فوزية ولتْ دُبُرَها يومَ خِتَانِها؟!! … بقلم: علي يس الكنزي
5 June, 2010
من أبواب متفرقة
alkanzali@gmail.com
4-4
العتبى لمن يتابع مقالاتي، فقد اخلفتهم موعدي لإكمال رواية ما جرى من لطف إلهي لفوزية التوغية – من بلاد توغو- كما روت في كتابها: (هل يسمعونك عندما تنتحبين) DO THEY HEAR YOU WHEN YOU CRY: . قلت أن فوزية بدأت نحيبها بدمع وصمت وصوت، وهي صبية في السادس عشر من عمرها، يوم أن روعت بموت أبيها، الذي كان لها حبيباً وصديقاً، وأخاً. فما فتئت تواصل النحيب حتى تلكم الساعة التي كانت إدارة سجن أحدى مستودعات حبس المهاجرين غير الشرعيين للولايات المتحدة الأمريكية، تنادي باسمها. يوم النداء تخطى عمرها التسعة عشر عاماً. وتكرر النداء، وفوزية لا تجيب، ورجع النداء وفوزية لا تلغ له بالاً، حتى غضبت الإدارة لهذا التجاهل، وفات عليها أن فوزية كانت تؤدي صلاة الظهر. عن الصلاة قالت: "إنها الشيء الوحيد الذي مكنني من رؤية ما وراء هذه الجدران القاتمة التي تحيط بي في هذا المكان القمئ".
في السجن تلاشى عندها الأمل والرجاء، ولم يبق منه إلا ومضة من نور إيماني لم يخمد في قلبها، فهي ترى الأمل ما زال موجوداً لقوله تعالى في الآية 87 من سورة يوسف ( .... انه لا يياس من روح الله الا القوم الكافرون). فصلاتها هي التي أبقت فيها ومضة الأمل.
عندما خططت لها أختها مع أمها طريق الهروب إلى هناك ... حيث لا تدري فوزية أين يرمي بها القدر. جاءتها أختها قبل ليلة الختان لتعاودها في محنتها وتصبرها، كما عودتها في كل ليلة. بعد أن أمضت معها وقتاً قصيراً تساءلت في مُكْرٍ ودهاء عن مراسم الختان كيف ومتى تتم؟ بعدها استأذنت عمتها ووعدتها بأن تعود إليهم في يوم الاحتفال لتشاركهم المسرة والفرح. تمثلت فوزية بأنها تريد مرافقة أختها حتى الباب الخارجي. وفي زقاق يبعد خطوات عن دارها، كانت هناك سيارة أجرة في أنتظرهما لتحملهما إلى الحدود الغانية التي تبعد مقدار ساعة. ومن ثم عبرتا الحدود راجلتين، ثم سيارة أخرى إلى مطار أكرا حيث انضمت فوزية لمجموعة من الطالبات كن ذاهبات في رحلة مدرسية إلى ألمانيا. وعند الوداع بدموع لا تجف، دست أختها في محفظتها ثلاث ألف دولار تمثل كل مدخرات أمها.
في مطار فرانكفورت لم يكن التدقيق كافياً ويبدو أن رئيس البعثة المُتفق معه مسبقاً كان يحمل جوازاً لفتاة تخلفت عن المجموعة. خرجت فوزية من المطار وانتفت علاقتها بالمجموعة، فدار رأسها ولم تعرف لأي جهة تمضي. أخذت تدور في المطار من مكان لأخر حتى بلغ بها الإعياء مبلغاً واتخذت لها مقعداً في أحدى المقاهي، فإذا بامرأة ألمانية تبادرها بالسؤال في لغة إنجليزية ركيكة إلى أين تتجه؟ من ردها علمت المرأة أن فوزية لا مأوى لها، فأخذتها لدارها حيث مكثت معها شهرين كاملين. بدأت تستغلُ القطار لتتجول في الأسواق لتمضية الوقت دون هدف محدد علها تسلي وحشتها ووحدتها.
في القطار التقت بشاب نيجيري يدعى جيمس، عند لقائهما الثاني حدثته عن وحشتها، عرض عليها السكن معه ولكنها رفضت قائلة بأن دينها لا يسمح بذلك. ثم أسَرْتُه بقصتها، وأبانت رغبتها في السفر إلى أمريكا لأن لها رحم هناك. عرض عليها جواز أخته -إن صح قوله- وعليه تأشيرة صالحة للدخول لأمريكا، إلا أنه طلب مقابل مادي، ففعلت. في بحر يومين أتاها بالجواز وتذكرة الطائرة. فور وصولها لمطار نيوارك الدولي بولاية نيوجرسي (Newark NJ) أبلغت فوزية سلطات الهجرة أن الجواز ليس لها. اُلقيَّ القبضُ عليها، وتم تفتيشها بطريقة مذلة بعد تجريدها من كل ثيابها، التي بُدِلتْ بثياب السجن، ثم وضع القيد علي يديها وأودعت السجن وأخْطِرتْ بأنها ستحاكم بموجب قانون خاص، لأنها تعتبر في نظر القانون خارج الأراضي الأمريكية.
منذ تلك الساعة بدأت تجربتها المرة مع السجون الأمريكية، حيث تعرضت فيها لأنواع من العذاب والذل المهين أعجزُ عن حصره ووصفه في هذا المقال. لكن لله تدبير معها، فَسُمِحَ لها أن تتصل هاتفياً بأحد أقاربها بالمدينة التي قصدتها، فلم يتوان لحظة في تسمية محامٍ مختص في قضايا اللجوء، رغم محدودية دخله. كانت هناك متدربة لم تكمل دراستها الجامعية في القانون بعد تدرب في مكتب المحامي. ذهبا للسجن للقاء فوزية، وفي ذلك اللقاء تلاشت فوارق الدين واللون واللغة والجنس، بين المتدربة وفوزية، وامتزجت روحيهما، وتآلفت القلوب والأرواح، وأصبحتا كأنهما من رحم واحد. مما حدي بالمتدربة الآنسة ليلى ميلر بشير Layli Miller Bashir أن تجعل من قضية فوزية قضيتها الأساسية في الحياة.
في أول مقابلة قضائية والتي جاءت بعد انتظار دام لأشهر، فشل المحامي والمتدربة في إقناع القاضي بدعواهما، فرفض منح فوزية حق اللجوء، وزاد عليه معلقاً: "أن كل ما تدعيه فوزية ما هو إلا كذب وافتراء". فلم يكن الأمام المتدربة إلا أن الاستئناف. ولكن لم يكن حظ استئنافها الذي مكث أشهر أخرى، بأحسن حظاً، مما دفع بروح فوزية إلى قاعها الأسفل، فما كان منها إلا أن طلبت من المتدربة أن تتقدم لإدارة الهجرة طالبةً إعادتها لبلادها لتواجه مصيرها المحتوم، فالبقاء في السجن أصبح مدمراً للنفس والروح معاً.
في تلكم الساعة، سألتها المتدربة صاحبة الديانة البهائية. – وللقارئ نوضح: "أن الدين البهائي ينسبه البعض إلى الإسلام، إلا أن أتباعه يقولون أنه دين سماوي له رسوله ومبادئه وأحكامه. ورسول هذا الدين حسب معتقديه هو الميرزا حسين علي النوري، الملقب ببهاء الله، الذي بدأ دعوته في إيران في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وله قبر يزار في حيفا.
يؤمن البهائيون بوحدة المنبع الإلهي للديانات الكبرى في العالم، ويعترفون بأن مؤسسيها رسل من الله. كما يعتقد البهائيون أن الديانات جاءت لتهذيب البشر أينما كانوا عبر العصور. وأن هذه الديانات نشأت في مجتمعات كانت تدين بديانات سابقة لها، فقام كل دين جديد على ما سبقه. لذا فكما للمسيحية جذور في اليهودية، فأن للبهائية جذور في الإسلام. غير أن هذا لا يعني بأن الدين البهائي فرقة من فرق الإسلام أو فرع من الديانات السابقة له"-
نعود للمتدربة ليلى وسؤالها الذي طرحته على فوزية وقولها: أتدرين يا فوزية ماذا يعني اسمي؟ فأجابت: أنت ليلى المجنون. فألحقتها بسؤال أخر: أو تدرين قصة ليلى والمجنون في الأساطير الشرقية؟ فأجابتها: بأنها بلا. إذن دعيني أن أقصها عليك باقتضاب:
تقول أساطير أهل الشرق: "أن ليلى كانت أجمل فتاة ظهرت في جزيرة العرب، فتعلق بها محبها حتى لقب بالمجنون، وتعلقت هي به. عندما علم الأعيان والفرسان والأمراء بحُسنِ ليلى وجمالها سعوا لخطبتها، ولكنها تمنعت لأن قلبها مملوك للمجنون. فلما تيقن الخُطاب أن المجنون أحبُ إليها منهم وهم عصبة، اجمعوا أمرهم أن يقتلوه، حتى يخلو لهم وجه ليلى.
علمت ليلى بكيدهم ومكرهم، فهربت لتعيش لوحدها إلى أن يأتي أجلها. ظل المجنون يبحث عن حبيبته في الجبال والآكام والفيافي والوديان، وكل بقعة وكهف وخرابة، فلم يجد لها أثراً. في بحثه وقع صيداً سهلاً لطالبي دمه، فضيقوا الخناق عليه، حتى أجبروه أن يلجأ لحائط شديد الارتفاع يعجز المرء على اجتيازه. ساعتها رأى المجنون أن حتفه قد دنى. فحملوا عليه يريدون اجتثاث رأسه. فإذا بقوة خفية تدفعه لتسلق الحائط في سرعة البرق وكأنه عنكبوت. سقط من الجانب الآخر فاقداً لوعيه، عندما استفاق كانت دهشته أن وجد ليلى عند رأسه، فقد كانت تختفي هي الأخرى من وراء ذلك الجدران". لذا أطلب منك يا فوزية أن تثقي في أن الله ربما يجعل من سجنك هذا مثل حائط المجنون؟!!!
بعد ذلك اللقاء سافرت ليلى إلى الصين ضمن وفد يمثل ديانتها للاشتراك في المؤتمر الدولي الرابع للمرأة المنعقد في بكين في سبتمبر 1995. أتاح لها المؤتمر فرصة اللقاء بشخصيات أمريكية نسوية مؤثرة وفاعلة، من الكونغرس، وقيادات المجتمع المدني النسوي، وترافعت أمامهن باسم فوزية. فتبنين النسوة قضية فوزية فور عودتهن إلى واشنطن ونيويورك. نجحت جهود نسوة المدينة (نيويورك وواشنطن)، وأصبحت فوزية نجمة تتكأكأ عليها وسائل الإعلام من صحف ومجلات واسعة الانتشار، وقنوات تلفزيون مثل CNN و CNBC، كتكأكؤ خطاب ليلى المجنون، بغرض الحوار معها. كللت جهود النسوة بالنجاح، وحصلت فوزية على حق اللجوء كأول امرأة تحصل عليه بسبب الختان. بل تعدى الأمر ذلك، وصدر قانون من الكونغرس الأمريكي معتبراً "أن ختان النساء يعد جريمة في حق المرأة"، لذا يحق لكل من تتعرض لمثل هذا الفعل أن تطلب اللجوء، وهو ما عُرِفَ لاحقاً بتشويه العضو التناسلي للمرأة Female Genital Mutilation – FMG
عندما خرجت فوزية من السجن لم تضيع زمناً في إكمال دارستها الثانوية ثم الجامعية، وتزوجت ورزقت بثلاث أطفال، كما حصلت مقابل كتابها هذا على ستمائة ألف دولار من الناشر النيويوركي Delacorte Press, a New York publisher.
هذا ملخص قصة فوزية التوغية التي واجهت محنتها باللجوء إلى ذي الطول لا إله إلا هو، فسخر الخلق لخدمتها. وفي قصتها تلمستُ بحق وحقيقة تفسير الآية 45 من سورة غافر " إنا لننصر رسلنا والذين امنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد".