السودانى الحزين ينتظر أن تنداح فيه الفجيعة الوشيكة التى تلوح فى الافق الساجى خلف الأكمات الموحشة ، التى يتلصص من بين شعابها و ثناياها كل غدار شغوب . ما حدث وما يحدث فى الوطن القارة هذه الايام هو بعض من اثمان ثقيلة يدفعها شعبنا المغدور مكرها لا بطل . يدفعها من عزته وكرامته جزاء ما ارتكب من اخطاء ماحقة فى حق نفسه ، و فى حق وطنه . وها هو يقف وحيدا فى وجه العاصفة لا يكاد يجد نصيرا مؤاسيا يتعهده ، بعد أن شالت نعامة بلده ، الذى غدا ضيعة على الشيوع الدولى والاقليمى ، وزريبة مفتحة الابواب يدلف اليها كل من شاء .و حكامه الذين يحكمونه بالحديد والنار عاجزون حتى عن الاعتراف باقتراب العاصفة التى لا يحتاج الناظر اليها الى عيون زرقاء اليمامة لكى يتبين بروقها المتماوجة وهى تتشابى غير بعيد . لقد لاحت فى الأفق وتبدت بشريات الفجيعة القادمة . والنظام الحاكم مشغول بطول او قصر التنورة التى ترتديها هذه الفتاة القاصر او تلك فى حالة نادرة من التيه العقلى يحتار أى محلل فى ان يجد لها تفسيرا .
لقد درج سودانيو الدياسبورا على موالاة الصفحات الاسفيرية التى تتناقل اخبار بلدهم وهم يمنون النفس بالعثور على نبأ سار هناك وهناك يطمئنهم ولو للحظة واحدة بأن صفحات الأمل فى بقاء بلدهم موحدا لم تطو بعد . انه بحث مضنى لا شك فى ذلك . فهو يشبه بحث من يطلب ابرة صغيرة فى جوال من التبن. ولكنهم يتجملون بقول الشاعر العربى القديم :
ما اضيق العيش لولا فسحة الأمل
الذين استمعوا و يستمعون الى خطاب حكام السودان هذه الايام وهم يتعرضون الى محن السودان الماثلة والوشيكة لا بد أنهم كابدوا شجى عظيما من بؤس ذلك الخطاب . وسطحيته . ومحاولته البئيسة لاستغفال عقول الناس وتسطيحهم ، ربما ليتساوا معه فى درجة التسطيح العام . نعم ، كم هو بائس خطاب حكام السودان فى هذا المنعطف الحرج الذى يمر به السودان . ففى الوقت الذى يتحدث فيه بعض قادة النظام من الذين استشعروا الخطر الداهم على بلادهم . ويبحثون عن مخرج ما نجد ان النافذين فى النظام قد وطنوا أنفسهم على فلسفة فرق تسد الانجليزية القديمة ، وعلى ربحية سياسة الاقصاء والأنفراد على المستوى الشخصى بالنسبة لهم . وليس بالضرورة على مستوى الوطن الكبير . فها هو مساعد رئيس الجمهورية ، الدكتور نافع على نافع ، مثلا ، يقولها على رؤوس الاشهاد ، وفى حنق عظيم ردا على دعوات توحيد الجبهة الداخلية السودانية فى ظل المعطيات الخطرة الماثلة ، يقولها بأن السودان بخير وعلى خير وسائر فى طريق الخير! ولا حاجة له بتوحيد الجبهة الداخلية بالتحاور مع المعارضة ، لأن المعارضة لا تزيد السودان إلا خبالا. خطاب الدكتور نافع هذا هو الترجمان الاوضح لموقف المجموعة الاقصائية فى النظام التى لا تريد أن يشاركها أحد من ابناء الوطن الآخرين فى ادارة شئون بلدهم . اذا لم نقل مشاركتهم فى جنى الخيرات السياسية والاقتصادية والوظيفية .التى ظلوا يتفيأوون ظلالها منذ عقدين من الزمن ولما تبتل بعد او ترتوى نفوسهم الظامئة الى برد اليقين السلطوى . لقد جثمت الأنظمة العسكرية الشمولية على صدر الشعب السودانى حتى الآن اربعة واربعين عاما من الحكم القاهر مقابل حوالى العشر سنوات فقط هى مجموع دورات الحكم المدنى الديمقراطى الثلاث غير المتتابعة . ويبقى سؤال الخبل والخبال الذى تثيره مغالطات واتهامات الدكتور نافع للمعارضة التى غيبت عن أى دور لها فى شئون بلدها على مدى تجاوز الاربعة واربعين عاما ، يبقى مفتوحا على مصراعيه للنقاش ليعرف الناس كلهم اجمعون ، و ليشهد التاريخ من الذى كان طينة الخبال التى اضاعت وحدة السودان ، وهتكت حريات شعبه وكرامته بالتعذيب فى بيوت الاشباح ، و بالتعليق على اعواد المشانق ، وقادت بعض خيرة ابنائه الى "دروة" الاعدام مع تباشير العيد الذى يعفو فيه الرحمن ناهيك عن البشر . ومن الذى جيش الألوف من ابناء الشعب الصغار ، وارسلهم الى محرقة حرب جهادية فى الجنوب كانت نتيجتها المباشرة خروج الجنوب من الشمال الى يوم يبعثون . ومن الذى امتدت اياديه بالتعذيب والاهانة الى كل من كان له رأى مخالف حتى وصل الأمر الى أن يبطش التلميذ باستاذه ويزج به فى بيوت الاشباح ، ناسيا الأثر المنقول عبر القرون الذى يبجل المعلم الذى يكاد يكون رسولا .
لقد كانت حرب الجنوب فى بدايتها حرب احتجاج ضد القصور التنموى فى الجنوب ، حتى اقبل العسكر المسيسون فأخرجوها عن مسارها القديم و حولوها الى حرب دينية عنصرية قضت على الاخضر واليابس . واخذت معها مئات الالوف من الارواح . واخذت معها _ اخيرا _ الجنوب بقضه وقضيضه و ما ابقت شيئا ! . الجنرال عبود حولها حربا ضد الكنائس والقساوسة . والجنرال نميرى واعلنها شريعة دامية .قطعت اطراف الناس وازهقت ارواحهم حتى جعلتهم يتصايحون فى وجه بعضهم البعض من جزع : إنج سعد ، فقد هلك سعيد .
لقد ذهب الجنرالات بدبابيرهم اللامعة . وتركوا لنا من بعدهم عوارا غلبنا التداوى منه . اما الخطاب السودانى الحكومى فى هذه الايام ، فتقول للشعب السودانى ، وباللغة الدارجة الفصحى التى يجيد التفاهم بها ، أن هؤلاء الناس آتون من صقع خلوى الاشياء فيه هى ليست الاشياء التى يعرفونها . والبدايات فيه والنهايات هى ليست البدايات والنهايات . وحتى معاجم تفسير الظواهر السياسية هى ليست المعاجم .فامريكا تعاورهم وتتنطع ضدهم لأنها تخشى وتخاف من جبروتهم القادم على الطريق غدا . هل تنسى أمريكا واختاها فى الرضاعة السياسية ، بريطانيا وفرنسا ، كيف تسلح المجاهدون السودانيون للغرب كتائبا كتائب ، وكابرا عن كابر . وكيف ساروا نحو الوغى ، تؤازرهم وتحميهم كتائب من جند الله لا تراها أعين البغاة المجردة ، ولكن تراها الأعين الساهرة فى حراسة الله . نعم ، لقد سا الألوف ، أو سيرت قسرا نحو الوغى فى الجنوب . و لكنها قبرت فى الجنوب ولم تعد وان عادت فى مكانهم حسرة الامهات . تلك لوحات لم يعد لها فى صدر الشعب السودانى متسع . فهذا الشعب الواعى سياسيا يعرف ان نيفاشا قد ارسلت جيشه خارج الديار الجنوبية . فاذا عادت الحرب فسوف تدور رحاها اما فى داخل الحدود الشمالية او على اطرافها وتخومها . ويعرف الشعب الواعى ان خزينته العامة قد اصابها الجفاف حتى قبل أن يأخذ الجنوب اوراقه الثبوتية الجديدة ويغادر . وغدا تحتنكها غائلة الدولار المتمرد ، حتى تغدو صريما او كالصريم . لا ذهب المعز فى الشرق يملأ جنباتها الخاوية . ولا سيف الانقاذ او صولجانها يرد عنها صروف الحاجة والعدم . وتلصص الاعداء من وراء الأكمة .
لقد أجلس عسكر السودان انفسهم فوق صدور الشعب السودانى لاكثر من اربعة عقود . وملأوا حيوات هذا الشعب الثرى بالعز والكرامة والمروءة ، ملأوها ضجرا وبؤسا ويأسا . حتى لم يعد لديه ما يقول عن محنه الجاثمة وبلده يتلوى من اوجاعه. وزعماء ازمان الغفلة والعجز الذين نصبوا انفسهم زعماءا لهذا الشعب افتراءا لم يعد لديهم هم ايضا ما يقدمونه غير الحديث اليائس البائس عن تفتت بلده الوشيك وعن الحروب التى ستنفجر فيه . فى حالة استسلامية نادرة كفيلة بأن تقدح شهية الشامتين عليهم و قد انكشف عوارهم و ضعفهم و هوانهم على انفسهم وعلى الناس.
اننا نضرع الى سمّاع النجوى ونقول أن هذه هى حالنا نحن الذين قذفت بنا أنواء السياسة وتصاريفها بعيدا عن ديارنا الحبيبة . وهى حال بلدنا المنكوب كذلك . و هى ايضا حالة زعماء ازمان الغفلة الذين تعارف الناس على وصفهم بالزعماء التقليديين ، وهم يجلسون على السياج وقد رضوا من الغنيمة الوطنية بالاياب الى حضن النظام الذى طلبوا اليه اذات يوم تسايم مفاتيح البلد . وأن يسلم نفسه اذا اراد السلامة . هاهم يكتفون بالبشريات اليائسة يقدمونها الى شعبهم بدنو أجل وحدة بلاده دون ان يكون فى جعبتهم ما يعين حتى على اجتراح الألم القاصد ، ليزيد كل ذلك من ألم الشعور بالفجيعة لدى شعبهم وهو يكتشف بعد فوان الاوان كم كان ساذجا وغافلا عندما اتخذ مثل هؤلاء قادة يدخرهم للنوائب . قلت هذا . واختم معزيا نفسى قبل الآخرين فى الزمن الذى اضاعته فى اجترار الوهم بالاقبال نحوالسراب البلقع . واعزيها مرة اخرى فى الشهامة السودانية التى أعلن شريط الفيديو الفضيحة موتها حقا وحقيقة . لقد كان الرجل السودانى يتنبر ويتشكر بأنه أخو البنات ، و مقنع الكاشفة ، ومدرج العاطلة أم كراعا دم . ولم يبق الا ان نرفع الفاتحة على ذلك المجد التليد الذى كان . وعلى تلك المرؤات التى كانت . إنه فعل العاجزين عن التمام . ولكن لا مندوحة امام الانسان العاجز الا أن بعلن عن عجزه حتى لا يقع فى رذيلة خداع النفس وخداع الآخرين .
أخ . . . يا وطن !
(alihamad45@hotmail.com)