فصول من وهج الذاكرة .. بقلم السفير: على حمد إبراهيم
د. على حمد إبراهيم
22 May, 2013
22 May, 2013
سفر: على حمد إبراهيم
( تحت الطبع)
عوى مكبر الصوت فى المطار الفخيم يبارك له سلامة الوصول الى البلد الذى لا تؤذن ديوكه للفجر عند كل صباح كما تفعل ديوك دار محارب عموم . و لا تشبه ارضه الارض التى اطلق فيها صرخة ميلاده الاولى ، لا تشبه تحديدا البوادى عموم. بدأ اذن فصل المحنة الأول ، محنة فراق البوادى عموم . توجس خيفة ان يكون فراقه للبوادى عموم مثل فراق الطريفى لجمله الاصهب الهباب . فجعه البرد القاسى فى ذلك الصباح الغائم ، صباح الجمعة بالتحديد . وشدته المفارقة : الغر الميامين فى البوادى عموم يتسابقون فى هذا اليوم نحو جامع المخيم القديم ، كل يروم مكانا فى الصف الاول احتسابا ليوم تشخص فيه الابصار . وتزوغ فيه من مواضعها القلوب التى فى الصدور. صارت بعيدة عنك البوادى عموم . و صاروا بعيدين عنك الناس الذين يالفهم القلب قبل العين . لم يعد يطالهم النظر ، ولا يحمل النسيم اليك بعض همهماتهم الحانية . عائشة ، الاخت الأم ، لم تستطيع ان تكون فى جحفل المودعين الباكين. ولا مياسة الصغيرة . لماذا فعلت بهم الذى فعلت . لا يطلبون منك اعتذارا . ولكنك تتعزى ، بأن نفسك البدوية المنشأ غلبها أن تمارس الصبر على المذلة والهوان. او أن تمتهن الانحناء خوفا و طمعا . حملت اوراقك ، وطفشت بأهلك فى ارض الله الواسعة. تاكلون يوما ، وتجوعون يوما عوضا عن الاذعان و الانحناء . تركت لهم الجمل بما حمل .و بدأت ملحمة حياة جديدة و مرة فى مجتمع قاس ومر يطلب اليك ان تنسى ماضيك القريب وتبدأ من الصفر فى كل شئ لكى تحقق حلم اليانكى القديم . مطلوب منك ان تنسى ماذا كنت وماذا تعلمت. قسوة متناهية وبلا حدود فى مجتمع يرحم اذا كانت نار جهنم ترحم . قلت لا لاشياء كثيرة . لم تمد يديك الى منظمات الاغاثة التى تحتال على الجميع . لم تغمض عينيك عن المحاذير الكثيرة فى الدياسبورا العميقة . فضلت سهر الساعات الطوال فى مكاتب الطرق السريعة الباردة الرطبة . وساعات اخرى فى مكاتب المتاحف التاريخية ، و ساعات فى مكاتب التمويل المركزى على ان تصبح زبونا لمنظمات الاحتيال المقنن . تكتشف عالما غريبا فى البلد الذى يتدثر بالبعد عن عوالم الآخرين فلا يدركون كنهه وتضاريسه المتعرجة مثلما حدث الشاعر الملهم عن السموات التى تبدو لنا قريبة ولكنها تستعصم بالبعد عنا . كذلك هى بلد اليانكى ، بعيدة عن مداركنا ، قريبة من نظرنا بزخمها و قدرتها الفتاكة على التزيين والتزييف فى آن واحد . يحدثونك عن اغنى بلدان الدنيا قاطبة قبل ان تكتشف ان الحاجة تحول الانسان فيها الى ماكوك اصم ، يغدو ويروح عند كل صباح بلا شعور غير الشعور بالخوف من فقدان لقمة عيشه البائسة يتطلبها عند محلات الوجبات السريعة التى تجلب المرض قبل ان تجلب الشبع من مسغبة . فهو يعيش فى مجتمع فردى النوازع ، وغير متكافل ولا يسأل فيه حميم حميما . يسير الفرد فيه فى الطرقات وليس فى ذهنه غير سؤالين اثنين: كيف يسدد فواتير الاستغلال الرأسمالى آخر الشهر . وهل يبقى فى جعبته من المال ما يوفر له وجبة فى مطاعم الوجبات . جون ، زميله فى مكان العمل ، رآه وهو يدفع قيمة وجبة صغيرة قدمها الى صديق جاء يزوره. اغتم جون ، وافترشت اساريره بسمة حائرة . لم يقل له شيئا فى التو . ولكنه اضمر ان يقول له الكثير عندما يغادر الزائر الغريب مكتبهما المشترك . الناس هنا يتكلمون بمقدار . ويبتسمون بمقدار . ولا يعرفون الضحك المجلجل مثلما يفعل الناس فى البوادى عموم . لا يدسون انوفهم فى شأن الآخرين . ويرفضون بشمم ان يدس الآخرون انوفهم فى شأن من شئؤنهم الخاصة . صديقه الجديد جون صار استثناءا منذ تعارفا فى الوردية المسائية فى مكاتب المؤسسة التى ترعى المتاحف التاريخية القومية . صار يدس انفه الدقيق فى امور صديقه القادم من عوالم الشموس الافريقية بطباع بدت له غريبة و جالبة للحيرة والاستغراب . عندما خلا المكان ، امسك بتلابيب صديقه الافريقى يجره اليه بقوة . يحتج لديه بقوة . يصرخ فى وجهه بقوة . البارحة فقط كان جائعا لا يملك قوت نفسه ولا قوت عياله . وهاهو يتبرع بقيمة وجبة غذاء لزائر تبدو عليه علامات الراحة المادية . يدفع ثمن هذه الوجبة من مرتبه الناحل الضامر. . وكان حريا به ان يوفر هذا المال القليل للذين ينتظرونه فى برد فيرجينيا المغاضب . سأل صديقه الافريقى الذى بدا له عبيطا بما فيه الكفاية من العبط الابطح : لماذا فعلت هذا ؟ لا تقل لى ان دينك يامرك بهذا . الرب لا يأمر بالهلاك . كلنا اهل اديان . واهل كتب سماوية . كل واحد منا يعبد الله بطريقته الخاصة . انت تسجد له على الارض , تعفر له جبينك بالغبار تقديسا له فى اسمى نوع من التقديس و اذلال النفس للديان فى علاه البعيد . تعجبنى هذه الاستكانة للخالق فى صلواتكم . يكفي هذا من شخص فى مثل حالك . لن يطلب منك الرب ان تبعثر القليل الذى تجمعه بشق الانفس على الآخر المحتاج و انت سيد المحتاجين . هذا زائر مستور الحال ، جاءك ملاطفا وليس محتاجا . لماذا تدفع له ثمن طعامه . تقبل منى دس انفى فى شانك الخاص . افعل هذا من باب الاشفاق عليك ، لآنك لا تعرف نواميس الحياة فى هذا المجتمع القاس الذى وفدت عليه بدون تدبر كاف . لا اريدك ان تنسى كيف اعفاك مخدمك من العمل معه حين اكتشف انه يوظف سفيرا سابقا يحمل من المؤهلات العلمية والخبرات ما يؤهله الى اعمال غير الاعمال التى اوكلها اليه . اريدك ان تعرف الامر على حقيقته الكاملة. وأن لا تنخدع ببعض بهارجنا السطحية . لماذا تصرف مخدمك هكذا ؟ لم يفعل الرجل هذا هيبة واحتراما لشخصك . حقيقة الامر انه يخاف قانونا ابلها يمكن ان يعرضه للمساءلة بتهمة استغلال حاجة الآخر الاجنبى . هذا القانون المتوحش لا يسأل عن ماذا يحدث لك عندما تفقد المال القليل الذى يتيحه لك عملك هذا . اما المخدم فهو يعرف ماذا سيحدث له اذا اشتم احد المتنطعين فى منظمات المجتمع المدنى رائحة استغلال من أى نوع . تعرف ان هذه المنظمات صارت دولة داخل الدولة . بل صارت اقوى من الدولة فى كيثر من الاحيان . تبسم لصديقه جون . ولم يجادله . اذ لا جدوى من وراء جدال مثل هذا . فبون العادات الاجتماعية و الفوارق الثقافية والدينية بينهما شاسع بصورة لا يمكن سبر اغوارها فى جدل عابر مثل هذا الجدل الذى لا يملك له وقتا و لا استعدادا نفسيا . ولكنه سأل صديقه الجديد لماذا صار استثناءا . وصار يدس انفه فى انوف الآخرين وليس فقط فى شئونهم الخاصة . ضحك جون حتى بان اصفرار اسنانه من كثرة تدخينه للتبغ الفرجينى المغرى . وقال انه صار استثناءا فى محاولة منه لانقاذ شخص متهور وغير مدرك لنواميس البيئة التى وفد عليها بلا تدبر حاذق . شخص يريد ان يرهن حياته الجديدة فى موطنه الجديد لنواميس بيئة صار بينه وبينها فضاءات فاجرة . يعرض عليه مرفق خطير وظيفة يسيل لها اللعاب . يرفض ابن الشيخ البدوى عرض المرفق الخطير بين دهشة ذلك المرفق واستغرابه . واستغراب صديقه جون . لم يشأ ان يضيع وقته ووقت صديقه بأن يخبره بأنه ترك منصبا رفيعا فى بلده الأم رفضا للانحناء امام جبروت الانسان المقدور عليه بطبيعة الحال . ولن يستقيم لديه ان يقبل الانحناء لجبروت الحاجة الطارئة . طبعه البدوى غير المساوم كلفه كثيرا فى ماضيه غير البعيد . اكيد سوف يصير عرضة لسخرية صديقه جون ان اخبره بهذا . فهو لن يفهم ولن يقبل تبريره لرفض عرض المرفق الخطير . انصرف الى نفسه يحادثها فى منلوج داخلى كانه يعتذر لها على كل المشاق التى راكمها عليها حتى الآن . الشطب من كشوفات الترقى ومن وكشوفات التنقلات الدبلوماسية مرات ومرات بسبب مناكفاته الكثيرة . كم مرة كان على قاب قوسين او ادنى من الذهاب الى الشارع العريض مطرودا من الخدمة الدبلوماسية لولا رجال عظام هرعوا الى نصرته بلا سابق معرفة او صلة رحم غير صلة الابداع الادبى . حسبوه مشروع روائى عظيم فى المستقبل القادم : عمر الحاج موسى ، العسكرى الاديب ، وجمال محمد احمد ، الدبلوماسى المرموق ، والكاتب الشاهق ، خلف الرشيد القانونى الضليع، وعبد الوهاب موسى ، الباحث المدقق ، والنذير دفع الله العالم الضخم . واحمد خير، حبر التاريخ الوطنى . لقد ضل البدوى الشاب طريقه ، ودلف الى حظيرة السلك الدبلوماسى فى غفلة من الزمن . كان حريا به ان يكون وسط اهله المغاوير فى المفازات المدلهمة بالخطوب التى لا تبرح عوالم البدويين . ان لزم الامر يحمل بندقيته وسيفه على كتف . ويتدرع حربته الانصارية ام كبس ذات الكنداب على كتفه الآخر. لن يحكى لصديقه جون هذه الجزئية التى ستكون عصية على فهمه وادراكه . المهم هو ان الدبلوماسية لم تغير من سجاياه البدوية كثيرا . نعم ، تهندم بالبدل من الماركات العالية بدلا من ثياب اهله المرسلة مع الريح . ولكنه ظل على سجايا اهله البدويين. يزيده الظلم تماديا فى العناد كعادة اهله البدويين حين يشعرون ان زيدا من الخلق يتقصدهم. ذات يوم ضاق صدره بنظام الحكم الذى اقامه انقلاب مايو 1969 عندما سدر فى طغيانه وعنفه ضد اهله المهدويين فى جزيرة (أبا ) وفى ( الكرمك) وفى (ود نوباوى ). لجأ الى الابداع الادبى فى القصة القصيرة والرواية والمقالة السياسية . نشر قصصا رمزية معبرة فى صحف الصحافة والايام والاضواء . ( الزعامة طايرة ويطير معاها الانجليز) التى نشرتها صحيفة ( الصحافة ) جرجرته الى المساءلة من قبل رؤسائه الدبلوماسيين . لم يكترث لتحذيرات الناقد النحرير ابن خلدون من ان هذه القصة السياسية ستنهى مستقبله الدبلوماسى ان انتبه اليها الرقيب الصحفى . لست ادرى لماذا سجل ابن خلدون ملاحظته باللغة الانجليزية على صدر القصة. ولكن رئيس التحرير وهو شاعر مرهف اعجبه النص القصصى فاجازه . وربما لم يدر حتى اليوم المتاهات الادارية التى دخل فيها كاتبه الناشئ . وزيره كان يكره الثقافة والمثقفين . وكان لا يستحى من ان يكرر امام الملأ انه لا يريد فى وزارته مثقفاتية وادباء مجادلين بقدر ما يريد افندية طيعين لا يعصون الوزير ما يامرهم به و يفعلون ما يؤمرون . اصرّ الوزير على ابعاده الى وزارة الثقافة و الاعلام عله يجد ضالته هناك لممارسة (العك ) الثقافى الذى يضيع فيه كل وقته . عزت بابكر الديب ، مدير الشىون العامة يتوسل الى الوزير ذى القسمات الصارمة العابسة أن يعطيه فرصة لكى يقنع الدبلوماسى الناشئ بان ينزل عند رغبة الوزير ويتعهد بترك الكتابة فى الصحف وتقليل نشاطه فى المنتديات الثقافية . ولكن الدبلوماسى الناشئ ، و قد عادت اليه نوازع اهله البدويين اقسم باغلظ الايمان أن لا يترك الكتابة فى الصحف متى وجد الى ذلك سبيلا و ان لا يتوقف عن نشاطاته الثقافية فى وقته الخاص خارج الدوام الرسمى . وقبل ان تهدأ عاصفة قصته االمسماة ( الزعامة طايرة ويطير معاها الانجليز) فاذا به ينشر قصة اخرى اكثر جرأة فى صحيفة الايام فى يونيو 1974 بعنوان (دموع اوليفيرا السودانية ) . جرته ( دموع اوليفيرا السودانية ) الى الشطب من كشف الترقى دفعة واحدة . و فقد حتى ترتيب الطيش بخروجه من كشف الترقى دفعة واحدة . لم يشفع له انه كان اول الدفعة المترقية فى آخر منافسة. لم يقتصر الأمر على المساءلات الدبلوماسية فى وزارته . بل وصل الأمر الى الوقوف خلف القضبان للمرة الاولى فى حياته . اوقفته نقابة المحامين هو و رئيس تحرير الاضواء خلف القضبان . ولولا ان الاستاذ احمد خير ، حبر التاريخ الوطنى السودانى ، جاء مهرولا الى نجدته ونجدة ( الاضواء) وصاحبها ، الاستاذ محمد الحسن احمد ، لدخل السجن وفقد وظيفته الدبلوماسية تلقائيا . انقذه القاضى حين حفظ الدعوى لعدم كفاية الادلة لتسلم الجرة الى حين .*
- يتبع -
Ali Ibrahim [alihamadibrahim@gmail.com]