في اسطنبول اردوغان بعد الزلزال: عن “النموذج التركي” وإشكالياته

 


 

 



عدت السبت الماضي من زيارة قصيرة لعاصمة الخلافة اسطنبول، كانت مناسبة من جهة لإدراك حجم الغضب وسط بعض شرائح النخبة التركية ضد حكومة رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان، وفي نفس الوقت الذي يتمسك فيه الملايين بقيادته في توازنات لم تكن أبعادها قد تكشفت حينها. وقد شهد المؤتمر الذي حضرناه هناك ونظمته جامعة ستانفورد الأمريكية بالمشاركة مع واحدة من أبرز الجامعات الخاصة في تركيا، سجالاً حاداً كنت طرفاً فيه حول مغزى (وحتى وجود) "النموذج التركي"، خاصة وأن موضوع المؤتمر لم يكن تركيا، بل التغيير في العالم العربي.

كانت الزيارة أيضاً مناسبة لتذكير المشاركين بأن الفقير إلى مولاه كان أول من تنبأ بصعود أردوغان إلى السلطة، وذلك في مقال نشر في عام 1997 في نشرة كان يصدرها مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. وقد لخصت في ذلك المقال انطباعي من لقاء مع أردوغان وعدد كبير من الإعلاميين الأتراك بأن الرجل الذي دعانا إلى حفل عشاء فخم في قصر عثماني كان يسعى لأن يبهرنا بماضي تركيا، مع إعطائنا رسالة في نفس الوقت بأنه مستقبل تركيا.

وقد استغربت وقتها من الحصار الإعلامي الذي ووجهت، حيث أجريت أكثر من عشر مقابلات صحفية وتلفزيونية خلال يومين، حتى أنني لم أستطع أن أحضر العديد من جلسات المؤتمر. وقد عبر معظم الإعلاميين الذين حاوروني عن الخوف من صعود الإسلاميين الوشيك إلى السلطة.  ولم أدرك سر هذا الحصار حتى رأيت فيما بعد نسخاً من كتبي التي ترجمت إلى التركية تباع على هامش المؤتمر، وعلمت أن أردوغان كان قد أشاد في مقابلة صحفية في وقت سابق بكتابي "من يحتاج الدولة الإسلامية؟"، مما أعطى البعض انطباعاً بأنني قد أكون دليل الحائرين حول الظاهرة الإسلامية في تركيا.

وهناك طرفة تتعلق بتلك الزيارة كانت تتسبب في إلغائها، لأنني عندما ذهبت إلى القنصلية التركية للحصول على تأشيرة أبلغني موظف السفارة الشاب أن الحصول على تأشيرة للسودانيين يستغرق شهراً من الزمان. وعندما أبلغته بأنني أريد السفر لحضور مؤتمر يعقد في اليوم التالي، قال لي ساخراً: "لو أن الرئيس عمر البشير نفسه جاء إلى هنا لوجب عليه أن ينتظر شهراً." اتصلت بمنظمي المؤتمر وأبلغتهم باستحالة الحصول على التأشيرة، فقال مخاطبي: لا عليك. سأتصل بوزير الدولة بالخارجية عبدالله غل وسنسوي المسألة. وفي الصباح عدت إلى السفارة، وإذا بنفس الموظف الذي استصرخته بالأمس يستقبلني باشاً ودوداً ويمنحني التأشيرة خلال دقائق، حيث لحقت بطائرتي بدون أي مشاكل أو تأخير.

نعود إلى مؤتمر الأسبوع الماضي، والحديث عن تركيا ونموذجها. ولم نكن نحتاج إلى حضور ذلك المؤتمر لندرك العداء القوي في أجواء النخبة التركية الحداثية، وجامعتنا المضيفة من أبرز معاقلها، لنهج أردوغان وتوجهاته في  الآونة الأخيرة. ولكن المنظمين، على طريقة قناة "الجزيرة"، جاءوا ببعض المعتدلين من أنصار الحكومة، ومن بينهم وزير خارجية سابق ومدير مركز أبحاث، للتعبير عن الرأي الآخر.

وكان أهم ما قيل حول فكرة "النموذج التركي" أنها فكرة من اختراع الغرب، لأنه لا تركيا أعلنت أنها نموذج ولا العرب رأوها كذلك. وأضاف أحدهم أن "النموذج التركي"، إن وجد، هو نموذج الدولة العلمانية الحديثة القائمة على المساواة والعضو في حلف الأطلسي. أي أن النموذج لم ينشأ في عهد أردوغان، وإنما هو النموذج الأتاتوركي القائم. وعلق عدد من الحضور بأن "النموذج التركي" قد بهت وتراجع بعد "الفضائح" الأخيرة.

كنت واحداً من متحدثين فقط بين الحضور عارضا هذا الطرح للأمور، حيث أكدنا وجود نموذج تركي متقدم. فالنماذج لا تحتاج لأن يسميها أحد نماذج، وإنما تطرح نفسها كذلك عملياً، كما كان هناك "نموذج ياباني"، ونموذج "النمور الآسيوية"، وغيرها منذ فجر الحداثة. قلت في تعليقي أن هناك بالفعل نموذجاً تركياً، فأي شعب عربي لا يريد أن ينتقل بلده من مؤخرة الدول ليصبح اقتصاده السادس عشر في العالم، وأن تكون دولته متمتعة بالاستقلال الاقتصادي وحرية اتخاذ القرار، وأن يكون الشعب متمتعاً بالحرية. وأضفت أقول إن هناك انتقادات محقة في طريقة أردوغان في الحكم، ولكننا جميعاً نكون سعداء لو كانت مشاكل تركيا نقطة البداية عندنا، ولا تكون دولنا، كما جاء في كثير من المداخلات حول الدول العربية، تعاني من الإفلاس والقمع والتبعية في نفس الوقت.

رداً على ما قاله البعض من أن نسبة النساء في سوق العمل قد تراجعت تراجعاً طفيفاً في منتصف عهد أردوغان قبل أن تعود إلى الصعود، ولكنها ما تزال تنقص بعدة نقاط عن المجتمعات المتقدمة (27% مقابل 31%)، تساءلت إذا ما كان التراجع في النسبة يعود إلى زيادة في عدد الوظائف ونوعيتها، وهو ما لم تجب عليه الدراسة بصورة مقنعة. فمن المعروف أن قطاعاً واسعاً من النساء كان محروماً من العمل والدراسة الجامعية، هو القطاع المتدين الذي كان يحرم من مجرد دخول المواقع الحكومية بسبب الخمار، أصبح له حضوره المشهود في قطاع العمل. وقد حدث ذلك دون تأثير على القطاع الآخر الذي لم ينقص من حقوقه شيئاً. وبنفس القدر، فبخلاف ما حدث في دول أخرى وقع فيها تغيير، لم يتم إلقاء النخبة الحاكمة السابقة في السجون، بل نجدها تتمتع بالحرية، بل وبالصوت العالي، بينما أتيح لفئات واسعة كانت محرومة من إسماع صوتها أن يكون لها حضورها في المجتمع المدني والسياسي.

وفيما يتعلق بالانتقادات الواسعة التي وجهت للسياسة الخارجية التركية، ووصفها بالتهور والفشل في العلاقات مع دول الجوار، بل وبالطائفية، طرحت أسئلة حول المسؤولية في تدهور الأوضاع. فقد اعترف المتحدث الذي طرح هذه الاتهامات بأن سياسة حزب العدالة والتنمية كانت العلاقة الودية مع دول الجوار والبعد عن الطائفية. وقد ذكر المتحدث بأن أردوغان صرح أثناء زيارته للعراق بأنه لم يكن سنياً ولا شيعياً، وإنما مسلماً فحسب. وقد زار أية الله السيستاني، وأدى الصلاة في مسجد الإمام علي. وأضاف بأن تركيا عارضت في البداية التدخل في ليبيا، واجتهدت في إقناع الأسد باتخاذ سياسات حكيمة تعالج الأزمة، قبل أن تنقلب ضده. وعليه طرحت السؤال عما إذا كان الخطأ هو في السياسة التركية، أم فيمن تسببوا في الشحن الطائفي وأعلنوا الحرب على شعوبهم؟ وهل ذنب أردوغان أن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي أصيب بالجنوب الطائفي لدرجة أن بعض العناصر المتطرفة مثل أنصار مقتدى الصدر انتقدوه لطائفيته؟ وهل ذنب أردوغان أن الأسد أثار النعرات الطائفية وقسم شعبه شيعاً يستضعف طائفة منهم؟

أضفت متسائلاً: هل وقفت تركيا في الجانب الصحيح وساندت حق الشعوب العربية في الحرية والكرامة، أم وقفت مع الإجرام والقمع والقتل؟ وهل كان أردوغان، عندما طالب مبارك بالتنحي، يعلم أن الإخوان سيأتون إلى السلطة، أم أنه وقف مع الشعب المصري الموحد والراغب في الحرية بحسب رمزية ميدان التحرير؟ وهل كان بإمكان تركيا الحرة اتخاذ أي موقف آخر؟ هل لو وقفت تركيا مع الإجرام الأسدي أو تغاضت عنه يمكن أن تحترم أو أن تحترم نفسها؟ وفوق ذلك وقبله، هل كان موقف تركيا موقفها المنفرد والمغامر، أم أن العالم كله، ما عدا حكومات البغي المعادية لشعوبها في طهران وموسكو ، وقف مع الشعب السوري؟ وإذا كان هناك فشل، هل هو فشل تركيا وحدها أم فشل العالم كله في الوقوف مع الشعب السوري المنكوب؟

إن ما يحمد لتركيا هو أنها فعلت كل ما في وسعها وأكثر لدعم الشعب السوري. وإذا كان هناك انتقاد للموقف التركي فهو أنه كان محافظاً أكثر من اللازم، وقد تريث كثيراً قبل اتخاذ الموقف الحاسم طمعاً في أن يثوب دكتاتور سوريا إلى رشده. ولعل تركيا لو قادت التدخل الحاسم في سوريا قبل أن تتمزق كما نرى اليوم، لربما كان من الممكن إنقاذ الدولة السورية. فالتأخر في الحسم لن ينقذ تركيا ولا غيرها من التدخل، بل سيزيد كلفته. ولا صحة هنا لما أكده لنا وزير الخارجية التركي السابق بعدم مساس أزمة سوريا بأمن تركيا القومي، لأنه لو انتهى الأمر بسوريا، كما تشير كل الدلائل، إلى أن يتم تقاسمها بين حزب الله والقاعدة، هل ستقف الدول الأخرى ذات المصلحة متفرجة، أم أنها ستتدخل لحسم الأمور؟ وما ذا ستكون تكلفة ذلك على تركيا؟

خلاصة الأمر هو أن سياسة تركيا استندت إلى الموقف الأخلاقي الصحيح، وهو الأهم، ولم تكن أحادية ولا مغامرة، كما أنها لم تهمل مصالح تركيا. ولا ينفي هذا أن هناك أخطاء، مثل الموقف الصارخ المعادي للانقلاب في مصر، وهو على صحته كان يجب أن يتحلى بحكمة أكثر. هناك إشكالات واجهت الحكومة التركية حول التعامل مع المعارضة الداخلية والتواصل مع الإعلام بحكمة وحرفية. فلا يكفي في هذا العصر أن تتخذ الموقف الصحيح، بل لا بد من أن تقنع الآخرين بأن موقفك صحيح. والأهم من ذلك، لا بد من التعامل بحكمة مع أولئك الذين يخيفهم تحديداً أن تتخذ الموقف الصحيح، لأن نجاحك يهدد مصالحهم.

لقد كانت هناك حملة إعلامية ماكرة موجهة ضد حزب العدالة والتنمية، كنت شاهداً على بعض جوانبها حين سمعنا، على سبيل المثال، مساء الخميس إشاعة تقول بأن قيام الحكومة التركية بإغلاق موقع "يوتيوب" في تركيا ذلك اليوم سببه عرض الموقع مشاهد فضيحة جنسية لأردوغان! وكما علمنا فيما بعد، فإن المشكلة كانت تتعلق بتسريب تسجيل لاجتماع سري كان يناقش الموقف من الأزمة السورية، وشتان مابين الأمرين! ومن المستبعد أن تتم هذه الاختراقات للأمن القومي التركي بدون تعاون مخابرات دول أجنبية متقدمة جداً.

أختم القول هنا بأن الاجتماع الذي شهدناه في استانبول شمل مداولات قيمة حول الأوضاع العربية آمل أن أعود لها في مداخلة لاحقة إن شاء الله، ولكنني أقتصر هنا على السجال الذي دار حول تركيا لأهميته في سياق الأحداث الجارية. ففي اليوم التالي لمغادرتنا استانبول، عقدت انتخابات بلدية كان العالم كله يترقبها باعتبارها استفتاء على حكم أردوغان بعد عام تعرض فيه الحزب الحاكم لحملة شرسة من الإشاعات والتسريبات والمظاهرات، حتى بدأ البعض يكتب نعيه. ولكن نتيجة انتخابات أمس الأول كان حاسمة في دعم الشعب التركي في غالبيته لأردوغان ضد خصومه.

وقد بعثت بعد بداية ظهور نتائج الانتخابات في وقت متأخر من مساء الأحد برسائل إلى بعض مساعدي أردوغان المقربين أدعو فيها، بعد التهنئة، إلى تبني خطاب تصالحي يوحد الأمة ولا يفرقها. وقد سعدت كثيراً لأن أردوغان سبق بإرسال رسائل صحيحة يعترف فيها بالأخطاء التي ارتكبت، ويطمئن من لم يصوتوا له بأنه قد استمع لصوتهم أيضاً، وسيعالج المسائل التي تشغلهم. وقد اعتبر أردوغان أن نتائج انتخابات الأحد كانت نصراً للديمقراطية، وليس لحزب بعينه، وهي كذلك حقاً إذا تمت معالجة الأمور بحكمة. يكفي فقط مقارنة "نموذج أردوغان" ب "نموذج السيسي" الذي تتوالى فصوله هذه الأيام، كما ظهر من تزامن انتخابات تركيا الديمقراطية التنافسية مع إعلان المسرحية الهزلية لانتخابات الرئاسة المصرية في نفس اليوم، وشتان شتان شتان!
awahab40@hotmail.com

 

آراء