في حضرة جناب معرض القاهرة الدولي للكتاب … بدرالدين حسن علي – تورنتو

 


 

 


يكتبها من تورنتو حضرة: بدرالدين حسن علي
في عام 1970 كنا ثلة من السودانيين نسكن في إحدى الشقق المفروشة في القاهرة ،  وكانت بيننا صداقة قوية  لا يستطيع أحد  أن يمسها بسوء  ،  وكان لا يهمنا من القاهرة سوى وجهها الثقافي وتحديدا المسرح - الندوات الثقافية -الأمسيات الشعرية والأفلام السينمائية  ،  و كانت زيارتنا الأولى لمعرض القاهرة الدولي للكتاب ، والذي بدأ نشاطه قبل عام واحد وذلك يعني أن 42 عاما قد مرت على هذا المعرض ، ومنذ ذلك اليوم لم أنقطع عنه إلا في حالة غيابي عن القاهرة ، وبذلك أكون من معاصري ومرتادي المعرض ، وللذين لا يعرفون أود تسريب معلومة هامة لهم ، كانت القاهرة العظيمة الرائعة تحتفل أيامها بعيدها الألفي ، وكنا وقتها شبابا - نأكل الحجر – نجوب القاهرة شمالا وجنوبا شرقا وغربا  مشيا على الأقدام ونكاد نعرف أزقتها وشوارعها وحاراتها وملاعبها وميادينها و"ناسها " ،تماما مثل أم درمان المدينة التي أعشقها وأحبها من كل قلبي .  
قرر الوزير  آنذاك ثروت عكاشة الإحتفال بالعيد ثقافيا ، فعهد للسيدة الرائعة سهير القلماوي الإشراف على إقامة أول معرض للكتاب والذي بات يقام في نهاية شهر يناير من كل عام ، وقد كنت حريصا جدا أن أكون في القاهرة في هذا التوقيت ، وتجدني متواجدا في المعرض منذ الصباح وحتى المساء ولمدة أسبوعين تقريبا ، فالمعرض يتيح لك فرصة التعرف والإطلاع وشراء الكتب وحضور الندوات الثقافية ومشاهدة العروض المسرحية والسينمائية والتشكيلية والموسيقية .
وبعد ست سنوات أي في عام 1976 بدأت دورات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي والذي حضرت معظم دوراته ، كما تعرفت شخصيا على أول رئيس له – كمال الملاخ – ثم الراحل المقيم سعدالدين وهبة ، ثم مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الذي بدأت فعالياته عام 1988 .
عندما وصلنا المعرض إجتاحتنا حالة من الجنون والهذيان والأمر ببساطة شديدة كان يحتاج لبعض المال ونحن بالكاد لدينا بعض " البرايز " جمع بريزة ، فقلت لأحد أصدقائي وكان من الموسرين  : هل لك أن تسلفني عشرة جنيه ؟ فقال لي وماذا تريد أن تفعل ؟ فقلت أريد أن أشتري كتبا ، فقال لي سلفة ممكن ولكن متى تردهم ؟ فقلت حسب التساهيل ، وبالفعل أشتريت الكتب وعدت بها إلى السودان وأهديتها جميعها لخالي الراحل المقيم الفكي عبدالرحمن بالطبع بعد أن قرأتها ، ظل صديقي يطاردني دوما لإعادة مبلغ العشرة جنيه ، وكنت في كل مرة أعتذر له وأعطيه كتابا من تلك الكتب ليقرأه بعد أن أكون قد قرأته ويقوم بدوره بإعادة الكتاب مع كلمة شكر رقيقة ، وفاجأني يوما قائلا : ألا تريد سلفة عشرة جنيه لشراء كتب من معرض الخرطوم للكتاب ؟ ضحك وضحكت !!!!

تواردت كل هذه الخواطر عندما كنت أكتب مقالا عن ثورة 25 يناير والأوضاع الراهنة في مصر ، وتألمت كثيرا أنني لم أحضرها ولم أشارك فيها  ، وتساءلت متى يشهد السودان مثلها ؟  أقيم في شقتي المتواضعة في تورنتو كل يوم أحد ندوة مصغرة نناقش فيها بعض همومنا الآنية، وجرت العادة أن أكون رئيس الندوة باتفاق الجميع نظرا للجدية وخفة الدم ، أدعو فيها عدد قليل جدا من المثقفين السودانيين وأحيطها بالسرية التامة ولا أسمح لكائن من كان لحضورها إذ أعتبرها معشوقتي الخاصة .
الأسبوع الماضي أقترح أحدهم أن تكون الندوة لمناقشة الأوضاع في السودان ، أيدت الفكرة بحماسة شديدة ، كانت المناقشة حامية وساخنة ، خاصة في ظل إنفصال الجنوب ، وطرحت أفكار في غاية الأهمية منها على سبيل المثال التحليل الدقيق لثورة تونس ومصر واليمن وليبيا فيما يعرف بالربيع العربي ودخلنا في مماحكة غير عادية عن سقوط النظام في مصر ولكن الجميع أيدوا تماما سقوط النظام وقيلت مداخلة موضوعية جدا عن آلة القمع التي مارستها أنظمة الحكم في البلدان العربية بلا إستثناء .
وهنا أورد مقطع بسيط عن المداخلة التي قدمها " ز " حول القمع في البلدان العربية لأكثر من ثلاثين عاما . وقرأ ذلك من ورقة مكتوبة فقال : 

إن كل آليات القمع التي فرضت الاستكانة والرضوخ وولدت الاكتئاب كقشرة هزيلة سريعة التفتت والتساقط يشهد على جدلية السقوط والنهوض بما يؤكد أهمية مقاربة التفكير الايجابي ،والبحث عن فرص وإمكانات الحياة ،عوض الانكفاء والاستسلام القدري أو الانجراف مع تيار عواصف الظروف القاهرة والصعبة ،التي يحاول المستبد تكريسها كنمط وجود و منظور وحيد لرؤية الذات والآخرين والعالم ،متسترا على ينابيع البناء والنماء والحياة ، ورغم ما توحي به ظواهر الأمور فان قوى النماء الحية لا زالت حاضرة، ولازالت تتكاثر رغم كل محاولات القمع والاستبداد والقمقمة. فالحياة تأبى إلا أن تجدد ذاتها׃ ينهزم جيل فيأتي غيره، ويشيخ جيل فيشب من يليه .وتعصف العواصف بالأرض الطيبة وتحل بها الكوارث، ثم يأتي الربيع فتأخذ أجمل زينتها خضرة وألوانا وأزهارا وثمارا وتظفر الحياة على الموت .ذلك أن نزوة الحياة الكبرى قد تنتكس لبعض الوقت إلا أنها لا تستسلم أبدا ،ما دامت هناك حياة ،بل تجدد ذاتها في مواقع وأشكال أخرى .
صراحة أعجبتني المداخلة ، وقلت تعقيبا عليها لتسقط كل الأنظمة العربية بلا إستثناء وتعيش كل الشعوب العربية في حرية وسلام وديموقراطية ووووقاطعني أحدهم يا أستاذ أدينا فرصة !!!!
بعد قليل إنتهت الندوة ، وكنت قد أعددت لهم ملوخية بالدجاج وشرائح من البطيخ فقال أحدهم رائع ما عندك عصير مانقو وشوية فسيخ ؟؟؟؟
وتذكرت أن يناير هو موعد إنعقاد معرض القاهرة الدولي للكتاب ولكن الثورة العظيمة ألغت المعرض ثم قرأت خبرا أن الناشرين المصريين أعلنوا عن تنظيم معرض للكتاب خلال الشهر الفضيل رمضان وسعدت جدا . 
الخبر يقول أن 85 ناشرا مصريا وعربيا سيشاركون في المعرض الذي من المقرر أن يقام في أحد أحياء القاهرة بدلا من معرض القاهرة الدولي للكتاب رغم مساحته الشاسعة وتقنياته الرائعة .


والمعرض الذي سيستمر حتى 25 الشهر الحالي  سيكون بدون  رسوم دخول للجمهور ويضم 175 جناحا ويستقبل جمهوره نهارا حتى الرابعة عصرا ثم يفتح أبوابه مرة أخرى بداية من التاسعة مساء حتى الواحدة من فجر اليوم التالي، ويصاحب المعرض برنامج ثقافي متنوع يشمل أمسيات شعرية وندوات فكرية .
هكذا القاهرة اليوم  ثقافيا لا تتغير بل تتطور ،  ولا يستطيع أحد  أن يمس ولو بطرف الأصابع الإنجازات التي وضعها الرواد والنخب المثقفة المصرية من أجل الإنسان مصريا وعربيا ودوليا . ولكننا في السودان ما نزال نعيش في عصر الجاهلية ؟؟؟؟
badreldin ali [badreldinali@hotmail.com]

 

آراء