فشل المخابرات المصرية

 


 

مجاهد بشرى
5 January, 2023

 

من أهم علامات فشل كل الخطط الأمنية للقاهرة , وتصاعد مخاوفها وقلقها من فقدان السيطرة على الأمور في الخرطوم أن يزور عباس كامل مدير المخابرات المصرية للعاصمة السودانية ويلتقي بالمدنيين لأول مرة .

الجميع يعرف بأن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان قام بإنقلاب الـ25 من أكتوبر الفاشل بأمر من المخابرات المصرية , التي رأت ضرورة ذهاب الحكومة المدنية , فانقلب البرهان على الحرية والتغيير وجلس مع حلفائه من الجنجويد والحركات المسلحة على السلطة, ولم يستطع أن يتقدم خطوة إلى الأمام, بل إزدادت الأمور سوءا, وخرجت عن سيطرة الانقلاب والقاهرة .

الضعف والانعزال والفشل المتزايد لمكونات الانقلاب, قابلها تنظيم مستمر في المعسكر المناهض للانقلاب, فلجان المقاومة في أعلى حالات وعيها, وأكثر أوقاتها تنظيما, والحرية والتغيير نجحت في تفكيك معسكر الانقلاب سياسيا لدرجة أنه أتى مرغما ووقع على الاتفاق الإطاري الذي أصبح المخرج الوحيد أمام الانقلابيين .. القاهرة تعلم بأن الشعب السوداني وعلى رأسه الحرية والتغيير لن يغفروا لها تآمرها على حكومة الثورة ورعاية الانقلاب, فعمدت إلى رمي كل كروتها , حيث أعادت الميرغني إلى السودان , وفشل في مهمة اختراق الموقف الثابت للحرية والتغيير, وأعادت إيلا وفشل أيضا في تحقيق أي اختراق ممكن.

المخابرات المصرية تُدرك تماما أن العملية السياسية الجارية ستُخرج البرهان من السلطة تماما ,فالبرهان رجل يقول عنه زملاؤه والتقارير أنه "رجل محدود الذكاء , ويتعامل بردود الأفعال, ومنعدم الثقة بالنفس, ومهزوز وكاذب", وهذا ما اكتشفته القاهرة منذ اليوم الأول للانقلاب, فقد صوّر لها البرهان أنه مسيطر على كل مقاليد الامور في السودان, وهذا بالطبع مجاف للحقيقة .

لكن ما يُهمنا أن زيارة مدير المخابرات المصرية إلى الخرطوم تعني أن القاهرة في أشد حالات خوفها من مآلات سيطرة المدنيين وعودتهم إلى الحكم, ورعبها من زوال سيطرتها العسكرية بخروج عميلها البرهان, ولتتجنب الاتهامات التي نسوقها ضدها بأنها تتعامل مع ملف السودان بصورة أمنية, حاولت تصوير زيارة عباس كامل على أنها سياسية عبر الجلوس مع المكون المدني الذي حرضت العسكر ضده واخرجته من السلطة.. هذا الركوع والتنازل في الموقف المصري يعني أن الحرية والتغيير سارت في الطريق الصحيح.

وأن أحد أسباب صمت معظم السودانيين على العملية السياسية الجارية, هي رغبتهم في أن تُنتج الحرية والتغيير عملا سياسيا يُخرج العسكر من السلطة , دون أن ترتمي في حضنه, وهذا يعني أن تلتزم الحرية والتغيير بموقفها الرافض لوكلاء الانقلاب من الأرادلة المتواجدين في ما يسمى بالكتلة الديمقراطية, والحرص على عدم إغراق العملية السياسية بعملاء مصر الذين يستقوي بهم البرهان , ويشجعونه على الإنقلاب تلو الإنقلاب.

خطة المخابرات المصرية هي تخريب العملية السياسية عبر خلق موازنة بين قائد الجنجويد والبرهان, وبين الحرية والتغيير وبين الكتلة الديمقراطية , قائد الجنجويد يلوذ بحلول المدنيين التي يراها مخرجه الوحيد كما قال في خطابه بالأمس, وهذه أحد مكاسب العملية السياسية "اضعاف معسكر الانقلاب وتفكيكه" , وفي الكفة الأخرى نجد البرهان الذي تبحث له القاهرة عن مدنيين يساندونه دون اغضاب الشارع السوداني , فقد فشلت الحاضنة السياسية للحركات المسلحة والطيب الجد , والناظر ترك , والإدارات الأهلية, وحتى الجماعات المتطرفة والفلول .. وما فهمته الحرية والتغيير هو عدم مقدر الانقلابيين على البقاء في السلطة دون دعم سياسي مدني , فعملت على تفكيك الحواضن المدنية والسياسية للانقلاب .

في هذه المرحلة الحساسة من العملية السياسية يجب أن تعي الحرية والتغيير بأنه لا يوجد ما يُجبرها على قبول أي مقترح أو مبادرة من القاهرة, بل العكس , فإستمرار الحرية والتغيير في نفس الخطوات السليمة يعني أن القاهرة ستكون مضطرة للتعامل مع المدنيين بإحترام, وكف يدها عن التدخل بحلول أمنية في الشان السوداني , فهي تحتاج أن تكون على وفاق مع أي حكومة قادمة في قضايا تهدد وجود مصر "المياه, الإقتصاد, الإرهاب".. وهو مقابل بسيط يدفعه السيسي نظير دعمه لإنقلاب يكاد يتسبب في تشظي السودان ككل, وهي جريمة تحتاج القاهرة أن تجتهد في التكفير عنها .. ويجب أن تفهم الحرية والتغيير أن قبولها بأي من مقترحات القاهرة فهذا سيرسل رسائل خاطئة للشعب ولقوى الثورة , بأن الحرية والتغيير تقبل بإغراق العملية السياسية مما يعني أنها تسعى خلف السلطة فقط, فتتحول العملية السياسية برمتها إلى عملية شرعنة للإنقلاب وإعادة انتاج نفس الشراكة الفاشلة.. وهنا لن يغفر السودانيون لها, ولو تعلقت بأستار الكعبة .

والأهم هو أن قبول الحرية والتغيير بمشاركة وكلاء الإنقلاب من الكتلة الديمقراطية سيتعارض مع قضايا العملية السياسية مثل قضية العدالة والعدالة الانتقالية , والتي تقتضي تجريم ومحاسبة كل المتسببين في عرقلة المسار المدني الديمقراطي, ويعطل قضية إصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية , والمنظومة العدلية والقانونية , مما يعني تقوية دائرة الانقلاب والافلات من العقاب, ومادامت الحرية تجد تأييدا من المجتمع الدولي وغالبية من السودانيين, فلتكسب الشارع , ولا تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير , وإن تطلب الأمر إلغاء كامل العملية السياسية ..
وقد تتحجج مصر بأن هنالك جهات لا تريد للقاهرة أن تتعاون مع المدنيين, وحتى لا نقع في هذا الفخ , يجب أن نتذكر بأن القاهرة منذ سقوط المخلوع سارعت في احتضان العسكر ولم تعير المدنيين أي اهتمام..
وعلى الحرية والتغيير أن تختار ..
بين عمليتها السياسية التي ننتظر منها الكثير ..
أو الانجرار خلف ألاعيب المخابرات المصرية وفقدان كل شيء. فالجنرال قد فشل .. والقاهرة قد خسرت.
///////////////////////

 

آراء