الحروب ظاهرة تسيطر على تاريخ وحاضر العالم. ومع كل حقبة زمنية جديدة، تتشكل دوافع الحرب وفق محاذير أكثر صرامة، متجاوزة فكرة أن النار يمكن أن تشتعل من مستصغر الشرر. فلم يعد يكفي مثلا أن تصرخ إمرأة «وإذلاه.. يا لتغلب»… حتى تندلع الحرب بين القبائل، أو يقتل قومي صربي ولي عرش هيبزبورغ حتى تقوم حرب عالمية أخرى!. ومع توالي الحقب الزمنية، ظلت آلة الحرب تتطور بسرعة هائلة، وبتناسب طردي مع درجة هلاك البشر والدمار في العالم، محدثة مفارقة عجيبة. فبدل البتار الذي كان بحركة واحدة يزهق نفسا واحدة فقط، جاء الفتّاك لينهي بحركة واحدة فقط مئات الأرواح. لكن، ديدن الناس ظل دائما الولاء لشعورهم الغريزي والطبيعي الرافض للكريهة وبشاعاتها، غض النظر عن مسبباتها ودوافعها. وبداهة، هذا الشعور الغريزي الرافض للحرب، لن ينهي أو يتجاوز الخلافات والصراعات، ولكنه يدفع بالحوار والتفاوض وسائل لحلها بدلا عن الاقتتال، في تناغم تام مع معنى التطور الحضاري. ومع مرور الزمن، تبلور هذا الشعور وتجسد في تقاليد ومواثيق وعهود ظلت تدريجيا تكتسب احتراما وأنصارا بهدف منع الحرب والحفاظ على السلام العالمي.
صحيح أن «الحرب هي إستمرار للسياسة، بوسائل أخرى» ولكنها في تقديري، هي أول علامات الفشل السياسي. ومن هذه الزاوية ننظر إلى الاقتتال على حدودنا الشرقية مع الجارة إثيوبيا، ونبدأ بتكرار ما قلناه قبل عدة أسابيع من أن التوترات على حدود البلدين، ظلت بإستمرار، ومنذ عشرات السنين، موجودة، ولكنها كانت دائما محدودة ومحصورة في نطاق ضيق. الجديد هذه المرة، هو إتساع حجم المواجهات بين البلدين، مما ينذر بحرب شاملة، قد تفجًر المنطقة برمتها، وقطعا ليس فيها أي طرف رابح. أعتقد من الضروري أن تتحلى قيادتنا بأقصى درجات الحيطة والحذر، حتى لا تقع في فخ أراه منصوبا بإحكام، يدفع ببلادنا إلى أتون حرب، كل مؤشرات أوضاعنا الداخلية الراهنة، السياسية والاقتصادية، تشير بعدم جاهزيتنا لها. ومع ذلك، يجب ألا نتوانى جميعا عن الوقوف بقوة وصلابة خلف قواتنا المسلحة، دعما ونصرة، لا بالهتاف وعلو الصراخ وتخوين الآخرين، وإنما بوحدة وتماسك جبهتنا الداخلية.
وفي هذا الصدد، أجدد اقتراحي بأن تنخرط قيادة البلاد السياسية والعسكرية، اليوم قبل الغد، في حوار صريح وبناء، يبحث أفضل السبل لدعم قواتنا المسلحة، وأفضل الخيارات للتعامل مع هذا النزاع وكيفية نزع فتيل الحرب، وحل النزاع عبر التفاوض. وفي ذات السياق، أجد نفسي متماهية مع ما خطه الصديق بكري الجاك، الباحث والأستاذ في الحوكمة والسياسة العامة والادارة والاقتصاد السياسي، بكلية إدارة الأعمال وتقنية المعلومات بجامعة لونغ آيلاند بنيويورك، عندما حذّر من التبسيط المخل، ضيق الأفق، الذي يختصر النزاع في محض إيعاز من مصر حتى تنشغل إثيوبيا بنفسها وبحرب خارجية مما قد يضعف موقفها التفاوضي في مسألة سد النهضة، دون أن ينتبه دعاة التبسيط هؤلاء إلى أن مصر لن تكسب استراتيجيا في خلق حالة عدم استقرار واسعة بحرب قد تطال المنطقة باشملها وقد تؤدي الي انهيار دول. ودعاة التبسيط المخل لا يتوقفون عند ذلك، بل يختزلون النزاع في أنه مجرد تحايل من المكون العسكري في سلطتنا الانتقالية لخوض حرب خارجية لتغيير توازنات القوي الداخلية وسد الطريق أمام الانتقال الديمقراطي، ثم يستنتجون بأن أي موقف داعم لقواتنا المسلحة في هذا النزاع، هو موقف معادي للثورة. ويقول الأستاذ بكري، أن هذا هو موقف السياسي العاجز والمحلل الكسول، الذي يضر بالثورة أكثر من أن ينفعها. ويرفض الأستاذ بكري الحجة القائلة بأن من يريد أن يدافع عن الفشقة فعليه أن يبدأ من حلايب وشلاتين، ويصفها بالسذاجة، لأن إذا كان المنطق هو تحرير كل الأراضي، فمن البديهي أن يرحب الناس بأي خطوة في هذا الاتجاه غض النظر عن البداية، بدلا من إستخدامها للتدليل علي الغرض من التصعيد. ويواصل الصديق بكري فيقول، صحيح أن الجيش السوداني ظل طرفا في الحرب الأهلية في البلاد منذ الاستقلال، لم يحارب عدوا خارجيا، ولم يدافع عن المعتصمين في القيادة، ولكن، أوليس الاضطلاع بحماية الدستور والدفاع عن حدود الوطن هو ما نريده من جيشنا في ظل عقد اجتماعي جديد؟ ولما لا نشجعه للعب هذا الدور الذي ظللنا نطالب به بدلا من إنخراطه في النزاعات الداخلية؟! وفي كل الاحوال، فإن قادة قواتنا المسلحة هم سودانيون من لحمنا ودمنا، وهم أقرب إلينا من أي آخرين من خلف الحدود، مهما كان دور هولاء الآخرين في دعم التغيير في السودان، ومهما كان اعجابنا بهم. بالإضافة إلى أن ما يحدث في الفشقة من تعدي على أراضينا، ذو صلة وثيقة بالتحولات الداخلية في إثيوبيا، اكثر مما هو تصعيد من قبل المكون العسكري في حكومتنا، لهذا الغرض أو ذاك. ومن ناحية أخرى، فإن الموقف المناصر للتصعيد ودق طبول الحرب والذي يخوّن المطالبين بالتهدئة، وهو موقف لا علاقة له بدعم قواتنا المسلحة، هو أيضا موقف إختزالي قصير النظر، حسب أستاذ بكري. فالتشجيع على الحرب ليس كخوضها، وما إن تتعالى أصوات المدافع وتحتدم المعارك، ستتوالى الخسائر والكوارث، وتزداد الضغائن والرغبة في الانتقام، وفي النهاية، الضحايا عادة هم الضعفاء من الطرفين. نعم، للسودان حججه المنطقية في استرداد أراضيه والدفاع عنها، ومن واجبنا دعم قواتنا المسلحة ونصرتها، ومع ذلك، فإن تصاعد التوترات والمواجهات بين السودان وإثيوبيا، مرفوض تماما، ونتيجة أي حرب بينهما هي الخسران لكليهما. لا بد أن تتحلى قيادت البلدين بأقصى درجات الحيطة والحذر والحكمة، وعلينا تحكيم صوت العقل والركون إلى الوسائل الدبلوماسية والجلوس إلى طاولة المفاوضات لحل أي خلافات بين البلدين، ورفض تصوير الحرب وكأنها هي الخيار الوحيد.