في حضرة: عبد الله الطيب المجذوب … بقلم: عبدالله الشقليني
16 January, 2010
abdallashiglini@hotmail.com
أهي ( الكرامة الصوفية ) أم أنها محض الصدفة ؟
(1)
" لحظاتنا كلها كرامات ، و ليس هنالك كرامة أفضل من كرامة العلم "
تلك مقولة للشيخ محمد الطيب الحساني .
(2)
" لقد بات واضحاً في مجال المعرفة أن المنتج غير العقلاني يلعب دوراً كبيراً في صنع التاريخ"
تلك مقولة الدكتور محمد أبو الفضل بدران ، في مقدمة سِفره
" أدبيات الكرامة الصوفيةــ دراسة في الشكل و المضمون “.
أهي " الكرامة الصوفية " أم أنها محض الصدفة ؟ .
أدرت المفتاح وفق اتجاه عقارب الساعة ، السيارة من صناعة اليابان ، إنها من أول النماذج التي ارتأت بها منافسة العالم الأول في صناعة السيارات ، " كارينا 76 " .على يميني شمسٌ ،هي زوجتي . في المقعد الخلفي قمرٌ ، هي شقيقتها . هممت بمغادرة الإدارة الهندسية- جامعة الخرطوم ، حيث كنت أعمل أوائل التسعينات . الوقت قبل الثانية و النصف بقليل من بعد الظهيرة . أراه من البُعد يُهرول رافعاً يده : ـ
ـــ عبد الله ... انتظر .
توقفت عن القرار ، فالقادم إلي ، فوق كل القادمين في منزلة الأب و سيد من سادات اللغة ، أحنت البطحاء ظهرها للريح ، و له إكراماً و عرفاناً . انه الذي ساد نفسه ، و سيَّده علمه على غيره : عبد الله الطيب المجذوب .
ــ أهلاً بالبروفيسور .
هممت بإدارة المقبض ، و من ثم النزول .
رد السلام ، وأردف :
ــ لن تتأخر ، دقيقتان ثم ينتهي الأمر، أعدُك بذلك .
ضحكت ، و حسبت الأمر من المزاح ، و قلت في نفسي ساعة أو أقل . إن الزمن يتراخى من تلقاء نفسه ، فقد هجرنا ضبط المواقيت منذ رحيل المستعمر، خطوة بعد خطوة حتى غلب الطبع التطبع . نحنُ نقدر المُربِي حق قدره ، نُلبي النداء، و نسترخص كل غالٍ . إنه معلم الأجيال ، و المبجّل الذي لن نُحصي محاسنه ولا فضله ولا طيب أريحيته . الزمن دون شك بضاعة رخيصة في حضرته المتألقة .
ــ كلها دقيقتان ، سيبقى الجميع في السيارة .
أردف مؤكداً مقالته تلك . قلت لنفسي ، سنطيب خاطره ، ونعمل بالنصيحة . تركت من بالسيارة كما طلب ، و رافقته إلى داخل مباني الإدارة الهندسية . نحنُ نُطّل في ذلك الزمان على شارع الجمهورية ، و هو يجاورنا رئيساً لمجمع اللغة العربية في السودان .
قال :
ــ نرغب أن يحضر رأس الدولة افتتاح مجمع اللغة ، و عند صياغة الدعوة لم أتذكر رقم قطعة الأرض الممنوحة لنا بالقرار الجمهوري ، فقلت في نفسي ، أنتم المصممون و المشرفون على التنفيذ ، عندكم القول الفصل .
الصوت المفخّم ، و النبرة الفريدة . ضحكت ، و دخلنا سوياً مكتب السكرتارية : السيدة فاطمة ، و الآنسة عوضيه ، ثم الباشكاتب . عبرت إلى قائمـة الأرفف حيث الأرشيف. هنا رقــم الملـــف المختـــص " ـ 52 ـ مجمع اللغة العربية ". إنه بسُمك بوصتين ، لكثرة الأوراق و وثائق المناقصة و المواصفات العامة والخاصة و ما يشبه من المستندات الرسمية و الكتب المتبادلة.
حملت الملف، قبل الجلوس على مقعد الباشكاتب ، و أنزلته بعجلة على سطح المكتب ، و تركت الثِقل يفعل فعله ، كمن يريد أن يبدأ البحث من مُطلق الصدفة ، ربما. وقف هو قُبالتي ، وانفتح الملف ، وذهلتْ .....، فالدفتين فُتحتا . كفان يقرآن الفاتحة . وجدتُ عينيّ إلى منتصف الكتاب مُتجهة و أنا أقرأ رقم قطعة الأرض المدون رغما عني و بصوتٍ مسموع ! . أمنيته وقد تحققت.... .لحظة سحرية بحق . لم أتمالك نفسي ، تصببت عرقاً ، و حاولت الوقوف و أنا في سكرة الفجاءة ، ووجدته يهُم الانطــلاق ، فخاطبته مرتبكاً :
ــ هل أكتب لك الرقم ...؟
ــ لا ، لقد حفظته شُكراً لك .
عندها غادر مُسرعاً كمن صُعِق . قبل الصحو من تلك الغيبوبة المدهشة ، كنت قد وصلت السيارة ، منحدراً من علو المدخل ، و كان هو قد اختفى عن الأنظار. الوعـد الذي قطعه على نفسه و قد استوفـــــــــــاه ، " دقيقتين " لا غير . لم أنبس ببنت شفة ، و استغرقني الحدث . أهي الكرامة الصوفية أم أنها محض الصُدفة ؟ . نحن في احتمال واحد في وجه اثني عشر ألف احتمال . أين العلة وأين أحرفها، بل مَنْ العليل و مَنْ الصحيح ؟.
أين البداية وقد صرت إلى الخاتمة ؟ .
أين اللُب من خلف تلك القشرة السميكة ؟ .
حاولت صياغة الحدث ، و إلباسه لباس الواقع ، و لم أجد مفراً من الركض سريعاً إلي الذاكرة المدجّجة بأسلحة الخُرافة . فأنا ابن الزمن القديم و النشأة التي تستنجد بحكاوي التراث وأعاجيب الغيبيات عند الملمات . تختلط عندنا الخُرافة دائماً بالواقع الملموس . تمسح برفق على صفحة الذاكرة ، فتقفز في وجهك النبوءات القديمة ، عندها تستريح فقـــــد و جدت ضالتك . انفتحت الأرض ومن أثقالها خرج رجل من بئر التاريخ ، بدأت كمن لا أعرفه .
من يا ترى هذا الرجل ؟
من يحرك المزلاج عند بوابة المجد العتيقة ؟ .
. من يتجرع كأس الوجود، داني القطوف حتى الثمالة ؟ .
أهذا هو الشيخ العملاق الذي يسكن هذا الجسد الذي أرى ! .
أهذه هي المِشية ، التي يتخفى في جلدتها " التمُساح العُشاري ". كأني به ، يلتحِف بُردة من شَعر الماعز ، و نِعالاً من جلدها . طيفٌ من الزمن الغابر ، يعبُر أمامك ، و تهُمّ الإمساك به ولا تقبُض إلا الريح .
كان حفيد المجذوب جنة نعبُر رياحينها عند كل غروب ، مع الشيخ الصديق نتسمّع شروح الذكر الحكيم من المذياع . يغرف " سيدنا" من مائه العذب و يسقي العامة من الناس .... ألا قد نَعُم بمرقده الثرى..زكل النعيم . أضاءت ثُريّاته الأرض الفسيحة ، فضمّته إلى صدرها الأبدي عشقاً .
من يفلح الأرض من بعده و يزرعها ... يقطُف ثمرة " المجذوب" الدانية ؟ .
عبد الله الشقليني