( 1919 – 2011 ) : اثنتان وتسعون عاماً .
. . لم يزل كالسماء بدت لنا واستعصم بعلوه عنا . تتوهج أقواله وأفعاله كأنه أنجزها الساعة . أللهم أرحمه بقدر ما كان وفياً لدنياه ولأسرته وللعامة من الذين عاشروه في حياتهم . له صوت أذان مُجلجل ، من ميكرفون مسجد الشيخ حمد النيل بأبي كدوك، طوال عقود منذ الستينات إلى أن أقعدته الشيخوخة ، ولم يزل متقد الذاكرة حتى رحيله. لا يسعنا الحزن ، بل آن لنا أن نفرح بأنه كان من عامة الناس . فكان يقول لي دائماً ، نحن هنا مؤقتين في هذه الحياة . لا أحد يخلد . نحن في دار جعلها المولى لنا دار اختبار . قدمنا كل الخير للذين نعرفهم أو لا نعرفهم . نعمل لدنيانا كما أرشد المصطفى عليه أفضل التسليم كأننا لا نموت أبداً ، ونعمل لآخرتنا كأننا نموت غدا . لا تحزن بُنيَّ إن فقدتني ، فإنني قد تسلحت ليوم الدِّين وتركت لكم الطريق المُنير إلى الهُدى . أنجزت فرائضي وفق ما أعلم و حرَّمت على نفسي منذ ولادتي الخمر والميسر والموبقات وحتى اللمم . وإني سعيد أن قد بلّغت رسالتي .
(2) كدت ُ أنسى اليوم الذي فيه رحل الشيخ "محمد الشقليني" ،لأن العشر الأواخر من رمضان 2011 ، لا تطابق قرينتها عام 2015 ، لأن العام الهجري يقل أحد عشر يوماً عن الميلادي ، لولا أن ذكَّرتني ابنتي .وكنت قد كتبت في ذكراه 2012 ، و 2013 . أحس حين أغفلت الذكرى الثالثة، عمداً بسبب انشغال الحياة التي تدهس حياتنا الروحية فنتشيأ . لم يكن هو العزيز عند أهله وقد رحل . ها هي الذاكرة تتفتح ورودها بقطرات الندى، نبت جديد من قصص الماضي . فالذي رحل كان رجلاً مهيب الطلّة ، ولكنه يسير أن تتعرف إليه . مثل عامة الناس كان يحيا ،غنيٌ بالعاطفة . مثل النبات الذي أنشأته الفطرة . شاهدته يبكي مرتين . الأولى عندما عُدت للوطن من غيبة سفرٍ أكثر من عام استشفاء وعملية جراحية كُبرى أحريتها ببرلين الغربية منذ زمان بعيد. أذكر أن الطبيب الإفرنجي قال لي حينها :إن نجاح العملية 100% ، فينخلع قلبك في مرقده ، ويقف تراثك الديني النبيل ، وتقول في سرِّك " بإذن الله " .
(3) الجميع يعرفه منذ زمن" الترام" الذي كان يشق مدينة أم درمان من الخرطوم قادماً جوار الأسكلا أو" قاعة الصداقة اليوم " . يعبر الطريق عبر كوبرى أم درمان ويتوقف عن المحطة (20) ، وهي مهبط الطائرات في زمان سابق . أو عند منطقة المطار الحربي القديم " أو " قصر الشباب والأطفال " الذي أهدته جمهورية كوريا الشمالية للسودان أيام حكم (25 ) مايو .
يعبر الترام شارع الموردة إلى سوق أم درمان ، حيث محطته الرئيسة ، ومنها إلى أبي روف ، عابراً أحياء ، مكي ود عروسة وود أرو ثم سوق الشجرة قبل محطته الأخيرة قرب مُشرع أبو روف ، و إن كنت تقصد شمبات فتعبر لها " بمعديّة شمبات " في ذاك الزمان.
لم تزل في غرفته صورته الضوئية مع العم "عوض الله حسين داردوق".أسود وأبيض ، يرتديان بدلتين إفرنجيتين بكامل الهندام وعليهما رونق الشباب . ربما يكون تاريخ الصورة مطلع الأربعينات . تقبع في إطارها الصغير أعلى المكان الذي يتكئ ليقرأ من الذكر الحكيم كل يوم ما يتيسر له قبل أن يحتسى شاي الصباح ، ويخرج . حج عام 1952 ، أيامها كان يأتي إلى دار الجد ،وفود المطوّفون السعوديون يطلبون رفقة الحج من السودانيين واستمر الحال حتى أواخر الستينات . يقيمون في دار جدّي" إبراهيم " ، وفي الجمعة يتجمع لهم الأحباب الذين ينوون الحج .جدي إبراهيم كانوا يلقبونه " ود جميل " ، ،كان قد أطلقه عليه عمه " أحمد الشقليني " : الذي كان أبيض اللونكما يصفه اللسان العامي لألوان البشرة . وعلى خديه من كل جانب ثلاثة " شلوخ مطارق " رقيقة في كل خد .وقد فلت والدي"الشيخ محمد إبراهيم " من الشلوخ و من جماليات الرجولة القديمة . حتى كان في بقالته المطلّة على شارع الأربعين بأم درمان يتشابه على الحضور من الذين لا يعرفونه سوداني بل يقولون " أب يمن " . أيامها كانت تجارة البقالات أغلب أصحابها من الجالية اليمنية في السودان ، قبل أن رحيلهم وقت سماع على سراب البترول !.
وعم جدي " أحمد الشقليني " هو المذكور " بود الشقليني " في سيرة "حياتي لبابكر بدري" ، الكتاب الأول . فقد كان"أحمد ود الشقليني "تاجراً ميسور الحال، قبل الفتح الإنجليزي المصري. وحين توفى والده " الشقليني " الكبير عام 1885 ، بُعيد استرداد الخرطوم ، صلى عليه محمد أحمد المهدي ودُفن بقرية الشقلة جنوب الفتيحاب .
(4) دَرَسَ الشيخ محمد الشقليني في خلوة " الشيخ الصلحي " الدينية ،أكمل الوالد منتصف المدرسة الوسطى وفق النظام العالمي القديم . وفقد شهادة الميلاد فتوقفت الدراسة . كان يتقن اللغة الإنكليزية كتابة وقراءة ، وعندما عمل في الترام كان للذين يعملون زيهم الخاص . تدربمع أقرانه على السباحة والإسعافات الأولية قبل ممارسة العمل في " معديّة توتي أو معدّية شمبات . كانت للمعديّتان مواعيد كمواعيد قطار السكك الحديدية لا تنحرف عنها. وكنت أجلب لوالدي " عمود" بطعام إفطار رمضان " عندما كان يصادف عمال وموظفي " المعديّة الشهر الفضيل هناك . ترسو المعدية قرب شاطئ أبو روف وأكون قد حضرت بالترام . تتقاطر موائد أهل أبوروف ، طعام يسع حياً بأكمله ، يصطفالجميع جلوساً على " البروش ". مغيب ساحر ، تشهد طيور البحرتحلّق من فوق الماء .وتعلو أصوات الجلوس بالقصص والنوادر والضحك . وبعد نصف الساعة من بعد الصلاة والإفطار تبدأ معديّة أبوروفمسيرها ، وأعود أنا بالأواني فارغة إلى الترام ، ثم بص" الفتيحاب "الذي يسير إلى ديارنا. ولم يكن كُبري أبوعنجة قد تم تشييده أو تشييد كوبري شمبات .
(5) كان والدي عطوفاً ، قريب الدمع عند مشاطرة أحبابه الحزن في الفقد . كان رابض الجأش حين الوداع الأخير ، وكان يخصني منذ السبعيناتبالتدريب على إجراءات غُسل خروج الروح للميت والغسل الكاملوالطقس والأدعية ، وطرائق تفريغ الأمعاء ، وأساليب وضع روائح " الحنوط " في الجسد ، عند " المَلاين " ، وعند طبقات اللفافة الدموريةأو الدبلان لكساء الميت الأخير . كنت أتمالك نفسي كثيراً ، حتى أصبح بين يدي الجثمان كالطفل الرضيع .
(6)
في يوم ضحى كان يزورنا صديقه وقريبه العم " عوض الله حسين " ،شريكه في الصورة الضوئية أسود وأبيض التي تحدثنا عنها . وجدتني أقطع ذكريات صفائهما وقد كانا يتحدثان عن أغنية مشهورة للفنان " حسن عطيّة " من كلمات الشاعر المُبدع " عبد الرحمن الريّح و أنا أهم بدخول الغرفة : يا ماري عند الأصيل ،
وَحدك بشاطئ النيل
صدقني شكلك ظريف خففت من مسيري ، وحمحمتْ . وانتبها . قال العم " عوض الله حسين " ضاحكاً : كان أبيك صاحب علاقات عامة ، فالترام هو صديق الطلاب وعلية القوم وموظفي الحكومة وأصحاب الطرب والغناء والرياضة ، وأيضاً غمار الناس . جميعهم أصحابه . لهم حياتهم وله حياته .
تدفقت الأحلام على منامي كل بضعة أيام من بعد رحيله : كنت أشهده في المنام متبسماً يكاد يضحك :
" أتعتقدون أني رحلت بمدفني وانتهت الحكاية؟ ، لكنني باق وأعرف كل ما يدور حولي ...." ويقهقه ضاحكاً .
(7)
الحساب الذهني :
كان الراحل يتعجب كيف نستخدم الآلة الحاسبة في ضرب عددينبخانتين عشريتين، ولدينا عقول يتعين أن تعمل ؟!.
سألني يوماً : قُل لي حاصل ضرب " 18 x 17 ؟
فانهمكت باستخدام الورقة والقلم . قال لي الموضوع في غاية البساطة وهي عملية ذهنية ليس إلا. وبالفعل أجرى العملية الحسابية ذهنياً وهو في الثمانين مما مضى من عمره !!. :
أذكر مرة كنت في فترة علاج وأنا نائم . تناوب على رفقتي العديد من أفراد الأسرة في المستشفى . وفجأة صحوت على صوته ذات مساء ، وهو في فرِح يقول : اليوم ختمنا لك القرآن .
(8)
كان الشيخ محمد الشقليني جليس جدّته " ريّا الشقليني " ، وحفظ عنها شجرة النسب . وظل مرجعاً لها حين تجمع الأهل من الفتيحاب ومن " قرية القوز " ومن أم درمان وشمبات وبري في مطلع ستينات القرن الماضي ، في بيت الجد " إبراهيم التِميم " ليتعرفوا على أصولهم ومنابتهم السلالية ، ويشاهدوا وثيقة النسب . وعرفنا أن أحد جدودنا هو الشيخ "يعقوب محمد مُجلي" الذي قدم مع والده وإخوته الذين عبرواالأراضي السودانية ، إلى مصر مطلع تكوين دولة سنار . وتركوا الشيخ" يعقوب محمد مُجلي" في الأراضي السودانية. وظل في تعليم المناهج الإسلامية في الفقه و الحديث وعلم القرآن . تزوج الشيخ " يعقوب مجلي " لاحقاً بإحدى كريمات الشيخ "عمارة دنقُس"،وأقطعه أراضٍ في منطقة حلفاية الملوك . واندلقت السلالات تتلاحق، تتبع الواحدة أختها : الزامراب ، والموسيّاب والعطليّاب ، ومن سلالة " الشيخيعقوب مجلي " الشيخ " حمد ود أم مريوم" صاحب القبة المشهورة ببحري ، وهي قصة لم نزل نحاول ملئ فراغاتها التاريخية الباقية .
كان الشيخ " محمد إبراهيم الشقليني " مرجعاً ،و من النسّابة المشهود لهم في تحديد ورقة النسب ورفد الأبناء والبنات إلى تسلسل العشيرة . وكان ملماً بقصة جده وكيف استوطن " إبراهيم الشقليني " الكبير الفتيحاب وصاهر مكّ الفتيحاب في الربع الأول من القرن التاسع عشر .
(9)
مقتطف عن أحد جدودنا ( أحمد الشقليني ) السابق ذكره ، كما جاءت سيرته الواردة في سِفر الشيخ بابكر بدري( حياتي ) الذي قام بطبعه عام 1959 ابنه " العميد " يوسف بدري " وجاء في صفحة 163 من الجزء الأول في ذكر أيام حكم الخليفة عبدالله : { في يوم جاءني عمي مالك وقال لي إن إبراهيم باكراوي ومن معه أكلوا مني ألفين ريال أو أربعين ريالاً قوشلياً – إذ الريال القوشلييساوي خمسين ريالاً محلياً –بأنهم أمضّوني عليها مرتين ، يطلبني إياها " ود الشقليني "، وحينما دفعوها له أرسلوه لي فمشيت معه ووقعت عليها مرة ثانية . فمشيت لبخيت سليمان وهو أصدقهم والذي بعهدته دفتر حسابهم الأصلي النظيف . فقلت له المسألة هذه تكشف قلوبكم خصوصاً أنت ، تقل ثقة الناس فيك . أطلعني دفتركم النظيف لأنظره هل عمي مالك في هذين التاريخين أخذ مرتين . قال لي أمهلني حتى يحضر شركائي . فقلت له الأمر لا يحتاج حضورهم . ضحِك وقال لي : خلّصت عمك مِننا ، وقد كنت أخبرتهم أنك تأتي وتأخذها منا ، فالأحسن نتركها ، خدها . استلمتها وشيّلها حمالاً ،وأوصلناها لعمي مالك . ولما عدّها واستلمها قال لي : إنت حرامي مثلهم، لذلك خلصتها منهم . ودفعت أنا أجرة الحمّال }.
(10)
ظلت " السجادة الإدريسية " في حي أبو كدوك شاغرة برحيله . اللهم ارحم الشيخ " محمد الشقليني " رحمة واسعة ، واسقه من شراب العليين في جنة الرضوان التي تخيّرتها لأحبابك وأصفيائك . وأجر من تحت مرقده رافداً من سلسبيل الجنان الموعودة لمنْ ارتضيت .
عبد الله الشقليني
24 أغسطس 2015