في البحث عن الحكمة

 


 

 

عالم عباس محمد نور
amohamedNor@isdb.org.sa
عالم عباس محمد
(إذا كانت المطرقة هي كل ما لديك من أدوات فإنك ستعامل كل مشكلة كما المسمار)
ابك يا وطني الحبيب
وما الحرب إلاّ ما علمْتُم وذُقْتـُمُ وما هو عنها بالحديث المرجـَّمِ
متى تبعثـوها، تبعـثوها ذميمةً و تَضْرَ إذا ضرّيتموها فتضرم
فتـعرككم عرك الرحى بثفالـها وتلقـح كِشـافاً ثم تُنتَجْ فتُـتْئمِ
فتُنـْتِجْ لكم غِلمـانَ أشأم كـلُّهم كأحمرِ عـادٍ ثم تُرْضِعْ فـتَفْطِمِ
فتُغـْلِلْ لكم ما لا تُـغِلُّ لأهـلها قرىً بالعراق، من قفيزٍ ودِرْهَمِ
تتسارع وتيرة الأحداث في دارفور بما لا يبعث إلا المزيد من الحزن و الأسف. وفي غياب الحكمة، فإن الأفق لا ينذر إلا بالانهيار والتداعي لهذا البناء الاجتماعي الثقافي السياسي الهش, الذي نسميه السودان الوطن.
وحين أقول البناء الهش فإني لا أفتئت ولا أجور، إذ انه ليس بخافٍ على أحد أن الوطن الذي أصبحنا عليه في أول يناير 1956م يتعرض لامتحان وجود عسير. يتهيأ جنوبه للانفصال، إن لم تداركنا عناية الله، وأن مناطق جبال النوبة والأنقسنا، وما سمي بالمناطق المهمشة أبرزت ظلامتها، وصارت تتساءل عن انتمائها، وخصوصيتها، واعترفت لها بها السلطات، فاجتمعت معها، وحاورتها على هامش "مشاكوس". وها نحن اليوم، و ليس بخافٍ على أحد، نواجه تمرداً حقيقياً في دارفور، هذا إذا واتتنا الشجاعة في تسمية الأشياء بمسمياتها. لم يعد الأمر نهباً مسلحاً، أو صراعاً قبلياً،كما تم تسويقه إعلامياً، كما هو ليس باقتتال قبائل زنجية ضد أختها عربية، و ليست حُمرة وزُرقة، ولا فرية السعي لتكوين دولة الزغاوة الكبرى، كما روج لها البعض سراً و أحياناً جهرا. وفي خضم الأحداث و المتغيرات الدولية، فإن الأحداث تتسارع، و يوشك أن ينفلت الزمام مع توالي النكبات، وسوء التصرف، ومع الحكمة الغائبة، أو المغَيَّبة، فما عادت تغني الآيات و لا النذر.
الجلوس على كرسي الاعتراف
لم أكن من جُناتها –علم الله وإني بحـرِّها اليوم صال
قد تجنَّبْتُ وائلاً كي يفيقوا فأبت تغلبٌ عليَّ اعـتزالي
قرِّبا مـربط النعامة مني لقحت حرب وائلٍ عن حِيال
" الحارث بن عبّاد"
هل بالإمكان التحدث بصراحة وصدق؟ هل لدينا الشجاعة والجرأة الكافية على مواجهة الواقع والصدع بما نراه الحق، بلا خشية أو وجل؟ وهل بقيت فينا من الحكمة و المسؤولية بما يجعلنا نستمع بصبرٍ وعقل منفتح، ونناقش بهدوء، ونتجادل باتِّزان؟
إن كان بقي لنا من ذلك شيء، فليس من المتأخر جداً أن نبدأ الحوار, إذن, من دون تجريح أو تخوين. وإن كان الأمر كذلك، فهلمّ إلى كلمة سواء، نتقارع بالحجج، ونتبع من هو أهدى سبيلا، و أقْوَمُ قيلا. فإنه، مهما كانت لدينا من القوة و الجبروت، وأدوات البطش و القمع، فإنه لا مخرج من هذه الأحبولة، وتلك الورطة ألا العقل، وإلا الحكمة، ففي النهاية،
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تقضى الأمور بأهل الرأي ما وجدوا فإن تـولوا فبالأشرار تنقاد
الظلم الموروث:
من الظلم البين والتحامل الصريح إلقاء كافة تبعات ما حدث ويحدث في دارفور على حكومة  الإنقاذ، فلا يفعل ذلك منصف أو أمين. فإن الاقتتال غذته عناصر عديدة وحكومات سبقت الإنقاذ، تلك التي جيشت المليشيات وقارعت بها الأنظمة، ديمقراطية كانت أم شمولية. بل شهدنا زمناً اتخذت فيه من دارفور ساحةً لحسم معاركها, بتواطؤ من الحكومة المركزية، بعضُ دول الجوار واستباحت مدنها حتى الفاشر. وليس بين ما حدث مع حسين هبري وإدريس دبي ببعيد عن الأذهان, فهي لم تُمْحَ بَعْدُ من ذاكرة أهل دارفور.
بدأ التذمر منذ الأيام المبكرة للاستقلال، حين كانت أحزابنا السياسية تمارس ما عرف عند أهل دارفور بتصدير النواب، إذ كانت هذه الأحزاب تبعث من الخرطوم مرشحاً لم يعرفه الناس، ولا يمت إليهم بصلة، ليكون نائباً عنهم يمثلهم في البرلمان. تمردت دارفور على ذاك النهج، وحين أسسوا جبهة نهضة دارفور، كان مطلبهم الجريء ألا يمثل دارفور إلا أبناؤها نواباً في البرلمان، وتم إلصاق تهمة العنصرية بهم وغيرها من النعوت،(لم تبتدع في القاموس السياسي عبارة الجهوية آنذاك).  وكنتاج طبيعي لمثل هذه التحركات تزامنت مع تلك الحركة أفكار بعض الذين اشتطوا فرأوا أن المعركة مع الخرطوم لا تتم بالتفاهم أو التراضي. فظهرت منظمة "سوني" و "اللهيب الأحمر". غير أن الحكماء في كلٍ من دارفور والخرطوم تنبهوا إلى المنزلق الخطر، فعالجوا الأمر بما تقتضيه الحكمة. جبهة نهضة دارفور ارتضت ألا تكون حزباً سياسياً وسلَّمت بانتماء أهلهم وفق منظومة الأحزاب القائمة، وارتضى أهل الأحزاب بممثلين من المنطقة منتخبين من قواعدهم. فتم رأب الصدع إلى حين. لم تلق منظمة "سوني" أو مثيلاتها استجابة، وإن أرسلت إنذاراً مهمّاً.
أشرنا مرة، في غير هذا المكان، إلى علاقة دارفور ببقية السودان، وبالأخص ما يمثله الخرطوم المركز، منذ المهدية، وما عرف وقتئذ ب (أولاد الغرب) الذين كانوا أنصار خليفة المهدي وأبناء البحر (أولاد البلد) الذين ناوءوا الخليفة ونازعوه السلطة باعتبارهم الأشراف، آل المهدي وورثته. منذئذٍ، ظل التوجس والريبة يكتنفان العلاقة بينهما إلى يوم الناس هذا. ما أفلحت القيادات المتعاقبة في لمِّ الشعث ولا إصلاح البين ولا رتق الفتق، وما زادها أكثرهم, مع مرور الزمن،  إلا شرخاً وتوتراً وتصعيداً .
تجربة نواب دارفور في البرلمانات المختلفة  لم تخل من مؤامرات مفهومة تشهدها حيواتنا النيابية، لكن اللافت أنها اتسمت بسخريات مريرة، خلفت أثرا من عدم الثقة، وضاعفت الجراحات و الحزازات، برزت حتى في تكتلاتها البرلمانية داخل الأحزاب . ومن سخريات الحوادث أن هؤلاء النواب, رغم ثقلهم الواضح, ووضعهم المؤثر (من الناحية العددية)، فإن المناصب التي تبوءوها, سواء داخل تنظيمات أحزابهم, أو في الحكومات, لم تكن قيادية بأي حالٍ من الأحوال، ولا تناسب حجمهم. وطوال العهود التي تتالت منذ الاستقلال, كان هذا دأبهم, وذلك حتى بروز الجبهة الإسلامية القومية, وبعدئذ الإنقاذ, في مؤتمره الوطني وبعد انشقاقه. ولعلّ تجربة دارفور مع الإنقاذ تحتاج إلى فصل قائم بذاته .
عندما قررت حكومة نميري تطبيق نظام الحكم الإقليمي، لم تستوعب دروس التاريخ ولم تستصحبها فحين عينت حاكماً للإقليم، كان من المحزن أنها لم تفطن، أو قصدت عمدا،ً تنصيب حاكم من خارج الإقليم. فثارت ثائرة دارفور عن بكرة أبيها وهبت في ثورة عارمة، قدمت الفاشر فيها اكثر من شهيد، رفضاً للحاكم الذي عينته الحكومة، ومطالبةً بحاكم من أبناء الإقليم، وجعلت الثورة شعارها آنئذ (مليون شهيد لحاكم جديد)، وشهدت الخرطوم مسيرات احتجاج ضخمة.
مرة أخرى اضطرت الحكومة أن ترضخ لتلك الضغوط فأذعنت، واختار أهل الإقليم حاكمهم، في دراما من الأحداث، فكان هو الحاكم الوحيد الذي فرضه أهلوه على حكومة الخرطوم وقتها. ولم يمض الأمر بسلام، بدا أن الحكومة  أضمرت موجدةً على أهل دارفور، في أمرٍ مسَّ كبرياءها، ونالت من هيبتها. وتبين لأهل دارفور أن حكام الخرطوم مازالوا يعاملونها بالدون، ويتربصون بها الدوائر. فازدادت الهوّة اتساعا. ولما كان حاكم دارفور وقتذاك، يستند على شرعيته وقوته المستمدة من سند أهل إقليمه، ولم تكن منة عليه من الرئيس،  فقد كان مصدر قوته ذاك هو مكمن الضعف فيه، فكادوه كيداً، أهل القصر ورب القصر،فحين لم يتمكنوا من رشوته، فقد كان ميسوراً، ولم يمنّوا عليه بمنصب، فقد كان عنه زاهدا، حبسوا المال عنه، وأذكى بعضهم النعرات القبلية ضده، فأعاقوا جهده ومسعاه. وعندما تلكأ الرئيس في استقباله اضطر إلى ترك السودان كله، فأضاف صفعة أخرى إلى حكومة النظام، فخلعهم قبل أن يخلعوه. وأما ما بين أهل دارفور وحكام الخرطوم فقد اتسع الفتق على الراتق، وكلٌ طوى كشحاً على مستكنة!
مآسي السنين العجاف:
في السنوات العجاف، سنين القحط والمجاعات، كان أداء الحكومة المركزية يفتقر إلى المسؤولية والشفافية والمبادرة والخيال. تساقط الألوف صرعى الجوع، ولا مغيث. وبعد تلكؤٍ قاسٍ، اضطرت الحكومة إلى إعلان المجاعة لتتدفق المعونات بعد أن هلك كثيرون، وتكررت تلك الصورة سنين عددا.  وكأن تجميل وجه الأنظمة أهم من حيوات الناس وابتدعت التسميات التي لا تزيد الناس إلا عنتا وإهلاكاً، "الفجوة الغذائية"، "نقص في الحبوب"، " شح الأمطار في مناطق متفرقة "،" ضعف المخزون الاستراتيجي" .
وفي السنوات العجاف، هجرت القبائل مناطقها ونزحت وجرَّت معها آلام ومآسي ومشاكل النزوح. ومرة أخرى تعاملت الحكومة المركزية باستهتار بشأن النازحين .
كانت دارفور تتميز بإدارة أهلية حكيمة، مهما كانت حدة نقدنا لأدائها. وتكشف ذلك جلياً في الأزمات.
في أيام الحكمة و الزكانة، حين تستبد بدارفور الكُرَبُ، وتنشب فتنةٌ، فإنها تجد في مستودع حكمتها ضالتها من الحلول التي تواجه تلك الأزمات، مهما ادلهمت، وسفكت فيها من دماء. فقد كان الحكماء أمثال الناظر الغالي تاج الدين وابنه علي من بعده، و الناظر موسى مادبو وابنه إبراهيم من بعده, والسلطان دوسة، والملك آدم طاهر، والسلطان محمد بحر الدين وأخوه عبد الرحمن، كانت تمتد إليهم أيادٍ من أمثال الناظر بابو نمر، والسلطان دينق مجوك، والناظر منعم منصور والشيخ علي التوم والناظر أبو سن. وحين يتنادى هؤلاء, فكيف تستعصي عليهم مشكلة؟ ومن ذا الذي لا يستحيي أو ينصاع عن حب وكرامة أمام وجوهٍ كهؤلاء, من أهل الحزم و العزم و الهيبة، أهل المروءة و النجدة والكرم و الرأي السديد, ذلكم كان القوم الذين يعاش في أكتافهم، والذين علمهم دينهم، حكمة اتقاء فتن لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة. تكفي منهم كلمة أو إشارة فتتصافى النفوس وتجمع الديات وتجبر الكسور، وتبقى على الحكومة المركزية توثيق ذلك في الأضابير كنموذج لفن الإدارة الأهلية وحكمتها في التعامل مع الكوارث و الشدائد.
 عمدت الحكومات المتعاقبة بلا بصيرة نافذة ولا رؤية قومية وشمولية متزنة ممرحلة, إلى تحطيم تلك الزعامات الرواسخ، واستبدالها بالموالين والمؤلفة قلوبهم فانهار نظامٌ كان يبسط الأمن، ويلم الشمل، ويجبي الضرائب، ويحفظ النسيج الاجتماعي والقبلي. فتداعى كل شيء ووقفت الحكومات عاجزة, وبقي المواطن حيران مذعوراً بين الانفلات الأمني، والنزاع القبلي، وضحية للمجاعات والنزوح والتخريب في زرعه ومواشيه.وانهارت قيم و مثل وتقليد عريق في فض النزاعات، وتدارك الحروب، وفن إدارة الأزمات.
ولأن الحكومة عاجزة عن حماية المواطن، فكان على الناس حماية أنفسهم، خاصة وقد ساهمت اغلب الحكومات بسياساتها المريبة على توفير السلاح في الإقليم، بوسائل شتى. فتيسر السلاح لكل من أراد أن يقتنيه، وحين لا تكون حكومة تقوم بواجباتها في الأمن والدفاع عن المواطن، فمن ذا الذي لا يسعى لاقتناء سلاح يدافع به عن نفسه وماله؟
الذين عالجوا أمر الأمن في دارفور أخفقوا إخفاقاً مريعاً وزادوا الأمر سوءً. فما كان علاجهم له إلا مسكنات يائسة، ما يلبث عقب كل معالجة أن يعود الأمر لأسوأ مما قد كان. فجمعوا السلاح ممن طالوا من المواطنين والرعاة، وتركوهم عزّلاً لأهل النهب المسلح والذين يمتلكون أحدث الأسلحة. هاجموا قرى في إثر مطاردة عصابات النهب، وأوسعوا فيها تقتيلاً، فأصابوا أبرياء بلا دليل. كانوا من قبل يقبضون على بعض الأسرى والمشتبه بهم ويقدمونهم للقضاء, فلما برأ القضاء بعض المتهمين أو كانت الأحكام لم ترض بعضهم، ما عُدْنا نسمع بالقبض على المشتبه بهم, على كثرة الحملات، بل نسمع أن الوضع قد تمت السيطرة عليه! ويستطيع المرء أن يتخيل كيف تم ذلك! وكم من برئ سقط خلال هذه الحملات بين نيران المتقاتلين!
يأتي المواطن ليبلغ أن مهاجمين نهبوا ماله واعتدوا على قريته فتعتذر الشرطة لانعدام الوقود أو السيارات وتطالب المواطن إن كان يستطيع تدبير الوقود والسيارة فقد يتحركون لنجدته! لا أدري إذا كان ذلك بمقدور مزارع في قرية كرنوى, أو بندسي, أو ديسة, أو صليعة، أو سانى كرو أو راعٍ في أطراف قرى مليط أو المالحة، توفير وقود لسيارات الحكومة!
لعل الأكثر أمناً لهؤلاء البؤساء من مواطني جمهورية السودان أن يتواطئوا مع الخارجين على القانون، فهم أقرب مسافة وأطول يدا, ولعلهم يحسون بوجودهم، وربما حمايتهم، اكثر من الحكومة, والتي لا وجود لها عندهم، إلا لامتصاص دمهم وأموالهم بالضرائب والجزية حيثما حلوا أو عبروا دون أن تلتزم لهم بشيء، أي شيء مما هي من واجبات الحكومات بالضرورة. صادرت الحكومة أسلحتهم وتركتهم يواجهون مصيرهم فعادوا إلى اقتناء السلاح من جديد ومن أي مصدر، ونشط تجار السلاح، ففي ظروف السودان وجواره ألا ما أيسر الحصول على سلاح! وهكذا كرت المسبحة.
دارفور والإنقاذ:
لماذا بلغت الأزمة ذروتها الآن في عهد حكومة الإنقاذ؟، هل للمتغيرات الدولية يد في هذا أم ثمة من أمور تتعلق بهذا النظام دفعت بالأمور إلى هذه الدرجة؟  لعلنا نسترشد بما يلي فقد نفهم ما عليه الأمر قبل إصدار الأحكام .
من الحقائق الغريبة، والملفتة للنظر، هي أن حكومة الإنقاذ هذه هي أكثر الحكومات في تاريخ السودان أتاحت مناصب قيادية (وزارية وما شابهها) لأبناء دارفور, عدداً ونوعا.ً فلأول مرة يصل إلى رتبة فريق أول في الجيش السوداني، أحد أبناء دارفور, واكثر من ضابط لرتبة فريق. وللمرة الأولى أيضاً, يصل اثنان من أبنائها، واحداً إثر الآخر، إلى رئاسة هيئة أركان الجيش. وللمرة الأولى في التاريخ يتولى أحد أبناء دارفور, ولو لوقتٍ قصير, إحدى وزارات السيادة (الدفاع). كما توزع العديد منهم في وزارات مختلفة، على مر عهد الإنقاذ، ابتداء من عضو بمجلس قيادة الثورة، إلى مستشار الرئيس، إلى وزارات التعليم والتجارة والتعاون الدولي والسياحة ووزير دولة في الخارجية ورئاسة المجلس الوطني ونائب لرئيس المجلس ورئاسة العديد من لجانه وحكاماً للولايات، وذلك في عهد الإنقاذ، قبل وبعد انشقاقه. تلك المناصب، وعلى نحو غير مسبوق، لم تتيسر لهم على تعاقب الحكومات منذ الاستقلال،!
إن كانت حالات الاستوزار تلك، والمناصب هي المعنى لاقتسام السلطة, فقد فازت دارفور حقاً بنصيب أوفى, وأكثر من أي وقت مضى. وإذا كان الأمر كذلك، فتمردهم على حكومة الإنقاذ هو الجحود عينه.
وإذن فلا بد أن هنالك معنى آخر لقسمة السلطة رأى الناس أنهم مغبونون فيها! ذلك أنه من الواضح أن المناصب العديدة التي تقلدها هؤلاء ليست في الواقع سلطات حقيقية أحس بها المواطن، وهي كما هو بين، ما عادت عليهم بأي نفع أو تغيير ملموس. ولعلها بدت استرضائية وشكلية أكثر مما هي ذات مردود محسوس. كما أن أكثر هذه المناصب فوقية بلا قواعد تنفيذية فاعلة ومعظمها، إن لم نقل كلها، مكرسة لخدمة التنظيم، وفي أيدي متنفذين في هذه الوزارات والمصالح, هم أقوى نفوذاً وأمضى أمراً و أشد تأثيراً من أكثر الوزراء الذين يجيئون  ويقرءون ما أعد لهم من بيانات ثم يرحلون دون إسهام حقيقي فاعل. ومن أراد أن يكسر هذا الطوق استبدل أو أقصي، وفي الذاكرة القريبة أمثلة عديدة معروفة!
إن أكثر أبناء دارفور غير موجودين في الإدارات العليا والوسيطة، فأكثر من قد كان منهم أحيل على المعاش والصالح العام وفائض العمالة، ومن بقي منهم فهو مهيض الجناح، أو مغلول اليد. وعليه، فلم تكن لتلك المناصب، وإن تعددت، أي مردود للمواطن، إنها عناوين فارغة المحتوى!
إن الريبة الموروثة عند أهل دارفور تجاه حكومات الخرطوم وتراكم السنين جعلتهم حساسين تجاه الكثير من الأمور التي تجرى في ديارهم، وهم في ريبهم يترددون نحو أي خطوة تخطوها الحكومة المركزية، وخاصة فيما يتعلق بأبنائهم. إن للكثير من قياداتهم في مختلف الأحزاب تجارب مريرة مع إخوتهم في المركز. ولكن إذا أخذنا الحزب الحاكم أو الإنقاذ في مرحلتيه الترابية والبشيرية، فإن تجربة بولاد، والذي كان أحد أقوى  كوادر الجبهة, بلغت به المرارات ليس إلى الانشقاق عن الجبهة فحسب، بل وإلى الانضمام إلى صفوف الجيش الشعبي لتحرير السودان بقيادة الدكتور جون قرنق، ومحاربة حكومة الإنقاذ، إلى أن أسره النظام في معركة وسط أهله في دارفور وتمت تصفيته في ظروف غامضة، وفي نفوس أهله من الموجدة ما فيه! كما انشق عن الجبهة قبله الدكتور فاروق أحمد آدم وانضم إلى الحزب الديمقراطي. وها نحن نشهد كوادرهم في المؤتمر الشعبي، أمثال علي الحاج، محمد الأمين الخليفة، ود. آدم يوسف وغيرهم يلقون نصيبهم مع النظام الذي انشقوا عنه، ومن المحزن و المؤلم أن دارفور و أهلها صاروا وقود الصراع و ضحاياه، يدفع ثمن كل ذلك المواطن البريء المسكين الذي لا حول له و لا قوة, ولا ناقة له و لا جمل، في هذا الصراع الرهيب، بين إخوة الأمس أعداء اليوم .
جلَّ هذه الحوادث تصب في إطار الموجدة والكيد. ومن ناحية أخرى فمما يسلم به لدى أغلب المراقبين أن أكثر أهل دارفور ينتمون سياسياً ( أو تاريخياً)، إلى طائفة الأنصار (الأمة)، وعليه فالتنظيمات الأخرى ذات وزن سياسي أقل. وتجربة الإخوان المسلمين في تلونها إلى الميثاق الإسلامي والجبهة الإسلامية القومية إلى المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، يستطيع المراقب أن يصنف أكثر كوادره، في دارفور على وجه التحديد، بأنهم كانوا من أبناء حزب الأمة/الأنصار الذين انشقوا عنه, خاصة المستنيرين منهم والذين في أنفسهم الكثير من الإحباط من أداء الحزب إلى درجة أن بعضهم يقولون أنهم أنصاراً وليسوا حزب أمة. والحق أن تاريخ حزب الأمة/الأنصار في دارفور لا يعدو أن يكون استغلالاً لطاقاتهم وتعصبهم الأعمى لهذه الطائفة دون مردود عملي ملموس ينتشلهم من وهدة حياتهم البائسة ونمط عيشهم المدقع وواقعهم المتخلف المزري. حتى على نطاق هيكلية التنظيم، فإن نصيبهم فيها يتسم بالتبعية والانقياد لا المبادرة، كل ذلك دفعت مجموعات كبيرة منهم على التمرد وبدأ أن التنظيم الإسلامي في تقلباته السياسية العديدة صار خياراً مناسباً لبعضهم، خاصة وقد صبغ نفسه بمظهر حداثي جاذب مما شكل تحدٍ حقيقي لحزب الأنصار/الأمة، فلعلّ المردود أن يكون أقل خيبة.
من المحزن أن الجيل الصاعد في دارفور أدرك، بعد أن انفتح على العالم، أية هوة سحيقة يرزح فيها وأصبح يقارن واقعه مع أقرانه في السودان والعالم ويصل إلى حقائق مريعة منها أنه:
• منذ الاستقلال، وحتى يوم الناس هذا لا يوجد في دارفور كلها مشروع إنمائي واحد. أي مشروع.
• الطريق الوحيد الذي تم مده كان خط سكة حديد من بابنوسة إلى نيالا في دارفور عام 1960 في حكومة الفريق عبود (أي قبل أربعين عاماً) وقد آل إلى ما آل إليه حال السكة حديد في السودان!
• تم في عهد النميري إنشاء طريق نيالا – كاس – زالنجي، وكاد هذا الطريق أن يندثر الآن لضعف الصيانة وانعدام الاعتمادات المالية.
فإذا تحدثنا عن المشاريع الموءودة فسيتبادر إلى الذهن مشروع غرب الساقنا ومشروع جبل مرة، وربما مشروع غزالة جاوزت ومشروع ساق النعام بعضها أجهض في تجاربه الأولى وبعضها صار من التاريخ.
• في منتصف الستينات كانت الكهرباء والمياه لا  تنقطعان، من مدينة الفاشر حاضرة دارفور. الآن، ولأكثر من خمسة عشر عاماً، تضاء نصف المدينة  نصف اليوم وينام النصف الآخر في الظلام، وذلك في الأحوال الطيبة، وأما في أغلب الأحوال فبلا كهرباء. أما الماء فمرة كل أسبوع ولبعض الأحياء، أما كهرباء الريف، فهو من الأساطير!
• لا أتحدث عن المستشفيات ولا صحة البيئة ولا التعليم إذ يكفي أن في عهد الإنقاذ هذا وصل الأمر إلى أن المعلم يعمل لمدة عام كامل لم يتلق راتبه (ولا تعليق)! ومدارس دارفور التي كانت تتنافس، على نطاق القطر، في العشر الأوائل تقهقرت مستوياتها إلى الحضيض وهلم جراً.
طريق الإنقاذ الغربي، عندما طفح الكيل، أو القشة التي قصمت ظهر البعير:
بدأ إنشاء طريق الفاشر- أم درمان منذ أيام الاستعمار. وتوقف العمل مع خروجه. منذ ذلك التاريخ ظل إنشاء هذا الطريق يشكل حلماً لأهل دارفور باعتباره سبباً يربطهم بأهليهم وبني وطنهم في دار صباح، ييسر لهم التواصل وتنساب عبره السلع والمواد في كلا الاتجاهين.مع كثرة المطالبات والوعود الكاذبة من قبل كافة الحكومات المتعاقبة، لم يتحقق شيء من ذلك.
وللمرة الأولى في التاريخ، ومع بداية عهد الإنقاذ هذا، وفي فورة عارمةٍ من الحماس، ألزم أهل الغرب أنفسهم بالتبرع  لهذا الطريق القاري من نصيبهم من السكَّر. الطريق الذي كان يجب أن ينشأ ويكمل كجزء من الميزانية العامة للدولة، شأن كل الطرق القومية، آلى أهل دارفور على أنفسهم، وعزموا على إعانة الحكومة المركزية عليه من نصيب أطفالهم من السكر، و هم أفقر وأقل الأقاليم نصيباً في الميزانية العامة. وذلك في أغرب بادرة، وأكثرها جرأة، (بالرغم من أنهم لم يستشاروا في هذا، فقد تم الأمر بمبادرة من بعض أهل التنظيم، حملوا الناس عليها حملاً وقسراً فأصبح واقعاً لا فكاك منه، فمن يجرؤ على الاعتراض على أهل الإنقاذ!) وهكذا تورط أهل دارفور في تمويل طريق الفاشر – أم درمان بل وتجاسر محترفو الشعارات بغير حياء فأسموه طريق الإنقاذ الغربي!
تعهدت الحكومة بتشييده وشرعت فيه. وأما ما آل إليه الأمر فمعروف لدى القاصي والداني. حيث نهبت أمواله نهاراً جهاراً. و تم تبادل الاتهام، حين فاحت رائحة الفساد فيه، بين الحكومة والمتنفذين ممن أوكل إليهم أمر الطريق، وازداد الطين بلة حين انشق أهل الإنقاذ إلى مؤتمر وطني وآخر شعبي، وكلٌ يتهم الآخر. و هكذا بات أهل دارفور يبكون على اللبن المسكوب، يتحسرون على مالهم المنهوب، وحقهم المسلوب بين براثن الإنقاذ، وتمويل التنظيم وعملياته، وإذا بالمواطن يلوك المرارة، ويتساءل في حرقة عن هذا الحشف، وسوء الكيل. فلا سكرا أبقى ولا طريقاً شقَّ، فأصبح من النادمين!
هكذا انتهى أمر الطريق وأمواله إلى مجالٍ لتصفية الحساب بين أهل الإنقاذ والمنشقين عنه. لم يحاكم أحد، ولم يسأل أحد. ويتهامس الناس عن تسويات قد تمت! سكتت العدالة وسكت القضاء وما عاد من المسموح للناس أن يتداولوا فيه. فكأن قد ترسخ في أذهان أهل دارفور ما كانوا يحذرون، سيما وهم يروا طرقاً أخرى تنشأ في أقاليم أخرى وتمول من قروض و معونات، وتتباهى بها الحكومة كبعض منجزاتها التنموية!   أن حكومات الخرطوم، مهما تزيت بالإسلام، أو حقوق الإنسان، فهي في نظرتها إلى أهل دارفور، بل وكافة المناطق المهمشة، هي نفس تلك النظرة الاستغلالية الانتهازية. وهكذا سقطت ورقة التوت الأخيرة عن سوأة الحكومة المركزية، وكأن الناس قد تيقنوا أن لا إنصاف لهم، ولا مسترد لحقوقهم، فأصبحوا على استعداد لكل دعوة تطالب بحقهم السليب، مهما جمحت واشتطت، وبذلك وفرت سلطات الخرطوم المناخ المناسب للفوضى، وأدخلت الناس في نفق اليأس، و ياله من نفق! وإذا الآن يواجه السودان غضبة المظلومين الذين تراكمت عليهم ظلم ذوي القربى على توالي الحقب، كان من حظ حكومة الإنقاذ العاثر، أنها جاءت بآخرة فحاق بها ما اقترفت  وما لم تقترف، جراء  احتكارها وتفردها واستبدادها بالسلطة، وتصرفاتها الخرقاء, فانطبق عليها المثل السوداني الحكيم: ( البلد المحن، لابد يلولي صغارن) .
دارفور والكتاب الأسود:
في وطن كالسودان، أخفقت فيه النخب الحاكمة إخفاقاً ذريعاً في القيام بمهامها الحقيقية في أمن المواطن وتدبير معاشه، وتعليمه و إصلاح حاله، على تقلب الحكومات والأنظمة، و حين يصبح الحكم دُولة بين فئات محدودة، تقتصر عليهم ولا تتعداهم، فإنه يصبح من اليسير لأي ناعقٍ أن يؤلب الجماهير، المعبأة أصلاً بالإحساس بالظلم و القهر، و يستثيرها و يدغدغ عواطفها وأن يقودها إلى شر مستطير. علمتنا تجارب الانقلابات العسكرية و الانقلاب عليها، و الثورات المختلفة في هذا الوطن الهش، أن هذا سهل ميسور. و لمسنا أن النخب الحاكمة تحاول جاهدة أن تطيل بقاءها متشبثة بسدة الحكم, وهي إذ تفعل ذلك، تتخذ، لتحقيق الهدف،  أوهى الوسائل، وأقلها نجاحاً، لكن أكثرها عنفاً، و أقربها متناولاً. تلجأ إلى القمع و القهر، وصرف المال و المناصب في إفساد الناس، فبالترغيب أو الترهيب. يتحول الحكم هنا من أداة لإدارة الناس و تدبير شؤونهم وتفجير طاقاتهم و تنظيمهم إلى أداة إثراء للبعض، و تسلط على رقاب العباد، وإلى غاية في ذاتها، باعتبارها النعيم الذي يراد ديمومته. إن أقوى وسائل البقاء في الملك ذو طريق َمهْيَعٍ و كديد، طريق العدل و المساواة بين الناس و السهر على راحتهم، ونكران الذات و التقشف و الصبر على التذمر والشكوى وأخذ النفس بالشدة و الجهد، وأن تكون للناس خادماً ذلولاً لا سيداً متجبراً مستبداً، هذا ما تعلمناه في الكتب و ما ورد إلينا من سيرة السلف الصالح الذين نزعم أنا نقتدي بهم، و لكن أنَّى ذلك لحكام البلاد من أهل الخرطوم، ذوي الحلاقيم الرحيبة، وأفواه الكذب الملساء!. هم لم يتعلموا الدرس على تكراره، و لعلهم لا يريدون أن يتعلموه حتى تصيبهم قارعةٌ أو تحل قريباً من دارهم.
اختلف أهل الإنقاذ في تهافتهم على السلطان فانشقوا إلى مؤتمرين، وطني و شعبي، فاز الأول بالسلطة فتخاصموا بينهم و فجروا في الخصومة فجورا منكراً، وهكذا خرج على الناس فجأة الكتاب الأسود فأصاب أهل السلطان في مقتل!
كان الكتاب مَسْرَداً إحصائياً لتقسيم السلطة في السودان منذ الاستقلال و بيان استئثار فئة بعينها على مقدرات الأمور و احتكارها، و بيان الظلم الذي حاق بأهل المناطق المهمشة و دارفور على وجه الخصوص. لعل أسلوب توزيع الكتاب نفسه يدل على نفوذ أصحابه و قدراتهم في اختراق أجهزة الأمن. ولقد ساعد في ترويجه مسعى الحكومة في التعتيم عليه ومصادرته. وفي عصر الاتصالات والشبكات العنكبوتية هذا، فليس النشر بعسير، خاصة إذا كانت هنالك محاولات للتعمية و التعتيم، ذلك أشبه بإطفاء النار بالزيت، لا يزيدها إلا اشتعالاً و انتشاراً! وهكذا صار الكتاب الأسود في أيدي الناس يداولونه بينهم. وصار همس المدينة وفاكهة المجالس، وراج بين الشامتين، و المتربصين بالحكومة الدوائر، و المستضعفين الذين دائماً ما تسرق ألسنتهم، وقد وجدوا فجأة أن ما قد حاق بهم من ظلم، واقع أو موهوم، موثقاً مكتوباً فغلت دماؤهم، واستثيرت حفيظتهم. كما ضاعف من ترويجه مهارة السلطة الفائقة في اكتساب الأعداء. ومن ثَمَّ فقد انطلقت الاتهامات الجائرة تصيب من تصيب، بتهمة كتابته، كان أكثر ضحاياها أبناء دارفور الذين يتعاطون الكتابة في صحف الخرطوم!
لعل اكثر الناس قد عرفوا مصدر الكتاب ومؤلفيه . بعض الناس كان اكثر حصافة فقصر همه على محتوى الكتاب وما جاء فيه من إجحاف موثق وإحصاء، حتى وإن كان قد جاوز بعضها الدقة والصواب، إلا أنه فتح العيون والبصائر على واقع مريع وبشع وخطير. كان أهل دارفور وأمثالهم يحسون بالظلم واعتادوا عليه ، وربما كانوا يلمون بأطراف منه ولكن لم يكونوا يعلمون بمقداره ومداه حتى برز الكتاب الأسود، فأوضح لهم بالأرقام والمقارنات كيف فعل بهم اخوتهم من أهل المركز على مر الأزمان. و أما بالنسبة لي ولبعض من مثقفي دارفور فقد أعجبنا الكتاب.
أدى الكتاب مهمة عظيمة في التوعية والتنبيه، على مآخذنا عليه و أهدافه. فقد صار حال الناس بعد الكتاب الأسود اكثر يقظة وامهر حسبة، ولم يعد الأمر كالسابق. غير أن المؤسف فيما جره من وبال، أن كثيراُ من الناس صارت تتفاضل و تتمايز الآن وفق انتمائها القبلي والعرقي والجهوي، ولم يعد أبونا النيل و الجنس سوداني، كما كنا نحلم في سنوات النضال القديم، فتقهقرنا إلى درك بائس وسحيق!.
أما في دارفور فازداد أهله بقينا ً بظلم المركز، وكأنّ زجاجاً انشطر فلا يجبر كسره!
إن الظلم مر ، لكن الأمرّ من الظلم هو الإحساس به، إن حقاً و إن كذباً. وقد جعل الكتاب الأسود أهل دارفور يحسون بالظلم إحساساً ما عهدته الناس من قبل. وإذ اسقط في أيدي القوم، فقد تلجلجوا واضطربوا، ومرة أخرى عمدوا إلى المكر و الضلال القديم، تجميل وجه النظام بابتداع الوزارات والوزارات المنشطرة واستوزار بعض الوجوه، كأنما هم قائلون للناس انظروا هانحن نشرككم في السلطة ونتيح لكم الفرص، أو لم ننصفكم ؟ وما هكذا تورد يا سعد الإبل !
حكمة البصيرة أم حمد:
اتخذت السلطة رؤوس اليتامى لتتعلم فيها الحلاقة ، ففي دارفور كان من الأخطار الشنيعة تسليح بعض القبائل بحجة مكافحة التمرد نيابة عنها في مناطق التماس، كان ذلك انهياراً لقيم وعادات رسخت في تلك المناطق في حل صراعاتها مع غيرها ، خاصة القبائل المسماة عربية مع قبائل الجنوب. امتد السلاح فصار يحسم نزاعات المرعى والمزارع. قبلها ثمة تقليد وأعراف، لتنظيم هذه العلاقات وفق مسارات محدودة في مواقيت معلومة. عمدت الحكومة دون فهم عميق لعلاقات الأرض في دار فور وتاريخها فأنشأت إمارات أو ما شابه تلك، وأسكنت بعض القبائل في أراضي بعض، و أعطت لبعضها سلطاناً في أراضي غيرها، و أمدتهم بالسلاح فأشعلت فتناً كانت نائمة. خلطت بين قوم يدافعون عن حقهم الموروث والمحدد والمعلوم ضد  طامعين من قبائل منافسة ، بعضها تمالئ الحكومة فانتصرت لها دون حقٍ،سراً  أو علانية، وبين آخرين استغلوا الانفلات الأمني، وغياب السلطة فعاثوا فساداً . وصادرت أسلحة الناس وتركتهم عزلاً دون أن تستطيع حمايتهم. عمدت إلى زعامات أهلية راسخة فأقصتها لأنها غير موالية، واستبدلت بها زعامات باهتة لا تتميز باحترام أهلها ولا ذات كلمة مسموعة في محيطها، فانفرط الأمن، فإذا الحكومة قد انبَتَّتْ، فلا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت . شاءت أو لم تشأ الحكومة، فمساعدتها القبائل الموالية، وهمها أن تنتصر لها عند التخاصم،  جعلتها في وضع المعادي لغيرها. ولعل الأسوأ من هذا كله شق القبيلة الواحدة إلى عدة كيانات، ومضاعفة عدد النظار و الشيوخ مما أوهن الإدارة وجعلها مترهلة و عاجزة .
مما يلفت الانتباه و يستدعي الأسف، أن ثمة انطباع قديم راسخ في دارفور، هو أن الحكومة المركزية تعمل دائماً على دعم أي والٍ أو حاكمٍ من أبناء المركز دعماً ملموساً. وتمسك عن الدعم إذا كان الوالي أو الحاكم من أبناء الإقليم . بل  وأحياناً تتعمد أن تضعه في أحرج الظروف، وخاصة إذا كان من أولئك الذين يتمتعون بكاريزما قيادية أو ذي قوة شعبية ظاهرة أو ذي مقدرات منافسة. ولعل ذلك يفسر عزوف الكثير من أبناء الإقليم ممن يتمتعون بمثل هذه الصفات عن تولي الأمور، ذلك أن المطلوب منهم لقاء ذلك لا يناسبهم. وثمة نماذج معلومة ومشهودة. ثمة غياب أمني كامل و استهتار واضح في منطقة مثل دارفور مع أن بها اكبر ثروة للماشية والأغنام والإبل في البلاد، بها اكبر إنتاج من الحبوب المختلفة والصمغ والجلود والمنتجات الأخرى. ومع هذا فليس بها مرفق واحد يعتد به يمكن أن يهتم بتجويد أو تحسين أو رعاية أيٍ من ذلك، بل ولا حتى مستشفي بيطري واحد مؤهل. قائمة المعالجات البائسة، و الإخفاقات المزرية، تطول وتطول. سلطات الخرطوم تكذب وتكذب، وتلبس الحق الباطل، وتسمى الأشياء بغير أسمائها. والناس في دارفور يقولون (إن بقيت كضّاب، ما تبقى نسّاي)، لكن أهل الخرطوم ينسون هذه الحكمة الخالدة فيكذبون حتى يصدقوا كذبهم، فكما قال أهل دارفور: ( الكضب ما عندو عضم يخنق). مع أن حبل الكذب قصير. والآن فمن يصدق الكذاب حتى وان صدق؟
جأر كثير من الحادبين على الوطن بأن الاستهتار الذي تعامل به الحكومة مجريات ما يحدث ليس فيه من الحكمة شيء، ويؤدي إلى تعقيدات مربكة. ما يحدث في دول الجوار تنعكس آثاره على المنطقة، وأن غياب السلطة، والدعم اللازم والاهتمام بأمر المواطن ومعاشه لا يقود إلا إلى التهلكة. هؤلاء الحادبون نعتوا بالعنصرية، ووصفوا بالخيانة، وتم تجاهل ما يجري! وحين دعا الناس إلى أن ما يجري أكبر من أن تنفرد به مجموعة أو حزب أو سلطة، وأن الأمر أخطر بما يهدد السودان كله، وأن صراع المقهورين سيعلو إلى ما لا يحمد عقباه. كل ذلك أصمَّت البصيرة أم حمد عن سماعه، بل وصلت بها الغطرسة أن قالت أنها لن تستمع أو تحاور إلا من حمل السلاح !
وهكذا وصلنا إلى أن صار بين الحكومة وأهل دارفور، ما صنع الحداد!!  فانظر إلى أين قادتنا حكمة البصيرة أم حمد ؟
هل إلى خروج من سبيل ؟
الآن، وقد وقع الفأس على الرأس، فماذا نحن فاعلون؟ إن المؤشرات الأولى لا تبشر بخير.، وتداعيات أحداث الفاشر سيكون لها ما بعدها، ولعل الأصوات الكثيرة من كافة من يعنيهم الهم السوداني، أحزابا،ً وطوائف وجماعات، وأهل فكر وقادة  رأي، على مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم، أكدوا على أن ما يحدث في دارفور تمرد، بل وثورة حقيقية وإذن فما تم ليس عمل عصابات نهب مسلح كما تصفهم الحكومة، فبعض قادتها معروفون و ليسوا نكرات، ولذا فإن الحاجة تدعو إلى تضافر الجهود والقوى، وتحتاج اكثر ما تحتاجه إلى الحكمة والتريث،  ومواجهة الواقع بصدق وصراحة وعمل جاد وصادق. فليست دارفور بحلبة صراع  بين المؤتمر الوطني وخصومه من المؤتمر الشعبي، وليست الساحة لتصفية الحساب بين أهل الإنقاذ وحزب الأمة/ الأنصار، ولا معركة الجيش الشعبي لتحرير السودان وحكومة الشمال، ولا ميدان مطاردة للفئات المتقاتلة على السلطة في دول الجوار .
إذا لم تتوفر النية الصادقة من القابضين على زمام السلطة عندنا فإن مناطق أخرى مهيأة للمزيد من الحريق و قد نصبح يوماً فلا نجد هذا السودان .
ما حدث في دارفور من ثورة وتمرد احتقان لجراحات قديمة مستمرة، وظلامات تاريخية متوارثة، وليست جريرة الإنقاذ وحدها فليس عدلاً تحميلها وزر كل ما حدث وإن ساهمت فيها بنصيب وافر، عن قصد أو عن جهالة، وهذا هو ما يترجح عندي. و لعل من أسباب ذلك اللهفة والحماسة الجامحة في تنفيذ برامج وأفكار لم تنضج ولم تتم لها الدراسة الكافية، ولا التصرف السليم ولا التوقيت المناسب ، والظن باحتكار الحكمة، وتضخيم الذات.
إن أول ما يجب الاعتراف به هو أن هنالك قضية حقيقية وإحساس بالظلم . إما ظلم حقيقي أو ظلم متوهَّم، وكلاهما يحتاجان إلى معالجة ومصارحة ووضع الأمر على مائدة البحث والحوار والمكاشفة و التفاوض. إن إطفاء النار بالزيت لا يزيد النار إلا اشتعالاً، والانتقام لا ينتج إلا انتقاماً مثله، وما هكذا تتصافى النفوس، ولا هكذا تعالج سخائم القلوب، فكما قيل:
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هيا
ثمة الكثير من المخلصين من أبناء دارفور، في الحزب الحاكم، ولهم أدوار قيادية في التنظيم. يتمتعون بثاقب النظر والمعرفة بدقائق ما يجري في تلك المنطقة.  ولاء هؤلاء لدارفور ليس موضوع مزايدة، ولا يشك أحد في إخلاصهم. يستطيع هؤلاء أن يؤثروا في مركز القرار بجلاء الأمر و إفهام عواقب ما يحدث، فإن أكثر هؤلاء المتخبطين من أهل الحل و العقد لا يعلمون، ويتصرفون بردود الأفعال بنوايا حسنة، كما نفترض، لكن دون روية أو إمعان نظر، كما يبدو لنا فيضرون أكثر مما ينفعون. ينبغي على هؤلاء بذل الجهد الأكبر في درأ هذه الفتنة، بشجاعتهم المعهودة، وبقدراتهم المشهودة، ومواقفهم المتضامنة مع أهليهم ، ومع حزبهم، فمما هو واضح مما يجري، أن أهل الخرطوم ما يزالون يجهلون الكثير من تعقيدات المجتمع في دارفور و علاقات القبائل و فن التعاطي مع الاحتكاكات القبلية وعلاقات الأرض. والسبب يمكن إيجازه في أن نظام الحكم و الإدارة في دارفور أقدم وأرسخ، وأن أغلب الذين يملكون مقاليد الأمور تعوزهم الدراية بتلك النظم و العلاقات، فيقررون على غير معرفة وافية واستقصاء كافٍ، فتحدث الكوارث. و لعل على إخواننا إعداد أنفسهم  باستحضار الحجج الدامغة و الأمثلة الحية والمثابرة،و استنفار الهمم والعمل الدءوب من خلال تنظيمهم ، والتعاون مع من هم خارج التنظيم من المهتمين بهذا الأمر من أبناء دارفور و أخوتهم في المناطق المهمشة الأخرى و جميع أهل السودان، فهذا ما ينبغي. سيتطلب الأمر صراعاً وتضحيات وفقدان مناصب، وإقصاء للبعض، وكباش فداء، كما هو متوقع، بل ومؤكد! تلك ضريبة لا بد من دفعها، ولا بأس من ذلك، ففي نهاية الأمر، تلك معركتهم وواجباتهم، ولا بد من القيام بما ينبغي لهم عمله، وهم على ذلك قادرون.
الرسالة التي أرسلها متمردو دارفور وصلت، فيجب استيعابها وفق العقل و البصيرة، وليست بردة الفعل الأولى،وحمق الغضب. والرد عليها ليس بتجييش الجيوش وتسليح  القبائل كما حملت الأنباء، أو مطاردة الناس وضربهم وقمعهم، فاكثر ضحايا هذه العمليات، من الجانبين هم أبرياء، لا حول لهم ولا قوة في هذا الصراع، فالله الله على هؤلاء،  وهم إن يحقدون على الحكومة فلأنهم يرون حمايتها لهم هي أول واجباتها، وقد تقاعست عنه عاجزة. إن حكومة لا تتمتع بفضيلة الصبر والأناة والمشورة، وحكومة لا تسد الذرائع على المصطادين في المياه العكرة، وحكومة لا تعي مسؤولياتها حيال مواطنيها، حكومة كلما سمعت هيعة فزعت ، وتحسست مسدساتها وتصرفت مثل (ديك العدة)، تثأر لهيبة متوهمة. وتستعرض عضلاتها على البؤساء فليس هذا، والله، من الرأي في شيء، وما هكذا تتصرف الحكومات المسؤولة!
لا أحد يقر العنف ولا يبتغيه، وكلنا يبغضه ويزدريه، فالعنف لا يحل قضية.فإن سبيل الحرب وعرٌ مضِلَّةٌ، وإن سبيل السلم آمنةٌ سَهْلُ.  الذين اضطروا إليه من أبناء دارفور أرسلوا إشارة واضحة. أكثر أبناء دارفور على مختلف اتجاهاتهم لم يستنكروها في أعماقهم، ولعلهم جميعاً، سراً أو جهراً، أيقنوا أنها صرخة مظلوم، وإن لصاحب الحق مقالاً‘ وإن ظنها البعض جهراً بالسوء من القول، وحتى إن كانت كذلك، فقد عذرهم رب الجلالة! و لعلهم جميعاً تمنوا لو أن السلطات في الخرطوم قد فهمت الرسالة.
من سوء التقدير بمكان أن يقال أن كل أبناء دارفور هم ضد هذا التوجه أو معه. لكن من المؤكد أنهم جميعاً متفقون على حقيقة الظلم و الحيف، وضرورة السعي على رفعه و إزالته. بعضهم رأى أن الأسلوب السلمي مع حكومة الخرطوم لا طائل وراءه وقد جرب منذ الاستقلال فلم يثمر عن شيء، وقرائن الأحوال تدل على ذلك. وليس ثمة من حجة ابلغ مقالاً وبرهاناً من الواقع المزري لإنسان دارفور دليلاً على ما يزعمون. و البعض يرى أن العنف لا يقود إلا إلى المهالك و الدمار. وأن  الجنوح إلى السلم والدفع بالتي هي أحسن والصبر والحوار وتعلم فن التفاوض، واجتماع الكلمة والرفق، كل ذلك يثمر و لو بعد حين. بدا ذلك جلياً في حديث منقول بين أحد أبناء دارفور من قادة النظام  حين دعا أحد قادة المتمردين إلى التفاوض والتخلي عن السلاح. قال إنهم جربوا الوسائل السلمية فما أجدت و تيقنوا أن هذا النظام لا يعترف إلا بالعنف  وسيلة لإحقاق الحق. قال له، فاوضوا أنتم ، فإذا نجحتم اتبعناكم، أما نحن فقد يئسنا من جدوى الأساليب السلمية، وآن لنا أن نجرب أسلوباً تعترف به و تستجيب له حكومة الخرطوم.
إن هذا اليأس هو الذي نخشاه و نتحسب له، ونغالبه بما نستطيع. و لعل حكومة الخرطوم يجب أن تبرهن للناس و لنفسها في المقام الأول، أن الصبر على السلم و اتباع كل سبيل ممكن، مهما كانت مرارته، هو أنفع و أجدى. ويجب أن تبرهن للذين راهنوا على السلم أنهم هم الرابحون، وهي معهم رابحة. ولعل على الحكومة ألا تدفع الناس إلى اليأس، بل أن تنتشلهم منه إذا استحوذ عليهم شيطان اليأس، وأن تعمل جاهدة لذلك بما أوتيت من قوة.  مهما كان خلافنا مع حكومة الإنقاذ ، وبالرغم من إخفاقها في ميادين كثيرة، إلا أننا تعترف أنها حققت منجزات رائعة. وهي تستطيع بالتأكيد أن تمضي خطوة أخرى في سبيل نجاح مماثل، و تحقيق نصرٍ ثمين لها قبل غيرها، فلدى الحكومة،ما تزال، فرصة لتوسيع مواعين التفاوض وإشراك كافة القوى السودانية، مهما كان حجمها في ظل ظروف كهذه، تبدو مواتية إذا اهتبلتها ولم تضيعها.
ونبكي حين نقتلكم عليكم:
إن رهان الحكومة على أبناء دارفور المتحالفين معها، سيكون رهاناً خاسراً، جد خاسر، إذا لم تتنبه وتشرع في عمل جدي، شجاع، في ترتيب الأولويات، والكف عن سياسة الترهيب ولي الأذرع، والبطش بالناس، حتى و إن ادَّعت أنها تحارب النهب المسلح أو تطارد الخارجين على القانون،حتى وإن قامت بتسليح قبائل دارفور لتتقاتل فيما بينها، بينما تبقى وهي ترقب الحريق وتقهقه، كما نيرون على أطلال روما! هذا لن يحدث، أو آمل صادقاً ألا يحدث.
ما تفعله الحكومة لا تبدو لنا إلا مثل قول الشاعر:
و نبكي حين نقتلكم عليكم          وتقتلكم و لكن لا نبالي
ذلك أن الأمر إذا تجاوز بعض الحدود، وعندما يدخل الكلام الحوش، فستفاجأ الحكومة بأن جميع أبناء دارفور في خندقٍ واحد، ولا أظن، حينما يكون الخيار بين أهليهم و الحكومة، أن يحتار أحد أين يقفوا. ذلك أنهم جميعا مثل دريد الصمة سيردد:
بذلت لهم نصحي بمنـعرج الـلوى        فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغـد
فلما عصوني صرت منهم وقد أرى        غـوايتهم أو أننـي غـير مـهتـد
وهـل أنا إلا من غـزية إن غوت        غويـت وإن تـرشد غـزية أرشـد
رسالة متمردي دارفور وصلت. وفي تقديري أنها أدت غرضها وأبرزت قضية دارفور إلى الناس بأوضح ما يكون. لقد أحس بها أهل الضمائر والمنشغلون بهمِّ الوطن، فسمعوها ووعوها كما ينبغي!!
وصلت الرسالة و أدت غرضها لأنها أجبرت حكومة الخرطوم، كما هو واضح، أن تتعامل مع الواقع بعد أن أمضت سنوات  من عمرها تدفن رأسها في الرمال، و تدفن معها رءوس أهل السودان جميعاً، حتى لا يروا الحقيقة. الآن ما عاد في الإمكان ذلك. و الآن الحكومة تحشد حشودها وهي تعيد ترتيب أولوياتها حتى تسكن من روع المظلومين الثائرين، وتسترضيهم. المؤسف، و المؤسف حقا،ً أن كل ذلك يعد انتصاراً للثوار و حملة السلاح، فلولا ثورتهم و تمردهم، لما تحركت الحكومة، أقول هذا مع الأسف العميق!
هل كان ثمة حاجة لسفك كل تلك الدماء لجلاء هذه الحقيقة؟ هل يعد هذا إغراءً لكل المظلومين في أنحاء هذا القطر الشاسع، والهش، والمليء بالظلامات التاريخية، لكي يسلكوا هذا الطريق الدموي الرهيب، باعتباره الطريق الوحيد، لإزالة الظلم؟ هل ينظر المستضعفون المنسيون من أهل الهامش إلى متمردي الجنوب ومتمردي جبال النوبة، والأنقسنا، و مقاتلي البجا، والآن دارفور، كنماذج حية و أن العنف هو الوسيلة الناجعة لاسترداد الحقوق من حكومة الخرطوم؟ إذن فابشروا يا بني وطني بالثورات القادمة من أهل الهامش من هذا السودان، وهي لا تبقي و لا تذر، وما دارفور إلا واحدة من الحلقات التي ستتوالى، وليت قومي يعلمون ثم يعملون! من دواعي الأسف، أن حكومة الإنقاذ هي التي شجعت وابتدعت هذا السلوك، و سنت هذا النهج و الآن تحصد ما زرعت:
فلا تجزَعَنْ من سيرة أنت سِرْتَهَا وأول راضي سُنَّةٍ من يسيرها
 لقد كانت خطوة الحكومة، أول الأمر، على قدر عال من الحكمة حين أوعزت إلى الهيئة الشعبية لتطوير دارفور، وهي  لجنة مدنية غير سياسية، تضم عناصر ممتازة من خيرة أبناء دارفور. عهدت الحكومة إلى الهيئة في اجتماع الفاشر مهمة التفاوض مع المتمردين، وارتضت ما يخلصون إليه من نتائج وتوصيات. تلك كانت عين الحكمة فلا ينبغي النكوص عن ذلك وإن واجهتها المصاعب والمعيقات. ويجب ألا يضيق صدر الحكومة، أو أن تأخذها العزة بالإثم، فتتمادى في غيها، والتلويح بالسلاح. إن قلة تجربة  الهيئة في مثل هذا النوع من المنازعات، وضعف الثقة مع تعقيد الأمر، ثم تداخله مع المشاكل القبلية ونزاعات الأرض والمرعى، كل ذلك لا يجعل الأمر ميسوراً. فيجب على الحكومة أن تدعم هذه الهيئة بقوة وتصبر عليها وتوفر لها الحرية الكاملة، ستصل إن شاء الله  إلى نتائج طيبة، ومقترحات مسؤولة وراشدة.
 إن إقليماً مثل دارفور، بتلك المقدرات الهائلة، و بالمقابل، ذلك الفقر المدقع، وضعف، بل وانعدام التنمية، ليفرض على الحكومة تركيز مشاريع إنمائية حقيقية وخاصة في مجال المياه ومسارات الماشية والطرق  والزراعة و الرعي. والإعلان عن ذلك بحيث يكون بمرأى و مسمع. ذلك أن كثيراً من المشاريع إذا لم يحس بها المواطن ويراها رأي العين فكأنها لم تكن.إن مكمن الداء الحقيقي هو في انعدام التنمية وغياب العدالة في توزيع المتاح، والافتقار إلى الشفافية.
(النيل و خيرات الأرض هنالك،
  ومع ذلك،
ومع ذلك!!)
أو كما قال صلاح أحمد إبراهيم، رحمه الله.
لا أعتقد أن من الحكمة أو الصواب أن تتعجل الحكومة فتعالج مشكلة دارفور منفردة، كأنها منعزلة عن مشاكل الأقاليم المهمشة الأخرى، إنها تفتح بهذا المسلك أبواب الجحيم. وإذن فلابد أن تتحلى الحكومة بالحكمة والشجاعة، والثقة بالنفس، وأن تدعو جميع أهل السودان  بلا استثناء للنظر في هيكل الحكم والدستور و توزيع السلطة و الثروة. وترتيب الأوليات بما يحفظ لكل حقه، عن عدل وتراض، ووفق ميثاق يلتزم به الجميع، ونبذ العنف بكافة أشكاله في حسم قضايا الوطن.
إننا في زمن الكيانات الكبيرة، ولابد أن يفهم أهل السودان جميعاً أن قوتهم في وحدتهم، متضامنين في وطن واحد يتساوى فيه الجميع. وهذا لا يكون إلا بالتراضي و المشورة. كما لا ينبغي أن يخاف أحد من تلك الأصوات التي تنادي بتقرير المصير أو نحوه. إنما هي أصوات يئست من الأنصاف، وعانت ظلم ذوي القربى، وأكثرها على حق. بل أكثر من ذلك، فأن كثيراً من هذه المناطق وجدت نفسها فجأة ضمن إطار هذا السودان بعد خروج المستعمر. لقد كانت ذات يومٍ قريب، مستقلة بذاتها وذات سيادة، ولدينا في التأريخ، القريب و البعيد، خير شاهد. فلا يستنكفنَّ أحدُ إذا برزت آراء أو دعوات كهذه، فلهذا الرأي النافر أيضاً وجاهته، وسنده التاريخي، ووثائقه. لكن الخطوة الأهم و الواجب المقدم هو العمل المثابر و الدءوب لإقناع هؤلاء بأن البقاء في سو داننا المُتَّحِد،  فيه الحياة و الخير. وإن الانفصال، إذا حدث، لا سمح الله، فلا يؤدي إلاّ إلى بوار. الذي أرجوه هو أن يتنادى الناس جميعا إلى حوار مفتوح وبعقل راشد وإلى منبر هادئٍ ورزين، دون استبعاد أي خيارٍ مهما كان صعباً أو الحجر على رأي مهما اشتط، فكما يقال في دارفور ( الكلام يطرَّقوه بأخيه). ففي عاقبة الأمر سيصل الناس إلى معادلة مقبولة يعضدونها بالعهود والمواثيق و الآليات اللازمة التي تضمن تنفيذها و استمرارها، فذلكم هو المخرج.
فهل يهد الله  أهل الإنقاذ ويفتح بصيرتهم و يكبح من جموح المتهورين منهم فينالون هذا الفضل؟ أم يكونون كالذين أصمَّهم الله و أعمى أبصارهم. و كمن أضله الله على علم وختم على سمعه و قلبه وجعل على بصره غشاوة؟  اسأل الله ألا يكونوا كذلك.
وإلى المتمردين من أهلنا و اخوتنا في دارفور، نقول: آن لكم أن تكفوا وتتركوا للصلح موضعا، وأن تضعوا ثقتكم في إخوتكم في الهيئة الشعبية لتطوير دارفور وأن تدعموهم بالأشخاص والأفكار. ولعل هذه فرصة طيبة للحكومة، وقد وضعها قدرها في هذا الموضع، أن تستمع لمناشدة ودعوة كافة الأحزاب السياسية ومفكري السودان وأصحاب الرأي، وأن تضع ما يجري في دارفور في إطاره الصحيح بإشراك كافة القوى فيه، وأن لا تعالجه بمعزل عما يدور من إطار لرسم كيان السودان الجديد. (وطن بنحلم بيه يوماتي، وطن شامخ، وطن عاتي، وطن خيِّر ديمقراطي). يالها من فرصة مواتيةٍ لأهل الإنقاذ في أن ينقذوا أنفسهم و الوطن من هذا الخراب المحدق و الموعود! ليتهم يفعلون، ( ليت، لو ينفع شيئاً ليْتُ)!
يحزنني من قتل في أحداث الفاشر سواء من قوات التمرد أو منسوبي قوات الحكومة، فكلهم أبناء هذا الوطن ، وكلهم ضحايا سوء التصرف وغياب الحكمة. لكن حزني الكبير و الممض و العارم، إنما على الأبرياء من أهل الفاشر الذين لا حول لهم ولا قوة، وقد تناوشتهم الرصاصات الطائشة، كما أصابت غيرهم بقرى أخرى كثيرة من قرى دارفور. لم يسمع بهم أحد، وما تعدوا على أحد. وأما العتاد الحربي، فما أهونه عندي! فما جيء به لحماية المواطن وإنما لقمعه، ليته كان على الحدود يدافع عن الثغور ويدرأ كيد الأعداء ولكن !
دعوت بني عـوف لحـقن دمائهم فلما أبوا سامحت في حرب حاطب
وكنت امرأً لا أبعث الحرب ظالماً       فلما أبوا أشـعلتها كـل جـانـب
أَرِبْتُ بـدفع الحرب لما رأيـتها        عن الـدفع لا تزداد غـير تـقارب
إذا لم يكن عن غـاية الموت مدفعٌ      فـأهلاً بها إذ لم تزل في المراحب
"قيس بن الخطيم"
عالم عباس محمد
جدة/ مايو 2003
amohamedNor@isdb.org.sa

 

آراء