في الشراكة الأوربيَّة مع أقطار في إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الباسفيكي (1من 2)
shurkiano@yahoo.co.uk
مقدِّمة
لعلَّ كثيراً ما ميَّز الإنسان نفسه عن الحيوان ليس لأنَّه يفكِّر ويعقل فحسب، بل لأنَّ تفكيره قد هداه إلى ابتكار وسائل إنتاج غذائه وعلاجه ولباسه، وتسخير الموارد الطبيعيَّة لهذه الأغراض. والأفكار المستخدمة في الأنشطة الاجتماعيَّة هي تلك التي تنتج من علائق الأفراد مع الطبيعة، أو علائقهم مع بعضهم بعضاً، أو حتى علائقهم مع حيواناتهم الأليفة. ومن الجلي في كل هذه الحالات أنَّ الأفكار أو المفاهيم هي تعابير ذات وعٍ – حقيقي أم وهمي – بيد أنَّ إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي قد امتزج مِزاجاً مباشراً مع النشاط المادي والتداخل المادي بين البشر، وبات لغة الحياة في السياسة والقانون والأخلاق والدِّين والظاهرات ما وراء الطبيعة وغيرها. ومن بعد تأسَّست المجتمعات، وأخذ الفلاسفة يتجادلون فيما بينهم أيَّهما نشأ أولاً اللغة أم المجتمع. على أيَّة حال، تأسَّست المجتمعات الريفيَّة والحضريَّة وظهرت الحكومات حينما أخذ الصِّراع حول الموارد في اشتداد، وفي حركة جذب ومد، وأخذ السلوك الاجتماعي والسياسي يتطوَّر رويداً رويداً. وبعد دخول شعوب أوربا في صراعات دمويَّة وأفلحوا في تكوين المؤسَّسات القانونيَّة والمدنيَّة والسياسيَّة التي تنتظم بموجبها شعوبها، حتى استقرَّت حالهم، وابتدعوا أسلوباً للتعاون الدولي، لئلا يكون نمط حياتهم الماديَّة محدوداً، وعلاقاتهم الاجتماعيَّة مقصورة فقط على قارتهم. وفي سبيل ذلك تأسَّس الاتحاد الأوربي من أجل حماية القيم المشتركة، والمصالح الأساسيَّة، واستقلال وتكامل الاتحاد، بما يتوافق مع مبادئ ميثاق الأمم المتَّحدة، ولتعزيز أمن الاتحاد في جميع المجالات، وحفظ السَّلام، وتقوية الأمن العالمي حسب مبادئ الأمم المتَّحدة، وكذلك قانون هيلسينكي النهائي، وأهداف ميثاق باريس، بما في ذلك ما يتعلَّق بالحدود الخارجيَّة، وتشجيع التعاون الدولي، وتنمية وتقوية الديمقراطيَّة وحكم القانون، واحترام حقوق الإنسان والحريَّات الأساسيَّة، وتمديد النطاق الأمني حول أوربا (تحديداً نحو الشرق)، وتعزيز النظام العالمي، ومواجهة المهدِّدات.(1) إذاً، ما هو الاتحاد الأوربي؟
الاتحاد الأوربي هو بمثابة أسرة مكوَّنة من أقطار ذات حكومات أوربيَّة ديمقراطيَّة تعمل سويَّاً لتحسين مستوى الحياة لمواطنيها، وبناء عالم أفضل. ولكن قد يتشاجر أفراد الأسرة الواحدة، والأزمات اللحظيَّة هي التي تتصدَّر رؤوس الأخبار، وبعيداً عن عيون الكاميرات يتجلَّى سر النجاح. ففي فترة مداها أكثر من نصف قرن من الزَّمان حقَّق الاتحاد الأوربي السَّلام والرفاهيَّة في أوربا، وعملة أوربيَّة موحَّدة (اليرو)، وسوق مشتركة خالية من القيود التجاريَّة، حيث تنساب السلع، وتتحرَّك الشعوب، وتسير الخدمات ورأس المال بحريَّة وسط الدول الأعضاء في الاتحاد. وقد صار الاتحاد قوة تجاريَّة رئيسة، ورائداً عالميَّاً في مجالات حماية البيئة والمساعدات التنمويَّة. لذلك لم نندهش حين رأينا أنَّ الاتحاد قد نما من ست دول إلى سبعة وعشرين دولة، وهناك دول أخرى ترغب في الانضمام إليه، أو الالتحاق به. ولكن كيف تمَّ هذا النجاح المذهل حتى بات كثرٌ من الدول ترغب في الانضمام إلى هذا الاتحاد الأوربي أو الالتحاق به؟
البدايات والمبادرات
يعود سر نجاح الاتحاد الأوربي إلى الطريقة غير العاديَّة أو النهج الفريد التي يعمل بها الاتحاد، وغير عاديَّة لأنَّ الدول الأعضاء المكوِّنة للاتحاد ما تزال أمماً ذات سيادة مستقلة، ولكنها تتضافر في بلورة سيادتها لتكسبها قوة ونفوذاً عالميَّاً، بحيث لا يمكن أن تحقِّقهما أيَّة دولة بمفردها. هذا يجعل الاتحاد ليس بوحدة فيديراليَّة، كما هي الحال بالنسبة للولايات المتَّحدة الأميريكيَّة، ولكنه أكبر درجة من منظومة تعاون بين الحكومات، مثل الأمم المتحدة. وتضافر السيادة هنا يعني عمليَّاً أن تقوم الدول الأعضاء بتفويض بعض سلطات اتخاذ القرار إلى المؤسسات المشتركة التي ابتكرتها، حتى تأتي القرارات في قضايا محدَّدة ذات المصالح المشتركة ديمقراطيَّاً على المستوى الأوربي. فعلى سبيل المثال تحتفظ الحكومات الوطنيَّة على انفراد بإداراتها المستقلة في شؤون السياسة الخارجيَّة والأمن والدِّفاع، غير أنَّها تقر بفوائد العمل سويَّاً في هذه القضايا. فالتعاون لا يقتصر على الدِّفاع فحسب، بل أيضاً في مهام إدارة الأزمة – مثل العمليات الإنسانيَّة والإنقاذيَّة، وحفظ السَّلام في أماكن ذات القلاقل والاضطرابات. وفي هذه الحال يحاول الاتحاد الأوربي استنفار وتنسيق القوات العسكريَّة والشرطة ريثما يتم استخدامها في تنسيق العمل الديبلوماسي والاقتصادي. ومن خلال هذه الآليات استطاع الاتحاد الأوربي أن يحفظ السَّلام، ويؤسِّس الديمقراطيَّة، ويدفع بالتقدُّم الاقتصادي في أماكن قصيَّة كإندونيسيا وجمهوريَّة الكونغو الديمقراطيَّة وأقطار في جنوب-شرق أوربا.
على أيَّة حال، تتكوَّن مؤسسات صنع أو اتخاذ القرارات في الاتحاد الأوربي من البرلمان الأوربي الذي يمثِّل مواطني الاتحاد الأوربي، ويتم انتخابهم مباشرة، ومجلس الاتحاد الأوربي الذي يمثِّل الدول الأعضاء والمفوَّضيَّة الأوربيَّة والتي تمثِّل مصالح الاتحاد ككل. إذ يرسم هذا المثلث المؤسساتي السياسات والقوانين التي تُطبَّق على جميع دول الاتحاد. مبدئيَّاً فإنَّ المفوضيَّة هي التي تُقدِّم مشروع القوانين، ولكن البرلمان والمجلس هما اللذان يتبنيان هذه القوانين. ومن ثمَّ تقوم المفوضيَّة والدول الأعضاء بتنفيذها، وتعمل المفوضيَّة على ضمان تطبيقها. وإنَّ محكمة العدل لهي المحكِّم الأخير في التنازعات التي تنشأ من جراء القانون الأوربي. أما محكمة المراجعين فهي تقوم بمراجعة وتدقيق نشاطات الاتحاد الماليَّة. وهناك كذلك مجموعة من المؤسسات الأخرى التي لها أدوار هامة لجعل الاتحاد الأوربي يعمل بكفاءة، وهي:(2)
(1) اللجنة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الأوربيَّة، والتي تمثِّل الأذرع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة للمجتمع المدني المنظَّم.
(2) لجنة الأقاليم، والتي تمثِّل السلطات الإقليميَّة المحليَّة.
(3) بنك الاستثمار الأوربي، والذي يموِّل الاستثمار في مشاريع التنمية الاقتصاديَّة داخل وخارج الاتحاد الأوربي، ويساعد المؤسسات التجاريَّة الصغيرة من خلال صندوق الاستثمار الأوربي.
(4) البنك المركزي الأوربي، وهو المسؤول عن السياسة النقديَّة الأوربيَّة.
(5) المفوَّض البرلماني للإدارة الأوربيَّة، والذي يتحرَّى الشكاوي ضد سوء الإدارة في مؤسسات وأجسام الاتحاد الأوربي.
(6) مشرف حماية المعلومات الأوربي، والذي يحافظ على سريَّة معلومات الأفراد الشخصيَّة.
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، فهناك وكالات خاصة والتي تتناول أعمالاً فنيَّة وعلميَّة أو إداريَّة معيَّنة.
إنَّ صلاحيات ومسؤوليات مؤسسات الاتحاد الأوربي، والقوانين والإجراءات التي ينبغي إتباعها مبنيَّة على أسس المعاهدات التي بُني عليها الاتحاد الأوربي. وهذه المعاهدات قد وافق عليها رؤساء الحكومات ورؤساء مجالس وزراء كل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي، وصادقت عليها برلماناتها. إذاً، ما هي رسالة الاتحاد الأوربي في القرن الحادي والعشرين؟ تتجذَّر رسالة الاتحاد الأوربي في القرن الحادي والعشرين في النقاط الآتية:
(1) تحقيق السَّلام والازدهار والاستقرار لشعوب القارة.
(2) القضاء على الانقسامات في القارة.
(3) تأكيد حياة شعوبها في أمان.
(4) الارتقاء بالاقتصاد المتوازن والتنمية الاجتماعيَّة.
(5) مواجهة تحديات العولمة، ورعاية تعدُّد شعوب القارة.
(6) المحافظة على القيم المشتركة بين الأوربيين، مثل التنمية المستدامة، والبيئة الصالحة، واحترام حقوق الإنسان، واقتصاد السوق الحر.
إذاً، لماذا الاتحاد الأوربي؟
(1) السَّلام والاستقرار.
في العصور الوسطى شهدت أوربا نزاعات طائفيَّة-دينيَّة وحروباً سياسيَّة-اقتصاديَّة وصراع إمبراطوريَّات حول ترسيم الحدودد وغيرها. إذ لم يقتصر تأريخ أوربا السياسي حصريَّاً على عمل الساسة والديبلوماسيين فحسب، ولكن ما من كاتب انتوى كتابة تأريخ الأحداث الأوربيَّة منذ العام 1870م يستطيع أن يغفل عن الحديث عن التحديث التقني وتمدُّد العالم في القوة الإنتاجيَّة والتحسين المفاجئ في سبل الاتصالات التي صاحبت التغييرات السياسيَّة آنذاك. ومن هنا تجدر الإشارة إلى أنَّ إحدى مسبِّبات الحرب العامليَّة الأولى (1914-1918م) هو ظهور القوميَّة وسط الأمم الأوربيَّة كملمح طاغٍ في التأريخ الأوربي في القرن التاسع عشر الميلادي. والقوميَّة هي تنامي الشعور الوطني عند الشعوب ذات المجموعة اللغويَّة المثيلة في تأسيس دولة ذات حكم ذاتي. ثمَّ كان هناك كذلك ثمة تنافس اقتصادي؛ وبما أنَّ الأعمال التجاريَّة تزدهر أكثر فأكثر في جوٍ يسوده السَّلام والاستقرار غير أنَّه ساد خوف عارم وسط الشعوب الأوربيَّة بأنَّ الحرب حتماً لسوف تفرز نظماً اشتراكيَّة. فلعلَّ رجال المال والأعمال في المجتمع الرأسمالي الغربي قد ارتعبوا من تنبؤات تروتسكي الذي أخذ يؤمن بأنَّ الرأسماليَّة قد دخلت في أزمتها النهائيَّة، والشرط الاقتصادي لثورة البروليتاريا قد حقَّقت - في العموم – أعلى نقطة في النضوج يمكن أن تتحقَّق في كنف الرأسماليَّة، وإنَّ قوى الإنسانيَّة الإنتاجيَّة قد أمست راكدة. كان تروتسكي يعتقد في أشدَّ ما يكون الاعتقاد بأنَّ الوضع قد بلغ حدَّاً، بحيث بات الجدال حول الإصلاحات التنظيميَّة، ورفع معدَّلات المعيشة للشُّعوب أمراً لا يطاق وغير ذي جدوى. وإزاء ذلك يمكن أن تتدهور الدِّيمقراطيَّة الاجتماعيَّة بصورة مميتة. ثمَّ كان يرى تروتسكي بأنَّ الحرب العالميَّة الوشيكة قد تفرز – كسابقتها أو أكثر – موجة ثوريَّة عاتية، وذلك لأنَّ الولادة الثانية بشكل عام أيسر من الأولى. وفي هذه الحرب الجديدة سوف لا ينتظر الناس حولين كاملين ونصف العام للشروع في العصيان المسلَّح. ومع ذلك، كان الرِّجال الذين أصدروا القرارات التنفيذيَّة في السياسات الحكوميَّة من الطبقة الأرستقراطيَّة، أو ديبلوماسيين محترفين، وهم الذين نظروا إلى الأمور في قالب سياسي، وليس من خلال منشور اقتصادي.(3) وكان التنافس الاستعماري والتحالفات السياسيَّة وسباق التسلُّح في الدول الأوربيَّة قد فاقم من لهيب الحرب العالميَّة الأولى.
ومن أجل سيادة السَّلام والاستقرار، ظلَّت فكرة الاتحاد الأوربي حلماً يراود أدمغة الفلاسفة وبعض المفكِّرين، مثل فيكتور هوجو (1802-1885م)، ورجال السياسة مثل روبرت شومان – وزير الخارجيَّة الفرنسي، وونستون تشرشل – رئيس وزراء بريطانيا (1871-1947م). ففي يوم 9 أيار (مايو) 1950م اقترح وزير الخارجيَّة الفرنسي روبرت شومان إنشاء المجموعة الأوربيَّة للفحم الحجري والحديد الصلب (European Coal and Steel Community – ECSC) بين الدول التي حاربت بعضها بعضاً في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1918م) والثانية (1939-1945م)، حيث تحوَّلت مواد الحرب إلى أجهزة المصالحة والسَّلام. وكانت الدول التي استهدفتها هذه المبادرة الفرنسيَّة هي فرنسا وألمانيا وأيَّة دولة أخرى أخذت ترى في هذه المنظَّمة مصالحها. إذ رأت المنظَّمة النُّور العام 1952م، وكانت الدول المؤسِّسة حينذاك هي بلجيكا وفرنسا وألمانيا الغربيَّة وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا. وكان الغرض المعلن من هذه المنظَّمة هو إلغاء التنافس وسط دول أوربا الغربيَّة. وفي العام 1957م وقَّعت هذه الدول الست معاهدة روما، التي أسَّست المجموعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة، وعملت المعاهدة على توسيع التكامل الاقتصادي بين تلك الدول الست لفترة مداها 12 عاماً. وبنهاية هذه الفترة تكون هذه الدول الأعضاء قد حقَّقت ما يلي:
1) تلاشي الضرائب الجمركيَّة أو الكوتات التجاريَّة.
2) توحيد التعريفة الجمركيَّة مع الدول غير الأعضاء.
3) حريَّة حركة العمال والمال بين الدول الأعضاء، وتبادل المؤهِّلات المهنيَّة.
4) إتباع سياسات مشتركة في الزراعة والنقل.
5) التنافس الشريف داخل المجموعة.
6) إتباع سياسات اقتصاديَّة متكاملة ومدعومة بتشريعات اجتماعيَّة واقتصاديَّة ضروريَّة.
7) تأسيس الصندوق الاجتماعي الأوربي لمكافحة البطالة، ورفع مستويات المعيشة.
8) تأسيس بنك الادخار الأوربي.
9) الارتباط مع دول وراء البحار والأقاليم لتحسين التجارة والتنمية.
غير أنَّ هذا البرنامج الطموح قد اعترته صعوبات لم تكن في الحسبان في بادئ الأمر، وهي تحديداً المحاولات الدؤوبة لصوغ سياسة زراعيَّة موحَّدة، إلا أنَّ وزراء خارجيَّة الدول الأعضاء قد مضوا قُدماً بمشروع الطاقة، وأحرزوا تقدُّماً ملموساً في هذا المجال. ففي الفاتح من تموز (يوليو) 1968م أمست المجموعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة السوق الأوربيَّة الموَّحدة، وتمَّ إلغاء الضرائب الجمركيَّة وتبنِّي التعريفة الخارجيَّة الموحَّدة. وكذلك تمَّ العام 1957م التوقيع على معاهدة منفصلة عُرِفت ب"يوراتوم" – الخاصة بإنشاء منظَّمة الطاقة النوويَّة، والتي هدفت إلى بلورة الموارد الفنيَّة والصناعيَّة للدول الست إيَّاها لإنتاج وتنمية الطاقة النوويَّة.
وفي العام 1961م تقدَّمت بريطانيا بطلب لأول مرة للانضمام إلى المجموعة الأوربيَّة، ولكن سرعان ما استخدمت فرنسا حق الفيتو في رفض الطلب البريطاني في كانون الثاني (يناير) 1963م. إذ لم يكد يرضى الرئيس الفرنسي آنذاك الجنرال شارل ديغول – والذي كان أكثر قوميَّة – أن تتجاذبه الأهواء السياسيَّة للقادة الذين كانوا يسعون إلى توحيد أوربا على طريقتهم. كان ديغول (1890-1970م) يرغب في أعظم ما تكون الرغبة أن تمسي أوربا قويَّة حتى يُسمع صوتها في الشؤون العالميَّة، وذلك في توازٍ مع الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة والاتحاد السوفيتي حينها، ولكنه أيضاً كان يود أن يكون لهذا الصوت الأوربي اللهجة الفرنسيَّة القويَّة. إزاء ذلك كان يتخوَّف ديغول بأنَّ بريطانيا مشغولة ومشغوفة بمصالح دول الكومونويلث، وهي خضوع في أكثر ما يكون الخضوع للولايات المتَّحدة الأميريكيَّة، ولذلك لا يمكن أن تكون حريصة كل الحرص على مصالح أوربا. ففي ذلكم العام – أي العام 1963م – كان ديغول صائباَ فيما زعم، وذهب إليه، وأذاعه في الناس. وكان الرأى العام السائد في بريطانيا ضد التفريط في سلطات السيادة بتوقيع اتفاقيَّة الانضمام إلى المجموعة الأوربيَّة وتأسيس سلطة أوربيَّة خارج نطاق الدول. كان الهدف الأساس في تقديم الطلب البريطاني أيامئذٍ هو تخوُّف القادة البريطانيين من أنَّ بريطانيا قد تبقى في الخلف في السباق الاقتصادي العالمي إن هي فشلت في الالتحاق بالمجموعة.
وفي العام 1960م أسَّست كل من بريطانيا والسويد والنرويج والدينمارك والنمسا وسويسرا والبرتغال (أصبحت فنلندا عضواً العام 1961م) المجموعة الأوربيَّة للتجارة الحرَّة، وذلك من خلال الضغوط التي مارسها رجال الصناعة في هذه الدول السبع على قادتهم من أجل إنشاء منطقة تجارة حرَّة، حتى يتم التفاوض مع المجموعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة في سبيل تأسيس سوق موَّحدة متكاملة في أوربا الغربيَّة. وفي العام 1967م باتت بريطانيا أقوى دول المجموعة الأوربيَّة للتجارة الحرَّة من الناحية الاقتصاديَّة، وفي هذه الأثناء شرعت جمهوريَّة أيرلندا والدينمارك والنرويج في المحاولة الثانية لتقديم طلباتها للانضمام إلى المجموعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة. كانت المفاوضات البريطانيَّة مع المجموعة قد تركِّزت على المجال الاقتصادي في المجموعة الأوربيَّة، غير أنَّ خطة شومان، والتي منها بدأت حركة المجموعة، كانت تهدف إلى تحقيق الوئام السياسي من خلال التكامل الاقتصادي. في حال استغلال أوربا القويَّة سلطتها لتزدهر على حساب الأخريات، فهذا يعني أنَّها خانت وغدرت بآمال الآباء المؤسِّسين. أما إذا أمست صادقة مع مثالياتهم، فإنَّها قد تبصر الناس بالطريق التي بها يمكن أن يُزال التنافس العالمي.(4)
(2) إعادة توحيد أوربا بعد الحرب الباردة.
إنَّ بعضاً من دول أوربا كانت دولاً استعماريَّة استعمرت أجزاءً واسعة من دول العالم، واستحوزت على مواردها الاقتصاديَّة والطبيعيَّة والحيوانيَّة والبشريَّة حتى عظم نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري. ومن هذه الدول نجد بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وأسبانيا والبرتغال. ولكن في عقابيل الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م) خرجت هذه الدول منهوكة القوى، وظهرت قوى عالميَّة أخرى جديدة متمثلة في الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة والاتحاد السوفيتي والصين. غير أنَّ الحقب ما بعد الحرب العالميَّة الثانية قد شهدت نمطاً جديداً من الحرب التي عُرِفت ب"الحرب الباردة" بين المعسكر الشرقي تحت زعامة الاتحاد السوفيتي وبين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة، حتى انتهت هذه الحرب بسقوط سور برلين وتوحيد ألمانيا العام 1989م، والتحاق دول شرق أوربا بالاتحاد الأوربي، ودخول تركيا وكرواتيا في الحوار مع الاتحاد الأوربي من أجل الانضمام في تشرين الأول (أكتوبر) 2005م. إذ كان توحيد أوربا تحت مظلة سياسيَّة واقتصاديَّة مشتركة هدفاً إستراتيجيَّاً، حتى تلعب هذه الدول مجتمعة دوراً عالميَّاً رائداً في مجالات التجارة والشؤون الخارجيَّة والتعاون الدولي والاستثمار وغيرها.
(3) الأمان والأمن.
(4) التضامن الاقتصادي والاجتماعي.
(5) الهُويَّة والتعدُّديَّة في عالم تسوده العولمة.
(6) القيم الأوربيَّة.
مراحل التطوُّر في تأسيس الاتحاد الأوربي
وكما يجري المثل القائل إنَّ روما لم يتم تشييدها في يوم واحد، هكذا لم يتم تأسيس الاتحاد الإوربي في مرحلة واحدة بضربة لازب، بل تطوَّر الاتحاد في مراحل مختلفة، وعلى النحو التالي، قبل أن يرسو على الشاطئ المعروف بهذا الاسم اليوم. إذ ما يزال الاتحاد يتطوَّر حيناً، ويتفاعل مع المستجدات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأمنيَّة في الدول الأعضاء في سبيل الوصول إلى مراحل أرقى وأفضل حيناً آخر. إذاً، ما هي المراحل التطوُّريَّة التي مرَّ بها الاتحاد الأوربي؟
(1) العام 1951م تمَّ إنشاء المجموعة الأوربيَّة للفحم الحجري والحديد الصلب (6 دول).
(2) العام 1957م تمَّ توقيع معاهدة روما وإنشاء السوق المشتركة.
(3) العام 1973م تمَّ توسيع المجموعة الأوربيَّة لتشمل 9 دول، والارتقاء بالسياسات العامة.
(4) العام 1979م تمَّ قيام أول انتخابات مباشرة للبرلمان الأوربي.
(5) العام 1981م تمَّ التوسع في المجموعة لتشمل بعض الدول في البحر الأبيض المتوسط.
(6) العام 1993م تمَّ اكتمال السوق المشتركة.
(7) العام 1993م تمَّ التوقيع على معاهدة ماستريخت لإنشاء الاتحاد الأوربي.
(8) العام 1995م تمَّ التوسُّع في الاتحاد الأوربي ليشمل 15 دولة.
(9) العام 2002م تمَّ اعتماد عملة "اليرو" الورقيَّة والحديديَّة.
(10) العام 2004م تمَّ التحاق 10 دول أخرى بالاتحاد الأوربي.
لقد شهد تأريخ الاتحاد الأوربي في خلال ال15 عاماً سلسلة من التغييرات في المعاهدات الأوربيَّة، وكانت كل معاهدة يتم إعدادها بواسطة مؤتمر الهيئة الحكوميَّة، وفي غضون شهور يجتمع ممثلو الحكومات الأعضاء في الاتحاد لكي يتداولون أمرها. وكذلك تشترك مفوضيَّة الاتحاد الأوربي في أعمال مؤتمر الهيئة الحكوميَّة، كما يشارك البرلمان الأوربي فيه أيضاً. بناءً على هذا المنهاج تمَّ التوقيع على القانون الأوربي الموحَّد (The Single European Act) في شباط (فبراير) 1986م، والذي منح الاتحاد صلاحيَّات إنشاء السوق المشتركة وإقرار حريَّة حركة المواطنين في الدول الأعضاء، وانسياب السلع والخدمات ورأس المال، بحيث يستفيد منها القطاع التجاري ومواطنو أوربا. وبعد ستة أعوام – أي العام 1992م – تمَّ التوقيع على معاهدة ماستريخت ليتسنَّى للاتحاد الانطلاق إلى الأمام في المجالات الآتية: تطبيق العملة الموحَّدة، والسياسة الخارجيَّة المشتركة، والتعاون في مجال العدالة والشؤون الداخليَّة. إذ كا من دواعي معاهدة ماستريخت أن يمسي التعاون التنموي – أو التعاون في مجال التنمية – جزءً رائساً من سياسة الاتحاد الأوربي المشتركة في الشؤون الخارجيَّة والأمنيَّة. وحسبما جاء في المادة 130 في معاهدة ماستريخت استطاعت الدول الأعضاء أن تعلن عن أهدافها المشتركة في الآتي:(5)
(1) التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة المستدامة في الدول النامية، وبخاصة في الدول الأكثر فقراً.
(2) التكامل الناعم في الدول النامية، والتدريجي في الاقتصاد العالمي.
(3) الحملة ضد الفقر في الدول النامية.
(4) مراقبة حقوق الإنسان والحريَّات الأساسيَّة، وتنمية وتوطيد الديمقراطيَّة وحكم القانون.
مهما يكن من شيء، فبعد ماستريخت أخذ التطوُّر السياسي للاتحاد الأوربي يفقد التدافع. وكان المؤتمران الحكوميَّان اللذان قادا إلى توقيع معاهدتي أمستردام (1997م) ونيس (2001م) – برغم من نجاحهما المتواضع – إلا أنَّهما اتَّصفا بضعف القرار السياسي، وشابته أسئلة مؤسسيَّة كثيرة. وبرغم من أهميَّة هذه التساؤلات إلا أنَّها لم تجد الأجوبة الشافية؛ وقد جاءت هذه الأسئلة عشيَّة توسيع الاتحاد. فمن هذه الأسئلة: كيف يتم تأكيد الإدارة السلسلة في الاتحاد المكوَّن من 25 دولة أو أكثر؟ وكيف نضمن شرعيَّة المؤسسات التي تمثِّل الدول الأعضاء وشعوب أوربا.(6)
الاتحاد الأوربي ونافذة على إفريقيا
على أيٍّ، فحينما كان الآباء المؤسِّسون لمعاهدة روما يتفاوضون حول المعاهدة وضعوا فقرة في المعاهدة حول العلاقات مع إفريقيا. هكذا نجد أنَّ الاتحاد الأوربي – منذ نشأته الأولى – قد أظهر التزاماً لمستعمراتها السابقة ودول ما وراء البحار، وتحديداً الدول الناطقة بالفرنسيَّة، ولكن بعد انضمام المملكة المتَّحدة إلى الاتحاد العام 1973م، تمَّت إعادة تعريف الشراكة في اتفاقيَّة لومي مع مجموعة الأقطار في إفريقيا والبحر الكاريبي ومنطقة المحيط الباسفيكي العام 1975م. وقد اقترحت فرنسا بأنَّه ينبغي وضع نص في المعاهدة يحث على اتفاقيَّة المزاملة مع دول وأراضي ما وراء البحار (An Association Agreement with Overseas Countries and Territories)، وبخاصة تلك الدول التي كان لها ارتباط استعماري بفرنسا. برغم من إضافة النص في الفقرة الرابعة من المعاهدة والتوقيع عليها بواسطة ست دول أوربيَّة، إلا أنَّ الفكرة ظلَّت حبراً على ورق إلى حين إنشاء صندوق التنمية الأوربي، بواسطة المجموعة الأوربيَّة كجهة ماليَّة لدعم مشروعات هذه الاتفاقيَّة، حيث أصبح الصندوق فيما بعد العمود الفقاري للسياسة الإغاثيَّة الأوربيَّة لإفريقيا.
وحين شرعت الحركات التحرُّريَّة في الدول الإفريقيَّة في النِّضال في سبيل الاستقلال في الستينيَّات أخذت المجموعة الأوربيَّة في التفكير حول الاتفاقيَّة مع مجموعة أقطار في إفريقيا والبحر الكاريبي ومنطقة المحيط الباسفيكي، والتي كانت تشمل 19 دولة (18 منها مستعمرات فرنسيَّة سابقة والصومال).
إذ أعطى الاستقلال الخيار لهذه الدول إن رغبت في البقاء في الاتفاقيَّة، أو الخروج عنها، وكانت غينيا-كوناكري هي الدولة الوحيدة التي قرَّرت الابتعاد عنها، لكنها عادت إلى المجموعة العام 1975م لتوقِّع على معاهدة لومي الأولى (1st Lomé Convention). ففي العام 1963م بدأت المفاوضات بين 18 دولة إفريقيَّة وست دول أوربيَّة، وتوصَّل المفاوضون إلى التوقيع على معاهدة ياوندي (The Yaoundé Convention) بين المجموعة الأوربيَّة من جانب، ومجموعة الدول الإفريقيَّة ومدغشقر من جانب آخر لفترة خمس سنوات (1964-1969م). وكان الغرض الأساس من هذه المعاهدة هو التجارة – أي إنشاء مناطق تجارة حرَّة، بحيث تنال المنتجات الأوربيَّة معاملة خاصة في أسواق المجموعة الإفريقيَّة والعكس هو الصحيح. وقد تمتَّعت هذه الاتفاقيَّة بحزمة مساعدات ماليَّة من صندوق التنميَّة الأوربي. بعد التوقيع على معاهدة ياوندي الأولى أخذت الدول الناطقة بالإنكليزيَّة والمستقلة حديثاً تجهر بكراهيتها ضد المعاهدة، لأنَّها ترعى فقط العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، وكذلك ظهر الاستياء من قبل ألمانيا وهولندا اللتان لم تتحمَّسا تجاه السياسة التنمويَّة – منذ التوقيع على معاهدة روما – في مجالات أوسع. وفي سبيل تطبيق التغييرات المطلوبة تمَّ التوقيع على اتفاق ثنائي مع نيجيريا العام 1969م، لكن لم يتم تنفيذ هذا الاتفاق نسبة للحرب الأهليَّة في نيجيريا، المعروفة باسم حرب البيافرا. ثم تمَّ التوقيع على اتفاقيَّة أروشا التجاريَّة العام 1969م بين المجموعة الأوربيَّة من جهة، وثلاث دول شرق-إفريقيَّة هي كينيا وأوغندا وتنزانيا من جهة أخرى. ومن ثمَّ بدأ العمل بالاتفاقيَّة في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1971م، في نفس الوقت الذي فيه بدأ العمل ب"معاهدة ياوندي الثانية" (the 2nd Yaoundé Convention) الموقعة العام 1969م لنفس الفترة الزمنيَّة – أي الفترة ما بين (1971-1976م). وبناءً على هذه الاتفاقيَّة، التحقت هذه الدول الثلاث بمعاهدة ياوندي، ومن ثمَّ التحقت موريشيوس بمعاهدة ياوندي الثانيّة العام 1972م.
على أيَّة حال، ففي مستهل السبعينيَّات من القرن الميلادي المنقضي كانت السياسة التنمويَّة الأوربيَّة في مفترق الطرق، وكانت هناك ثمة أسئلة مطروحة – فعلى سبيل المثال – أي اتجاه يمكن أن تتجه إليه هذه السياسات؟ وشدَّدت أوربا على التعاون مع إفريقيا، مع الانفتاح على مناطق أخرى. وهنا صدرت "مذكرة المفوضيَّة الأوربيَّة" في 4 نيسان (أبريل) 1973م، ووضعت الخيارات التالية:
(1) تعريف وسائل التعاون الأوربي-الإفريقي، مع الإبقاء على الأجزاء المكوِّنة لمعاهدة ياوندي – مثل الانفتاح على السوق الأوربيَّة، وضمان سريان الإغاثة إلى الدول الإفريقيَّة.
(2) إيجاد آليَّة لحماية الدول النامية الشركاء ضد الهبوط المفاجئ في أسعار السلع.
هذه المذكرة قد أعطت المفوضيَّة – ولأول مرة – التفويض في التفاوض حول توقيع اتفاقيات التعاون بين المجموعة الأوربيَّة والدول الإفريقيَّة.
وفي كانون الثاني (يناير) 1973م انضمَّت المملكة المتحدة وجمهوريَّة أيرلندا والدينمارك إلى المجموعة الأوربيَّة. إزاء على هذا الانضمام دعت الضرورة الملجأة إلى إعادة النظر في مسائل كثيرة، منها أنَّ البروتوكولات الخاصة ب"اتفاقيَّة المزاملة" مع إفريقيا فتحت أبوابها لتوسيع السياسة التنمويَّة الأوربيَّة لكي تضم مجموعة دول "الكومونويلث"، وهي دول ليست موجودة في إفريقيا فحسب، بل في البحر الكاريبي والمحيط الهادي.
وفي آب (أغسطس) 1973م تمَّت دعوة 21 دولة من دول الكومونويلث للتفاوض حول توقيع اتفاقيَّة مزاملة أو تجارة مع المجموعة الأوربيَّة، والتي بدورها يمكن أن تحل محل معاهدة ياوندي. وقد شهدت المفاوضات كل الدول المستقلة في إفريقيا جنوب الصحراء – باستثناء جمهوريَّة جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى الدول التي لم تكن أعضاءً في منظمة الكومونويلث – مثل إثيوبيا والسُّودان وليبيريا وغينيا الاستوائيَّة وغينيا بيساو (45 دولة).
إذن، ما هو الشيء الفريد في هذه المفاوضات التي تمَّت بين المجموعة الأوربيَّة من جهة، والدول الإفريقيَّة من جهة أخرى؟ حتى وقت قريب كانت هذه الدول المستقلة حديثاً معتادة على اجتماعات الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقيَّة (الاتحاد الإفريقي حاليَّاً)، والتي تشمل الأجندة دوماً موضوعات ذات طابع سياسي. أما الآن فعليها أن توافق على قضايا لها صلة وثيقة بحقائق الحياة اليوميَّة وفوائد الاتفاق مع المجموعة الاقتصاديَّة الأوربيَّة (The European Economic Community – EEC). إذ لم يكن من الأمر الغريب، إذن، أن تتباين الرؤى بين الناطقين بالفرنسيَّة من ناحية، والناطقين بالإنكليزيَّة من ناحية أخرى، وبين الدول الكبيرة من جانب، والدول الصغيرة من جانب آخر، وكذلك بين الأقاليم الجغرافيَّة المختلفة. فعلى سبيل المثال شكَّل حجم نيجيريا، التي اعتُبرت مصدراً للنفط في المستقل، هاجساً مرعباً لبعض الدول. مهما يكن من الأمر، فقد بدأت هذه المفاوضات في تموز (يوليو) 1973م، في الوقت الذي فيه تمَّ تحديد موعد نهاية معاهدة ياوندي الثانية – أي بنهاية كانون الثاني (يناير) 1975م.