فنانا بيت العود: مازن الباقر ومحمد محي

 


 

 


تخرج المبدعان من "بيت العود العربي" بأبو ظبي :

العازف الفنان: "مازن الباقر "من السودان

والعازف الفنان: "محمد سعيد محي "من اليمن

التاريخ 24  يناير 2013

(1)
صدق الشاعر الفنان الهادي آدم حين أظلنا بظلاله الشِعرية النديّة حين كتب في الستينات :
وغدا تأتلق الجنة أنهارا وظلا
وغدا ننسى ، فلا نأسى على ماض تولى
وغدا نسهو فلا نعرف للغيب محلا
وغدا للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا
قد يكون الغيب حلوا ، إنما الحاضر أحلى
ولكننا في أمسية الاثنين 28 يناير 2013 م، في لقاء منتدى السودان الفكري الأسبوعي ، كنا نقبض على شمس مُضيئة من أشمُس المعرفة الروحية  ، وتفتحت أبواب البلاط الحالم حيث الممالك المُترفة الغنى ، تتراقص بين أعيُننا ، حيث كنا نحلم بأننا في عصر غير الذي نحن بين ظهرانيه نحيا ، نرتدي حُلل المجد البهي ، فلا نأسى على ماضٍ تولى أو حاضر بائس أثقل حياتنا الاجتماعية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والفنية في بلادنا  وحجب عنها الهواء المعرفي النقي الذي يربط العلم بالإحساس بالجمال . ها هو الحاضر الزاهر يحيا ليس إلا .  ومن جديد نهض الشباب إلى الوثوب ، بالمجد الذي تقاصرنا عن إدراكه زماناً  ، وقد أدركوه في مُقبل الأيام . ليس لنا إلا أن نقف إجلالاً لتلك البقعة المُضيئة التي تتنفس إبداعاً ، إذ يحملها عازف العود الفنان الدارس والمتمكن من علوم التخت العربي ومدارسه ومقاماته ، منتشراً بين أودية الشام والعراق وتركيا والسودان واليمن  .عصير جديد على المذاق ، عصيّ على التذوق السهل .
للموسيقى العربية أبواب تنفتح على الغناء الشرقي   :
-    مقامات ترتكز على درجة الراست (دو) C : مقام راست والنهاوند والنوا
-    مقامات ترتكز على درجة الدوكاه (ري)  D: مقام بياتي ومقام كرد ومقام حجاز ومقام الصبا .
-    مقامات ترتكز على درجة السيكاه (مي) E : مقام سيكاه
-    مقامات ترتكز على درجة العجم عشيران (فا) F : مقام عجم
(2)
اكتسى الحاضر الزاهر ثوبين أخضرين من الفتوة والشباب والصبر على الدقة والرصد والإبانة ، التي دكت حصون ممالك ما كنا نحلم بأن نكون من روادها . جاءت الأمسية طرية بالمحبة ،ثقيلة بعبق التاريخ ، وقد نهلا منه ، وعكفا على التجويد والتجديد .وأهواء النفس تخرج راقصة بالمعاني  .
وجلس بين أيدينا :
عازف العود الفنان السوداني : مازن الباقر
وعازف العود الفنان اليمني " محمد سعيد محي"

الرقة على عتبات النظر والسمع والفؤاد ، وكأن الأشجار الحالمة تنسج للعصافير بيوتها ، لتُغازل بعضها في معزوفة قدمها فنان العود " مازن الباقر " من تأليف " نصير شمه "  ، تقدم قصة المحبة ولهو المحبين من جنس العصافير وشغب الوداد والصدّ . سمعنا الزغاريد الملونة ، والريح تهفو للأسماع من الأوتار ، نسمع صليل الاحتراب مع الشوق والقلق  . كان يوماً مشهوداً  أطل علينا في منتدى السودان الفكري ، يوم من أيام " بيت العود العربي "الذي أسسه الموسيقار العراقي " نصير شمه " في مصر قبل اثنتي عشر عاماً ، وأسس فرعه في أبوظبي عام 2007 ، ثم الآن في ماليزيا . لتدب الروح والريحان في شرايين الموسيقى العربية والشرقية من جديد ، ويعود لآلة العود ألقها في دست الموسيقي والغناء ، وهي الملكة التي أزاحتها الآلات الغربية عن واجهة الأعمال الموسيقية والغنائية ، مثلها مثل آلة القانون . وكان حرياً بأهل الموسيقى ، ليس بإعادة العود إلى مملكته  بعد طُرده منها ، بل لإعادة التدوين والتأليف الموسيقي إلى حوزة العلم ، بعيداً عن الهرج الذي ساد الغناء والموسيقى بصرعات تهتم بالموضة ، دون تجويد العلم الموسيقي. وفي ذات الوقت عرفنا أن للموسيقى الكلاسيكية العربية لم تزل تجد المكانة التي وجدتها الموسيقى الكلاسيكية الغربية ، والعمل الأوركسترالي في الموسيقى الغربية والعربية يجد اهتماماً واسعاً ، والإنسان لدينا صار يتعود على صبر الاستماع .
لم تغادر الأعمال الموسيقية التاريخية منذ شوبان وموتزارت وجايكوفيسكي وبتهوفن وهايدن ، مهرجانات الموسيقى العالمية ، فلماذا لا يكون للموسيقى الأوركسترالية مكاناً في مهرجانات الموسيقى في بلادنا ، وأن يكون للتخت العربي مكانه أيضاً من المعرفة الموسيقية  وهو قد رأى الطريق مُشتت الرؤى منذ أوائل القرن الماضي ، يقترب ويبتعد من الأذن السودانية .
(3)
كثيرون يقولون لنا : (وماذا نفعل مع الغلظة الجاثمة على  صدر  الحياة السودانية تجُرّها للمنع والقطع والبتر وتغيير حياة الناس إلى الأسوأ ) .
ونرد : إن الحياة التي تتقدم  بالتطور لما تزل تنتظر الخروج من مكامنها  عند هزيمة التكفيريين القادمة وإن طال زمانها . ولن نستسلم لنبدأ من جديد من الصفر  ،من بعد سقوط الغلظة التي هدمت كل مؤسسات الدولة ، ولكن يكون البناء شقيق الهدم في توازٍ لأن النهوض حريٌ بأن يكون متوازناً ، يعرف موقعه من العصر ويتآخى مع الإنسانية . سوف يتم التطوير وتبني العلم في الثقافة والفنون والتعليم والآداب ، لأن التاريخ لا يرجع ، وتلك أعراض دولة تكفيرية ستسقط لأن آليات هدمها في داخلها . ومن هنا يتعين علينا ألا ننتظر ، بل نتقدم بالعلم والموسيقى والفنون ورافعات الثقافة ، بل حتى السياسة التي ركب مركبها كل الناس في حاجة للعلم للتنظيم وتكوين البدائل والتطوير الخلاق ، لأن إرادة الحياة أكبر من التبشير بالموت الذي يبشرنا به الذين يمسكون دفة الحكم النازي ، ولن تقدر المافيا الإسلامية العالمية أن تكون بديلاً للإنسانية ، وهي لا تبشر إلا بالقتل والتفجير بصناعة الفتوى وغسيل المخ الممنهج للشباب ليصيروا قنابل موقوتة تُبشر أصحابها  بالجنة  !، ولا يلقون إلا البؤس والخزي والعار ، يُشيعون باللعنات .
(4)
تحدث إسماعيل عبد المعين أن السلم السباعي كان معروفاً في السودان أيام التركية السابقة قبل المهدية ، ويقول المطرب " العاقب محمد حسن " أن الغناء على السلم الشرقي كان معروفاً في أربعينات القرن الماضي .وقد ولع مطربي ذلك الزمان بفريد الأطرش وعبد الوهاب ويغنون أغنياتهم . تعلم أحمد المصطفى عزف العود من " كمال مَتى " ، وتعلم " عثمان حسين " العود من العم " كامل السيد حمدون " .
عرفنا العود منذ أيام العملاق خليل فرح ، منذ العشرينات ، وغنى به . وعرفنا أول من عزف على آلة العود في الإذاعة  السودانية " حسن عمر سوميت " ، ثم تغني به في صحبة محمد أحمد سرور العملاق " إسماعيل عبد المعين " في الأربعينات ، ثم ساير الموسيقى السودانية في مراحل نبوها للتطور ، وتكلمت الأوتار ، وتسودنت العواطف الجامحة وعرفت كيف تحيل ليالينا حين تتغنى تهتز خلجات  الوجدان .
(5)
تقول ورقة تقديم " مازن الباقر "  في عرض التخرج في بيت العود العربي بأبوظبي :
عازف العود الفنان : مازن محمد الباقر
من بلد الأبنوس ، من سلة الغذاء العربي والعالم ، من السودان الشقيق ، عشق الموسيقى الشرقية ( علماً بأن الموسيقى السودانية في معظم بلاد السودان سلمها خماسي وإيقاعاتها الخاصة مختلفة عن موسيقى الشرق ) . ومنذ صغره عشق آلة العود ، التي مثلت له زيارة الموسيقار " نصير شمه " للسودان عام 2007 تأثيراً قوياً على حياته الموسيقية ، حيث اتجه إلى الدراسة في " بيت العود العربي " وتخصص في آلة العود في أبو ظبي ، وحصل على دراسة منهجية على يد أستاذه المباشر " أحمد حميد وأشراف ومتابعة الفنان الموسيقار " نصير شمه . أسس فرقة موسيقية في السودان باسم ( إشراق ) ، وتعد أول مجموعة سودانية متخصصة بالموسيقى الشرقية في السودان ، وقدم من خلالها العديد من العروض الموسيقية وشارك أيضاً في العديد من المهرجانات المحلية والعالمية .
حاز على العديد من المؤلفات الخاصة كعازف متفرد ، بالإضافة لتقديمه دروس آلة العود ، وبتخرجه سيفتح آفاقاً جديدة للعود في السودان وأفريقيا من خلال تدريسه ضمن منهاج " بيت العود " وسيشكل نواة لتأسيس بيت العود العربي في السودان الشقيق . " مازن محمد الباقر " يدرس الطب في جامعة الخرطوم وسوف يتخرج العام القادم .
(6)
تقول ورقة تقديم " محمد سعيد دحي "  في عرض التخرج في بيت العود العربي بأبوظبي :
فنان العود " محمد سعيد دحي ":
قادم من أرض الأسرار والتاريخ والألوان الغنائية وأرض البن وأرض أول عِمارة بناء متعدد الطوابق في التاريخ ، من اليمن الشقيق حيث انطلقت أحلامه الموسيقية ورغبته الجامحة أن يكون علامة في المستقبل لرصيد الجمال القادم من جزيرة العرب وجنوبها العريق ، منطلقاً صوب الإنسانية في كل مكان . أكمل الفترة الدراسية المتخصصة ( 24 شهراً ) والتي حصل بموجبها على علوم وفنون مدارس العود المتنوعة على يد أستاذه المباشر " أحمد حميد " وتحت إشرافي المتواصل ، وصولاً لتأهيله لمقابلة الجمهور في حفل التخرج والذي يشمل مدارس العود المتنوعة . وما لفت انتباهي عن " محمد " دأبه وإصراره المتواصلين وسعيه الحثيث لالتقاط المعلومة وأدائها بشكل دقيق ، حتى ولو استغرق ذلك وقتاً طويلاً ، وهذا الدرب هو السبيل الوحيد لتأسيس العازف المتفرد : الصبر والتمرين المتواصل والمثابرة والإصرار .
نال " محمد سعيد دحي " المادة العلمية والفنية وطرق الأداء المتنوعة ، وسيتواصل الدعم له ولزملائه الخريجين من الإمارات والعالم العربي ، ولكن الجهد الأكبر سيقع على عاتقه في مواصلة هذا الدرب وتعليم طلبة آخرين وهذه هي رسالة بيت العود العربي ، أن يتعلم الطالب ، وينشر العلم بالمثابرة والجدية والسعي لنشر الجمال .
الموسيقار : نصير شمه
(7)
جلس فنان العود  السوداني " مازن محمد الباقر " بجوار صديقه وشريكه فنان العود اليمني " محمد سعيد محي " على منصة منتدى السودان الفكري ، وقدما عروضاً فنية ومعزوفات  مشتركة بالعود  في الموسيقى التراثية السودانية ، من ألحان الفنان السوداني المبدع إبراهيم الكاشف ، وقطع من أعمالهما في  تنفيذ الألحان الموسيقية بآلة العود . وقدم مازن الباقر لحناً مميزاً عن غزل العصافير بالعود ، كاد أن يجسد عالماً حسياً بالنغم . وقدم " محمد سعيد " لحناً تراثياً يمنياً . كان العرض الفني الموسيقي على درجة عالية من المهارة في العزف على انصاف وأرباع التون ،  وقدما موسيقى عربية القواعد والأساس ومنه انطلقت  ، وأدخلا من روحهما الكثير من الأحاسيس  الدافئة بعُشرة الأنغام الطروب وهي تتخلق في بيئة وجدانية جديدة .
أدخلا على أذواقنا باباً جديداً يكسر القيم الثقافية  القديمة التي كانت تعتقد  أن النغم العربي غريب عن وجدان أهل السودان ، وأن السلّم السباعي والسداسي الذي نشهده في البيئة الثقافية الموسيقية في غرب السودان كان عَرضاً لموسيقى عربية  وليس فناً أصيلاً من ابداع الإنسان ، ولكننا لمسنا وأحسسنا لأول مرة أن للبيئة الثقافية الموسيقية والغنائية التي يتمتع بها أهلنا في غرب الوطن و شعوبه المتنوعة  التي لما تزل تبدع موسيقياً وغنائياً مع الرقصات ، أيما إبداع . لقد استخدمت نصف التون في الألحان التراثية والمعاصرة ، وهو ثراء أكثر عمقاً مما عرفنا في استخدام  السلم الخماسي عندما ،و الذي نسمعه من تراث الأغنيات المصطلح على تسميتها " أغاني الحقيبة" . كنا من قبل قد استفسرنا الدكتور الموسيقار " محمد عجاج " عندما كنا نتتلمذ على يديه في دراسة النوتة الموسيقية في ثمانينات القرن الماضي ، وذكر لنا أن كل المباحث لم تستطع أن تجد تبريراً لاستخدام السلم الخماسي الذي خلا من نصف التون تماماً في منطقة وسط السودان وما حولها ، منذ قدوم " محمد ود الفكي " من كبوشية أول القرن الماضي  . وقد ظهر لنا ذلك  جلياً في   الموسيقى التي أثرت الساحة الفنية حين تيسر استقطاب فنون الأطراف أو أطراف الأواسط  في بداية السبعينات من جيل مطربي وفناني كردفان ودارفور الذين أظهرهم معهد الموسيقى حين التحقوا به ، وعرفنا أن سر في آلة " أم كيكي " وهي كمان شعبي بوتر واحد ، تُعزف بالقوس " تمتاز بتعدد أبعادها وتقاسيمها  قد استدرجت نصف التون ، وسلسلة من السلالم الموسيقية ذات النغمات السداسية ، والسباعية، وهي إثبات للهُجنة التي مهدت لتلك الثقافات المتنوعة الأصول في جذور التاريخ أن تحيا وتعتاش في البيئة السودانية  . إن الغناء الشعبي زاخر بالغوص في ثراء أنصاف التون ، بل أرباعه . وتلك ميزة أثبتها العلم والتقدم .
(8)
آن لنا أن نتصالح مع تلك الغربة التي تحدث عنها الشاعر " محمد عبد الحي " في عودته للنهل من " سنار " وهي خامة غنية بالإيحاء ،حين  أشعر :
أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّى بلسانٍ
ويصلَّى بلسانٍ
من بحارٍ نائياتٍ
لم تنرْ فى صمتها الأخضرِ أحلامُ المواني.
كافراً تهتُ سنيناً وسنينا
مستعيراً لي لساناً وعيونا

هاهو " مازن " يعيد موازين التصالُح ، ويعيد للسان غناءه ، وللوجدان أن يتفتح على ثقافاتٍ تبدو كالجديدة رغم صلات بيننا وأشجان، لينهل من التراث الموسيقي العربي بلا حواجز ، بل بالتعامل  الإنساني بالقدر الذي يجعلنا نُبدع ، ونعيش الحياة الثقافية المنفتحة على الآخر ، وألا يكون اللون الثقافي وشماً لا يتغير . وأن لا نكون أيضاً في توقنا للمعرفة  أسارى اغتراب آخر  فوق غربتنا  المتعددة والمتشابكة  . وأن يكون لنا رؤيا واضحة في السير إلى الإنسانية بخطى ثابتة  تأخذ من تراث الإنسانية ما تزاوج به رغباتنا ، وتمنح الإنسانية وجهنا الثقافي دون خوف أو وَجل  . وألا تصيدنا الثقافة الموسيقية العربية إلى حوزتها ، بل نعود بها إلى الدوحة السودانية منفتحة على الثقافات الثرية  المتنوعة في السودان .

المراجع :
-    مقابلة شخصية مع الدكتور " محمد عجاج " 1987 م
-    التيجاني فضل الله سعيد ، حي الموردة المنشأ والريادة ، 2007 م.
-    معاوية حسن يس ، من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان من أقدم العصور إلى 1940 ، 2005م.
-    حفل تخرج عازفي العود يناير 2013  ، بيت العود العربي بأبوظبي .
-    محاضرة الراحل الدكتور " مكي سيد أحمد ، في منتدى السودان الفكري عن الموسيقى السودانية  ،2007 .
-    دكتور محمد عبد الحي ، العودة إلى سنار .
-    قصيدة الشاعر الراحل  الهادي آدم ، أغداً ألقاك .

عبد الله الشقليني
29/1/2013

abdalla shiglini [abdallashiglini@hotmail.com]

 

آراء