التقيت مرة مع بعض الاصدقاء بأستاذ العلوم السياسية الامريكي بيتر بيتشولد الذي ساعد في تدريب العديد من الديبلوماسيين الامريكيين وأسهم في لفت أنظار بعضهم الى السودان الذي يحتفظ له بمودة خاصة. كان اللقاء عقب حرب الخليج الثانية وأخراج قوات صدام حسين من الكويت وبروز عبارات النظام العالمي الجديد ونهاية التاريخ في التعبير عن دخول العالم مرحلة مختلفة. تساءل بعض من حضروا اللقاء عما يمكن أن تفعله واشنطون ومعاونة التجمع الوطني الديمقراطي للتخلص من نظام الانقاذ الذي أتخذ موقفا مناوئا وضعه في خانة دول الضد، بل وضد مصالح شعبه.
رد بتشولد بالقول انه ينصح الا يحمل الناس الولايات المتحدة فوق قدراتها أوما تريده فعلا وتوسع في هذه الفكرة عبر ثلاث نقاط: أولا هناك نظام مناويء للولايات المتحدة في كوبا وبطريقة تمس أمنها القومي مباشرة لانه يقع على بعد 90 ميلا من شواطىها ولم تتمكن عبر مختلف الادارات والجهود التي بذلتها على مدى 40 عاما بما في ذلك الغزو المباشر من تغيير ذلك النظام الذي يقوده كاسترو. ثانيا وبسبب طبيعة النظام الامريكي وتوزيع السلطة بين الاجهزة التنفيذية والتشريعية وحدوث انتخابات نصفية كل عامين بطريقة تصيب الدولة بالشلل، فأن أي أدارة أمريكية لا تستطيع التركيز على أكثر من خمس أو ست قضايا في وقت واحد ولهذا تلعب الاتصالات المؤسسية ومجموعات الضغط الدور الرئيسي في الدفع بأي قضية لتصل الى دائرة الاهتمام العام وابقاءها في تلك الدائرة لاطول وقت ممكن، والسودان ليس في وارد أن يجد طريقه لآن يدخل دائرة الاهتمام الامريكي المباشر. وثالثا وهذا هو الاهم ان يضع السودانيون في حسبانهم القيام بواجبهم المنزلي بأفضل ما يمكن وتحديد ما يمكنهم أنجازه لوحدهم وهو ما يشجع الاخرين على المعاونة. وضرب مثلا بتوسعة طريق مدني وأن يقوم السودان بتنفيذ 50 كيلومترا ويطلب العون لتنفيذ بقية الطريق.
في الاسبوع الماضي تم الاعلان عن التوصل الى اتفاق لتسوية قانونية مع أسر ضحايا المدمرة كول (ويتردد أن الامريكان اتصلوا بالخليجيين للمساعدة في دفع التعويضات) وأهم ما فيه انه يقطع شوطا مهما ويهيء الارضية ويضع سابقة لتسوية أخرى مع أسر ضحايا تفجير السفارتين الامريكيتين في نيروبي ودار السلام الذي ينتظر جلسة محكمة أواخر هذا الشهر مما سيؤدي الى قفل الباب أمام أي مطالبات مستقبلية بخصوص أي تصرفات ارهابية يتهم بها السودان، كما ان التعامل مع هذا الملف سيسهم في التسريع بعملية أزالة أسم السودان من قائمة الدول الراعية للأرهاب كونه يتعلق بقضية داخلية أمريكية. وهو بالاضافة الى شرط وقف كل أشكال التعاون مع كورية الشمالية ومواصلة العمل في مكافحة الارهاب يلبي الانشغالات الامريكية، بينما بقية الشروط الاربعة الاخرى وهي موضوعات حقوق الانسان والحريات بصورة عامة، فتح مسارات جديدة للعمل الانساني، الحريات الدينية والعمل على تحقيق السلام الشامل قضايا تخص الشأن السوداني. والثلاثة الاولى تمت تلبيتها بصورة مرضية. وبقي فقط موضوع السلام الذي يعاني من التعثر لآسباب تتعلق بغياب الرؤية الحكومية الموحدة وحسابات الحركات المسلحة والمتضاربة في أحيان كثيرة.
على ان موضوع السلام الذي يشمل دارفور أيضا يمكن أن يصبح عقبة وضعا في الاعتبار ان قرار الازالة يعتمد في نهاية الامر على مراجعة من قبل الادارة تستمر ستة أشهر في الغالب مثلما حدث مع موضوع المسارات التي تم بموجبها تخفيف الحظر ثم يرفع الامر الى الكونجرس الذي سينظر فيه لفترة 45 يوما واذا لم يتم اعتراض يصدر القرار. وهنا مربط الفرس لأن موضوع سلام دارفور تم ربطه بهذه القضية هذا الى جانب بروز عامل جديد لم يكن من ضمن الشروط الستة لكن مع رمال السياسة المتحركة ربما يلقي بظلاله على عملية الازالة. والاشارة الى العلاقات مع اسرائيل. ففي الكونجرس ممارسات يتم بموجبها عرقلة بعض قرارات الادارة للضغط عليها لتقدم تنازلا في قضية ما. فمثلا لم تتمكن ادارة بوش الابن من تعيين جون بولتون مندوبا لها في الامم المتحدة بسبب اعتراضات وتلكؤ النواب وأضطر بوش لانتظار فترة عطلة الكونجرس ليتمكن من تعيينه مستفيدا من سلطاته التنفيذية.
وفي الكونجرس حيث لاسرائيل نفوذ قوي يمكن لآي مجموعة من الاعضاء عرقلة الامر مالم تتم ترتيبات مرضية فيما يتعلق بعلاقات الخرطوم وتل أبيب. ويروى ان الرئيس السابق باراك أوباما قال أبان ازمته مع اسرئيل بخصوص الاتفاق النووي الايراني انه يمكن لآي رئيس أمريكي أن يخاطب الكنيسيت في تل أبيب وينتقد أسرائيل، لكنه لا يستطيع القيام بخطوة مماثلة أمام الكونجرس الامريكي في واشنطون. على ان ادارة ترمب الحالية وفي اطار تسويقها لصفقة القرن لحسم الصراع الاسرائيلي الفلسطيني قد لا تحتاج الى من يحثها لتضع موضوع العلاقات السودانية الاسرائيلية على طاولة رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للأرهاب بصورة أو أخرى.
المهم في الاتفاق مع أسر ضحايا المدمرة كول انه يعيد تنشيط العمل في العلاقات الثنائية بين البلدين، وهو بدأت مرحلته الثانية بعد الرفع الجزئي للعقوبات الاقتصادية حيث أتفق على اجراءات معينة وجداول زمنية بدأ العمل فيها في الثلاثين من أكتوبر 2018 واذا استكملت بنجاح في فترة ستة أشهر فأن الادارة ستوصي الكونجرس بازالة أسم السودان وتم خلال هذه الفترة وعبر خمسة اجتماعات أخرها في فبراير من العام الماضي الاتفاق على ثلاث نقاط أساسية ذات صلة بتسويات القضايا أمام المحاكم وهي الا يعد قبول السودان بالتسوية بمثابة قبول للمسؤولية الجنائية، وأن تكون التسوية نهائية و لاترفع بعدها أي قضايا، وهو ما أشار اليه بيان وزارة العدل. بقيت النقطة الثالثة وهي أن تكون الحكومة الامريكية هي الضامن للأتفاق وهذه الخطوة في انتظار تسوية مع أسر ضحايا التفجير في السفارتين، لكن اندلاع المظاهرات ضد نظام الانقاذ وتصاعدها دفع بالحكومة الامريكية الى تعليق العمل في هذه المرحلة ويمثل ابرام التسوية عودة الى العمل في هذا المسار كما انه سيفتح الباب لاعادة العلاقات الثنائية بين البلدين الى وضعها الطبيعي اذ تضخم الانشغال بالشأن السوداني في واشنطون خلال العقود الماضية بسبب النشاط المكثف لجماعات الضغط المختلفة خاصة اللوبي المسيحي والنواب السود في الكونجرس وجماعات حقوق الانسان، ولكل واحدة جمهورها الانتخابي، الامر الذي جعل السودان قضية انتخابية داخلية في أحيان كثيرة رغم انه لا يمثل أولوية سياسية أو أقتصادية أو استراتيجية لواشنطون. وعزز انفصال الجنوب دولة مستقلة وغياب معظم المكون الافريقي والمسيحي من المشهد السوداني من الاتجاه الى أعادة النظر في العلاقات مع السودان وتحجيم الانشغال بها.
أدارة ترمب من جانبها أعطت أول اشارة بهذا المعنى عندما أعادت تعيين دونالد بووث مبعوثا خاصا للسودان، لكن بدل أن يكون مبعوثا رئاسيا كما هي العادة جاء تعيينه من قبل وزير الخارجية مايك بومبيو وأصبح مطلوبا منه أن يقدم تقاريره الى تيبور ناجي مساعد الوزير للشؤون الافريقية. وجاءت الاشارة الثانية من تجنب بومبيو لقاء عبدالله حمدوك في سبتمبر الماضي رغم وجودهما معا في نيويورك لحضور أجتماعات الامم المتحدة.
وهذا التراجع ليس سيئا بالمطلق ويحتاج الى استغلاله من جانب السودان وملء الفضاء الذي كانت تحتله مجموعات الضغط وبصورة عدائية خاصة وليست هناك سياسة معتمدة تجاه السودان منذ تلك التي صاغتها سامنتا باورز ابان كانت تعمل في مجلس الامن القومي على أيام أوباما في العام 2009 وكان تركيزها على دارفور. وهذا الوضع يحتاج أساسا الى ترتيبات من الخرطوم والاستفادة من وأستغلال حالة التعاطف مع الثورة السودانية من بعض مراكز الابحاث والاعلاميين والسياسيين الامريكيين للبدء في بناء لوبي مساند للسودان وتتمدد جذوره في ارضية شعبية ومؤسسية من الوجود السوداني في الولايات المتحدة واحداث نقلة في علاقات البلدين تقوم على المصالح المشتركة وبعيدا عن أولويات الناشطين والحمولات الايدولوجية.