في جنوب دارفور وكوستي: معارك في غير معترك!
بسم الله الرحمن الرحيم
نهنيء البشرية جمعاء بمولد خير البشر المصطفى (ص) الذي تخير له ربه (في جبين الكون الأمهات والآباء) و أرسله رحمة للعالمين وللناس كافة (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين)الأنبياء آية 107 وفي هذا دلالة واضحة على أن النهج المصطفوي قد بعث ليرسم لنا خارطة طريق للتعامل المتسامح بين كل الناس على أسس الإحترام المتبادل و المصالح المشتركة ،و إبطالا لنهج الجبر وقهر الناس على إتباع طريق معين ولو كان نهجا أنزلته السماء ،وغايته خير الناس:(فذكر انما انت مذكر،لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ)الغاشية آية 21و22 (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..)الكهف آية 29 وحسابه على الله. في رسالة واضحة ومبينة لمن يدعون اتباع أثر هذا النبي وما أتى به من خير عميم بينما لا يفهمون أولويات هذا الإتباع ومطلوباته كما لا يفهمون أن الله لو أراد الناس أمة واحدة لجعلهم كذلك، ولم يحتج لمثل هؤلاء(الحشويون)كما نعتهم حكيم الأمة في خطبة الإنذار وإنصاف النساء في جمعة 27 يناير 2012 ، ليأتوا بما لم تستطعه الأوائل: فشرهم أعم من شرور الأعداء المجاهرين، وفتنتهم أشد من القتل وضررهم أعظم للدين الذي يدعون النطق باسمه وحمايته..خاصة ونحن في زمان ضعف فيه المسلمون فليس لنا من سبل الدعوة إلا القدوة الحسنى والأخلاق العالية والأفق المفتوح نماذج تتبع ، فإن ضيقناها أوضقنا بها لكنا أكثر هدما لعرى الإسلام من الكفار، وأضر له من عتاة أعدائه. كما ندعو هؤلاء المضيقون الضائقون قبل غيرهم إلى تدبر أقوال الحكماء مثل ما قاله الأمين العام للإتحاد العالمي لعلماء المسلمين علي محي الدين القره داغي، الذي يزور السودان هذه الأيام:( ان اليهود والنصارى عملوا بسنن الله أكثر من المسلمين ما أدى إلى تفوق الغرب علي الدول الإسلامية في مجالات الاقتصاد والتعمير والتعليم والحكم. موضحا أن سنن الله ليست قاصرة على العبادات، لأنها تختص أيضا بالتعمير والاقتصاد والتنمية وأمور الدولة).
ووضع أمين الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين شروطا للخروج مما سماه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالدول الإسلامية، أهمها ضرورة احترام الوقت، وتقديس الإبداع، والرجوع إلى الله، واختيار الحاكم الذي يصلح لحمل الأمانة، قائلا «ليس ضروريا صلاح العبادة».
ومثل تلك النصائح الذهبية خاصة اختيار الحاكم الذي يصلح لحمل الأمانة هي أخص ما نحتاجه في سودان الألفية الثالثة اسما لكنه (للأسف) دون مؤهلات أو مواصفات تجعله الأشبه بزمانه.
ونقول تصديقا لهذا النصح الأحق بالإتباع إن افتقادنا للحاكم الذي يصلح لحمل الأمانة أو بالأحرى افتقادنا المنهج الصالح الذي نحتكم إليه هو أس مشاكلنا وسبب جميع بلاوينا وكوارثنا .ولأننا نفتقد ذلك النوع من الحكام وذلك المنهج القويم - في سودان اليوم تمر بنا أحداث تستعصي على الفهم لخروجها جملة عن أحكام المنطق السليم بحيث إن رغب مراقب إخضاع ما يدور في ساحاته لأحكام المنطق ومستوجباته لأعيته الحيلة واحتار دليله! والأمثلة على تلكم المفارقة والمجافاة للمنطق وحساباته كثيرة ومتواترة ولكننا سنكتفي هنا بمثالين يدللان على صدق ما نزعم:
1- أحداث جنوب دارفور.
2- أحداث كوستي.
جنوب دارفور:
في العاشر من يناير المنصرم كان الرئيس السوداني، عمر البشير، قد أصدر ثلاثة مراسيم جمهورية تم بموجبها تقسيم دارفور إلى خمس ولايات كما أسلفنا في مقال سابق وقد أعفى بموجبها د.عبدالحميد موسى كاشا من موقعه والياً لجنوب دارفور والشرتاي جعفر عبدالحكم من موقعه والياً لولاية غرب دارفور. وأعاد تعيين كاشا والياً لشرق دارفور، ويوسف تبن والياً لوسط دارفور، وحماد إسماعيل حماد والياً لجنوب دارفور، وحيدر قالو كوما والياً لغرب دارفور إلا أن كاشا رفض تولي منصبه الجديد في حين أبقى على كبر واليا على شمال دارفور .
وقد حملت لنا الأخبار الواردة من جنوب دارفور الاسبوع الماضي أنباء عن تظاهرات في مدينة نيالا اندلعت في 24 يناير 2012 تأييداً للحاكم المقال عبدالحميد كاشا ومناهضة للحاكم الجديد حماد إسماعيل، ما أدى الى مقتل ستة مواطنين وإصابة العشرات وحرق مقرات حكومية وتدخل الجيش لفرض الأمن واجلاء الحاكم الجديد للولاية حماد اسماعيل الذي يرفضه المحتجون من مقر حكومته، فيما اعتقلت السلطات نحو 25 من قيادات وعناصر الحزب الحاكم.من بينهم وزير الصحة والمحافظ ونائب رئيس الحزب ومجموعة أخرى من القيادات الوسيطة.
وقد تدخلت الشرطة مستخدمة الغاز المسيل للدموع بكثافة ما ادى الى حالات اغماء وسط المواطنين، وكشف الحاكم الجديد عن ضبط السلطات أحد القيادات متلبساً بتزويد المتظاهرين أسلحة بيضاء وحجارة. (الصحافة)
ما ورد في هذا الخبر يعني أن الرئيس قام بملء إرادته بعزل واليه (المنتخب) والذي يجد قبولا أو بعض قبول من أهل ولايته في مقابل تعيين آخر استقبلته جماهير الولاية برفض جاهر.كما تدل تفاصيل الخبر المتبقية على صدق تحليل أحزاب المعارضة بأن تلك الإحتجاجات أتت تعبيرا عن صراعات بين أجنحة المؤتمر الوطني وقد صادفت أحوالا سيئة تجاوب معها الآخرون بالتظاهرات.
وما أتى في صدر تلك الخلاصة هو ما يجعلنا أمام أحداث سريالية و وقائع بلا منطق في جنوب دارفور :إذ كيف يقوم عاقل بإقصاء والٍ يحظى بقبول نسبي (في ظل رفض ظاهر ومستتر لدولة الإنقاذ حتى من بنيها)وهو لم يتمرد على دولته فنجاحه يعد نجاحا لها وفي منطقة مثل دارفور تشهد عدم استقرار وحرب راح ضحيتها 10 ألف حسب تقديرات الحكومة و 300 ألف شخص على الأقل ونزوح 1,8 مليون آخرين منذ بداية الحرب في دارفور في 2003، كما تفيد تقديرات الأمم المتحدة. والمنطقة محل نشاط حركات مسلحة تحارب الدولة.فدارفور من المناطق التي يجب أن تحرص الحكومة على تشجيع أي بادرة قبول من أهلها لمن يمثل الحكومة ويعمل على تطمين أهلها أوشراء قلوبهم خاصة أن ذلك يتم تحت مظلة دولة الإنقاذ.
لكن الأشياء في دولة المؤتمر الوطني لا تجري على سنن العقل والمنطق إنما تقوم على الغرض والغرض مرض كما يقولون !
كنا قد كشفنا في مقال سابق عن دارفور أن دارفور يتم التعامل معها بعدائية مفرطة فالغرض هو معاقبتها على عدم تأييدها للحركة الاسلامية الذي ظهر منذ انتخابات 86 رغم البذل والعطاء وفي دارفور تم استبعاد المشروع الحضاري القائم على هدم السودان القديم لاستزراع قيم المشروع الحضاري، واستبدل ذلك بسياسة : (فرق تسد) التي ابتدعها الانجليز ففاقهم فيها سادة المؤتمر الوطني بلا منازع. وقد اتضح ذلك النهج الإنقاذي المدمر منذ وقت مبكر :منذ تمرد داؤود بولاد الإسلامي المنشق احتجاجا على تهميش دارفور المتعمد حيث تم توظيف العامل الإثني ضد حركته وتم تجنيد الجنجويد وهم من العناصر العربية من المنطقة ومن الدول المجاورة مثل تشاد ،حتى قضي عليها ولكن لأن مظالم دارفور ظلت دون علاج فقد أنبت قتل بولاد ألف بولاد آخر بينما ظلت العقلية التي تدير الأمر في دولة الإنقاذ تعمل بذات النظرة القاصرة مما أدى إلى حركات احتجاجية في دارفور بعدد شعر الرأس.
و تشريح مشكلة دارفور على طاولة البحث يظهر أن مشاكل دارفور المحدودة قد تم نقلها بالكامل من محطة المحلية إلى التعقيد والعالمية بصورة لا يفيد فيها إلا بعض سوء الظن سبيلا الى حسن الفطن مثل نتيجة مفادها أن دارفور تدار بعقلية باطنية تستهدف نسيجها الاجتماعي :
لأنه لو كان الأمر في دار فور خاضعا لمنطق الأشياء لما تم تقسيم دارفور: ذلك أن الإقليم الواحد أحد مطالب الحركات المسلحة وهو المطلب الذي أوصت به جهات بحثية عديدة وأحزاب مهمومة بالشأن الدارفوري من بينها حزب الأمة كما ينص أحد بنود اتفاق الدوحة على إجراء استفتاء حول البنية الإدارية لدارفور فكان الواجب انتظارها .
ولو كان الأمر في دار فور خاضعا لمنطق الأشياء لما تم تقسيم دارفور من جديد على أساس عرقي قبلي بحت، بحيث تكون لكل قبيلة كبرى ولاية خاصة بها تتحكم في إدارتها ومن هذا المنطلق الذي يكرس سياسة(فرق تسد) جاءت الولايات الجديدة لبذر مزيد من الفرقة والشتات ، فمنحت ولاية شمال دارفور التى لم تقسم إلى البرتي بقيادة الوالي عثمان يوسف كبر ومنحت ولاية جنوب دارفور للقبائل العربية الأخرى بقيادة الهبانية ومنحت ولاية وسط دارفور الوليدة للفور ومنحت ولاية غرب دارفور القديمة للمساليت وشركائهم من العرب والفور والتاما فيما منحت ولاية شرق دارفور للرزيقات.
وقد كتب الفكى سنين عبدالرحمن على الراكوبة عن حكم الإنقاذ والزغاوفوبيا وفسر تلك التقسيمات القبلية على أساس توصيل رسالة واضحة لقبيلة الزغاوة الكبيرة فى دار فور مفادها ان ما تم من إجراءات إدارية جديدة تعتبر عقابا لها وذلك لتصدرها لثورة دار فور.
ولو كان الأمر في دار فور خاضعا لمنطق الأشياء لما عزل كاشا الذي تولى ولاية جنوب دارفور بناء على نتائج 2010 المزورة وبذات الطريقة الديكورية لكن الأخبار التي رشحت بعد مظاهرات نيالا (من عدة مصادر)تؤكد أن كاشا لم يكتف بنتيجة تلك الانتخابات المزورة ليستمد منها شرعيته لكنه سعى لكسب ود الأهالي وهو ما يحسب له . خاصة أن الشعب السوداني شعب طيب لا يرفض من يتودد إليه وهو شعب متسامح يغفر غالبيته الأخطاء التي لا تستهدف شخصا بعينه (مثل تزوير الانتخابات) . و ذكر في الأنباء أن كاشا هو المسئول الوحيد الذي سمح له بأن يطأ معسكرات النازحين مثل كلمة ( يجب أن لا نغفل هنا الإشارة لتفسير الكاتبة الضليعة منى ابو زيد لظاهرة حب الجماهير لكاشا على أنها عقدة ستوكهلم- أو عشق الضحية جلادها). . ومن ناحية أخرى ذكرت بعض المصادر أن عصابات الجنجويد تطيعه و لا ترتكب خروقاتها المعهودة ..مما جعله مقارنة بالآخرين من المؤتمر الوطني الأوفر حظا من حيث التأييد الشعبي والمقدرة على ضبط الأمن.
وذكر بارود صندل أن كاشا ( نال رضا أهلنا الزغاوة الذين لا تعجبهم أي حكومة ويعتبرون أنفسهم ضحايا لكل الحكومات التي تعاقبت علي دارفور وقد انتهج نهجاً جديداً يخالف ما كان عليه معظم الولاة السابقين.... فكسب ود أهل دارفور).
لكن الأمور في دولة المؤتمر الوطني لا تجري بمنطق العقل ولا تعترف بشرعية الانتخابات ولا تلقي بالا لقبول الناس أو رفضهم: وطبعا المثال الحي الذي يجسد ذلك الركن الإنقاذي الركين هو السيد : نافع علي نافع،الذي نفى أن تكون الأحداث التي شهدتها نيالا رفضا للولاة الجدد، وقال للصحافيين (ليس كل مظاهرة فيها عدد من البشر تعبر عن رأي المواطنين بالمنطقة المعينة)!كما ذكر الوالي المعين في جنوب دارفور حماد اسماعيل أنه لن يستقيل أبدا مهما تظاهر الناس فالناس أشركوا حتى بالله وبالرسل! و ينعدم في المؤتمر الوطني الإلتفات للشورى حتى على مستوى منسوبيه من المشفقين الحادبين ،بما اتضح من حديث رئيس المؤتمر الوطني محمد عبد الرحمن في تنوير سياسي لقيادات المؤتمر الوطني بنيالا:( رغم مطالبات قواعد الحزب للمركز في جميع مستوياته بضرورة الإبقاء على كاشا بالولاية للضرورة الأمنية والسياسية إلا أن المركز لم يعط الولاية حقها).
وهكذا اتضح أن (الأيادي الخبيثة لا تريد ان تترك أهل دارفور ينعمون بالاستقرار والوحدة ، تحركت العقلية الأمنية التي تعشعش في عقول السادة في الخرطوم منذرة بأن ما يحصل في جنوب دارفور خطير علي السياسة التي تحكم دارفور في هذه المرحلة (سياسة فرق تسد) وأن الخطورة سوف تتعمق إذا انتقلت العدوى إلي الولايات الأخرى!! وأوحى لهم شيطانهم أقالة كاشا في إطار إعادة هيكلة دارفور مثلما ذكر بارود صندل .
أحداث كوستي:
(عائد عائد يا ابوعبيدة) و (باقي باقي ياعراقي)هتافات أطلقها أهل كوستي الاسبوع الماضي احتجاجا على نقل المعتمد السابق ابو عبيدة العراقي وقد اعتصم المحتجون الغاضبون بمبنى المحلية وجمعوا (3000) توقيع في مذكرة للوالي يوسف الشنبلي والمركز للمطالبة بالإبقاء على المعتمد، فيما لوحت قيادات في المؤتمر الوطني بالمحلية بانسلاخها من الحزب حال مضي المخطط الذي وصفته بـ(القذر).
وقال رئيس مجلس شورى المؤتمر الوطني بالمحلية إبراهيم بليلة أن معتمد كوستي الذي رفع قيم الحق والعدل وحارب الفساد ووجه بحملة مغرضة ممن وصفهم بالانتهازيين، وآكلي مال الشعب، وأكد أن مطالب الشعب في ولايات أخرى إقالة الولاة والمتعمدين والوزراء، واستطرد: ( نحنا مطلبنا يخلو الزول الفيهو الخير). وقال رئيس اتحاد الصناعات بالولاية عضو المكتب القيادي بالمؤتمر الوطني؛ أن تصفية الحسابات هي التي تقف وراء إعفاء المعتمد على حساب المواطن، وأضاف: (لأنو المعتمد وقف المسخرة والفساد واستباحة الأراضي في فئة ما دايراهو).
وفي نهاية تأملنا لما يجري: من تجاهل متعمد لرغبة الجماهير انفاذا لسياسة فرق تسد وتحكيما لزرع الفتن العرقية والقبلية ، والخوف من حكام –من ضمن الطاقم (المنقذ) يعملون بما يبدو مخالفا لتلك السياسة بما يهدد بقاء حكم الإنقاذ الذي يستند على تشرزم الناس وتفرقهم لكي يستمر ، أو إقصاء متنفذين يحاربون الفساد، نجد أن تلك النماذج الخيرة في مسيرة الإنقاذ من العملات النادرة مثل بيضة الديك وهي على ندرتها لا تصلح للصمود ذلك أنها تعتمد على الأفراد وأمزجتهم ولا تجد سندا أو ضابطا من النظام أو المؤسسات ولأن النظام معطوب بالكامل لا يحتمل (فرفرتها) مطلقا ولذلك انتهى يومنا في جنوب دارفور وفي كوستي بإبعاد كاشا عن جنوب دارفور وعراقي عن كوستي دون أدنى تراجع أو مراجعة أو اعتذار للناس .ولهذا السبب ننصح المتمسكين بهؤلاء الأشخاص أن واجبنا ليس الدفاع عن الشخوص خاصة مع وضوح سياسة المؤتمر الوطني التي تعمل بصورة واضحة على معاكسة من يقرر الناس أنه الأصلح لإدارة شأنهم حتى من بين صفوفها و واجبنا عوضا عن ذلك: التمسك بالمؤسسات والتظاهر من أجل إحلال النظام الذي يأتي بمن نعتقد أنه الأكثر رعاية لمصالحنا ، النظام الذي يتصف بالشفافية والمحاسبية والمشاركة وسيادة حكم القانون ولا يعتمد على مزاجية أفراده أو صلاحهم وفلاحهم ذلك أنه وضع لتشجيع الصالح ولضبط الطالح :عندها سيسود المنطق وتجري السنن على حكم العقل والمنطق وإرادة الناس .
وسلمتم
umsalama almahdi [umsalsadig@gmail.com]
///////////