في الغيرة على رسول الله صلي الله عليه وسلم   

 


 

 

جاءت المساءة للرسول صلى الله عليه وسلم هذه المرة من الشرق، الهند، لا الغرب. فأسَفّ نوبور شارما، المتحدث الرسمي باسم حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم، في حديثه عن زواج النبي من السيدة عائشة إسفافاً أطلق روتين احتجاج المسلمين المعتاد عل مثل هذه الإساءة مما كنا نطلقه على الغرب. فتستدعي الدولة المسلمة سفير البلد المسيْ تطلب الاعتذار، وتلوح بقطع العلاقات، وتتداعى الناس لمقاطعة منتجات ذلك البلد. واحتشد الشارع الإسلامي كما التوقع بالمسيرات في آسيا خاصة غيرة على النبي وتضامناً مع مسلمي الهند الذين ثاروا على خبيثة شارما وتضرجوا بالشهداء.

وكنت دعوت في طور من أطوار مواجهتنا كمسلمين لإساءة الغرب للنبي أن نعزز هذا الروتين بوعي ينفذ إلى مغزى هذا الغل في الغرب على النبي وحجته في ارتكابه. وأكبر حججهم له هي عقيدتهم في حرية التعبير تطال من تطال بغض النظر. ويخفى الغربيون هنا أن حرية التعبير لا تزال مبدأ خلافياً فيهم. فرأينا مثلاً في 1999 كيف هدد رودي جولياني عمدة نيويورك بالتوقف عن تمويل متحف بروكلين (65 مليون دولار) إذا لم تُزل من معرض له لوحة "مريم العذراء تقدس سرها" التي استخدم الرسام فيها روث البقر وقصاصات من مجلات الجنس. ووصف العمدة اللوحة بأنها "شتم" للكاثوليك والمسيحية عامة. وهذا غيض من فيض.

ومالنا نذهب بعيداً والخبر الطاغي في الحرب الثقافية الأمريكية على أيامنا هذه هو خبر تربص القوى المحافظة بالكتب عن الجنس والعنصرية والجندر ومصادرتها من رفوف مكتبات المدارس. فجرت بين يونيو إلى نوفمبر 2021 مئة وخمسمائة وخمسون حادثة مصادرة من هذا النوع في تكساس. فلو عززنا احتجاجنا بمثل هذا الطعن على ما يعرضه الغرب علينا كقدسيات لرأينا أن حرية التعبير، على جمالها الرهيب، ما تزال مشروعاً لم يكتمل في الغرب أي "work in progress".

ليس بوسع الهند أن تحاجج دون إساءتها للنبي بحرية التعبير كالغرب. فمطلبها من المسلمين، وقد احتلت الوطنية الهندوسية سدة الدولة منذ 2014، أن يَكْفروا بدينهم ليتصالحوا مع طرائق أجدادهم الهندوسية التاريخية قبل إسلامهم. وليس أدل على ذلك بصورة قاطعة من هدم الهندوس لمسجد بابري في 1992 لأنه قام على حرم للإله الهندوسي راما. ونال المسلمون الأذى من شرعة الهندوس في البقر. فمنعوا عليهم ذبحه كفاحاً بغير تفويض من دستورهم. وأطلق الحزب الحاكم منذ 2015 يد المطوعين، شرطة حماية الأبقار، لملاحقة المسلمين الذين يمتهنون صناعة اللحم وإيذائهم بغير مساءلة. وعقيدة الهندوسية أنه بوسع المسلمين الاستمرار في العيش في الهند متى تركوا أكل لحم البقر. ثم جاء قانون المواطنة الهندي في 2016 ليمنح الجنسية الهندية للاجئين في الهند فارين بسبب الاضطهاد الديني من باكستان وأفغانستان وبنغلاديش. وبمقتضاه تمتع بالجنسية الأفراد من سائر ديانات تلك المنطقة عدا المسلمين. ومن رأي ناريندار مودي، رئيس وزراء الهند، أن المسلمين اقتطعوا أرض الهند في باكستان وبنغلاديش وعاشوا فيها بحقوق كاملة. ومع ذلك انطووا على خطة مبيته لأخذ المزيد من الهند. فالمسلمون في الهند في نظره طابور خامس. وبالنتيجة اقتصر حظ المسلمين (200 مليون أي 15% من السكان) على 2% في قوات الهند المسلحة للخوف من خيانتهم الوطن لصالح الباكستان.

حجة الغرب في الإساءة للنبي هي عزتهم بكسبهم الحضاري الذي قصرنا دونه. فصار مبدأ حرية التعبير بالنتيجة معياراً للإحسان في الغرب، في قول محمد أركون، يقيس به حظه من التحضر من حظنا من التسفل. من الجهة الثانية تنضح مقاصد الوطنية الهندوسية ب"أندلسية" سافرة في عقيدتها أن المسلمين زائدة ديمغرافية وثقافية. فإن أرادوا البقاء في الهند كان عليهم أن يرتدوا عن دينهم. وبالعدم خضعوا لاضطهاد سيذهب بريحهم عاجلاً أم آجلاً. وهي أندلسية رأينا شرورها على الروهنغا في مانيمار على يد البوذية، وعلى الأيغور في الصين على يد الهان، القومية الغالبة، الملتبسة بالإيدلوجية الشيوعية. ومن رأي أكاديمي استمعت له قبل سنوات أن ما تقوم به هذه القوميات والأيدولوجيات في آسيا حيال المسلمين بمثابة تصحيح للتاريخ، ورد للإسلام على أعقابه كضيف ثقيل على المنطقة.

حال دون تقحمنا الغرب في مزاعمه عن قدسية حرية التعبير واكتمال أشراطها عنده أن كثيرين بين صفوتنا اشترى هذه المزاعم صاغراً. في حين يحول دون وعينا بأندلسية المشروع الهندوسي في الهند أن كثيرنا لم يُعد النظر في الديمقراطية الهندية المميزة منذ صعود حزب بهاراتيا جاناتا هندوسي الهوى في 2014 إلى الحكم. ومن هؤلاء الصفوة السودانية التي يؤرقها عن الهند سؤال قارب الهوس أحياناً: لماذا بقيت الهند على الديمقراطية في حين تفلتت منا وركبتنا الديكتاتورية؟ وهو سؤال إجابته منه وفيه ولصالح الهند. وغير خاف أننا لم نغادر من ديمقراطية الهند محطة غاندي ونهرو والمؤتمر الهندي.

ومتى لم تعد الهند عندنا حالة إشكالية في الديمقراطية خفيت عنا شعواء الأغلبية البرلمانية لحزب قومي ديني على أقلية في غزارة المسلمين في الهند. وخفيت عنا في البلاد التي يغلب فيها المسلمون أن أعداداً عظيمة من المسلمين يعيشون كأقليات في بلاد أغلبيتها على دين آخر مثل الهند. وأكبر خدمة تقدمها البلاد الغالب فيها المسلمون أن تحسن إلى الأقليات فيها. فليس بوسعنا أن نطلب للأقليات المسلمة حقوقها الثقافية والسياسة في حين نحرم نحن الأقليات من غير المسلمين من هذه الحقوق في بلادنا.

أما أفدح خسائرنا إذا لم نثقف غيرتنا على النبي، واقتصرنا فيها على الاحتجاج والتظاهرة، فهي تشجيع التطرف في وسطنا. فالثقافة التي نسعى لاستصحابها في الغيرة على أفضل البشر في مثل الغرب والهند وعي بالتاريخ يلطف على المسلمين هوانهم على الناس. فقالت هوندا دياب للأسوشيتد برس في مظاهرة احتجت على إساءة سلفت للنبي أمام القنصلية الأميركية في سدني بأستراليا: "لقد سقمنا من كل أحد يتخذ حبيبنا رسول الله سخريا" (غلاف تايمز 16 سبتمبر/أيلول 2012). والطريق من هذا الهوان على النفس إلى الثأر، كيفما اتفق، قصير جداً.


IbrahimA@missouri.edu

 

آراء