المتنبي
(1)
كان رحيلها يوم الجمعة 3/5/2013 .
متى تأتِ الدُنيا بمثلها ، لنُعيد السيّرة التي لا تتكرر، فلا الدمع يُخفى غلبة الأشجان ، ولا الليل صاحبٌ يعرف المُدام ليسكُبه. وما أنجُم الحزن إلا لآلئ من عميق شطآنِ يُبحر إليها الطالب المتوجِّع . يعجز المرء عند هبوط الأحلام إلى منامها الأخير أن ينسى أمّنا الثانية . و يستحيل لتلك النبتة الفوّاحة الروائح ، أن ننسى أريجها . تطوف على مراقدنا نفثٌ من الطيب الذي اخضرّ عوده بيننا وأزدهى. هي آخر منْ بقي من ريح الوالد الثاني الخال "إسماعيل " . بسيرتهما يبدأ الحديث وعندها يكون المنتهى .
فَرِحة تقابلني الأم الثانية " سعاد " عندما كنتُ في عنفوان طفولتي ، أقضي أيامي بين الأسرة الثانية أيام العطلات السنوية . وكنت أصغر القاطنين.
تحت فرندة بيت السكة حديد ، وهو من أوائل منازل الموظفين المتراصفة ، في حي السكة حديد بالخرطوم ، تقف ماكينة غسيل الملابس ، بشكلها الغريب .كنتُ أول مرة أتعرف على آلة تعمل ما يعمله الإنسان في كل بيت ، وتؤدى تلك التكنولوجيا ، جزءاً من ترِكة الدار الفسيحة من الخدمات . تكتفي سيدة الدار الحاجة " بنت المنا " بأعمال المطبخ ، و" سعاد " أو الأم الصغرى لعمل بقية ما يتطلب الدار من أعمال صغيرة وكبيرة ، يستغلق عليّ فهمها ، فطفولتي خالية من المسئوليات. هي لها أشقاء من الذكور، وهي وحدها بلا أخت شقيقة.
يوجد في الدار ،في صالة المعيشة الرئيسة راديو ضخم، من الطراز الذي يأخذ وقتاً طويلاً منذ تشغيله إلى أن يصدر صوتاً . كان المذياع يتصدر الحداثة تلك الأيام . خلال يومين من الأسبوع ، يأتي العم " مزّمل " يتعهد الحديقة بالرعاية ، وقص النجيل والشجيرات والأشجار ، والنباتات الزاحفة من أرض الحديقة إلى أعلى سور الدار وهي تُطل على الطريق الرئيس .إن خرجت أنت من عند الدار الذي تفتح بوابته جنوباً ، قليلاً إلى يسارك ، تستقبل أنت الطريق أمامك ،ويقودك ستمائة وخمسين متراً سيراً على الأقدام ، فتصل " حديقة عبود ". في أواخر الخمسينات ، لم يتغير اسم الحديقة بعد ، حتى جاءت ثورة أكتوبرلاحقاً ، فصار اسمها " حديقة القرشي " .
(2)
كان البيت هو شاغل طفولتي ، ويشاركني اللعب " حيدر " شقيق " سعاد " الأصغر ، وكان يكبرني بخمس أو ست سنوات. هناك أقضي أيام العطلات في منزل خالي " رب الدار ". باحة متوسطة المساحة غرب البيت ، تصلح للعب بالكرة البلاستيكية ، أقضي بها جلّ نهاري، وشمس الضحى تصحو و تتفرج. وشرق الملعب الحديقة الكُبرى التي تنتهي إلى دورة المياه للأضياف ، وغيرها حمامات ومغاسل داخل البيت . نظام المجاري في الخرطوم كان نظاماً صاحب كفاءة وفق للكثافة السكانية ، وكانت محطة معالجة المجاري في الخرطوم تقع قرب " مدينة الشجرة " ، وكانت هي منتهى امتداد جنوب الخرطوم ، ومنها تذهب المياه المُعالجة لسقاية " غابة الخرطوم" ، التي تم إنشاءها لوقاية العاصمة وتجميل وتنقية البيئة بأوكسيجين الخضرة نهاراً . دورة نشاط بيئي بامتياز .
(3)
في الستينات درست الأم الثانية " سعاد " دبلوم السكرتارية التنفيذية بمعهد الكليات التكنولوجية. وهو المعهد الذي أنشأته المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم، ليكون نموذجاً متقدماً لتأهيل العاملين والعاملات وتدريبهم ليتقلدوا الوظائف الوسيطة والكبرى، في درجة مساعدي المهندسين والإداريين ، وعليه نشأ النظام الإداري الإنكليزي التي تكيّف مع البلاد وطقسها الحار ، فتواءم التعليم مع الحاجة ، مع نظرة للتقدم والتطور .كان التأهيل باللغتين الإنكليزية والعربية للسكرتارية التنفيذية .
عمِلت هيّ في مؤسسات إدارية عريقة، وخلال تجويدها الوظيفي، أصبحت السكرتيرة التنفيذية لرئاسة المؤسسة العسكرية الاقتصادية بالدولة السودانية في سبعينات القرن الماضي .
(4)
من بعد كل عطلة أقضيها في طفولتي في حي السكة حديد في الخرطوم، أعود حزينا بعد الثلاثة أشهر التي أقضيها هناك . تعود بي سيارة خالي الخاصة " الفيات " ، ذات اللون الأبيض البيج . كانت الفروق بين أم درمان والخرطوم،هي الفروق بين مدينة تثب إلى مصاف المدن في نهاية الخمسينات، وبين أم درمان القرية التي تجاور المدينة، و لم تجد الأخيرة العناية التي وجدتها العاصمة الاستعمارية . واستدرجت هي لبناء نهضتها مبنى الإذاعة السودانية عام 1940، أوائل سنوات الحرب العالمية الثانية ، وكذلك مبنى المسرح القوميالذي يُطلّ على النيل ، وهو المسرح الأول في الدولة . وكان يزرها الترام ، الذي يعبر كوبري النيل الأبيض قادماً من الخرطوم عن طريق " الموردة " إلى المحطة الوسطى بأم درمان ، ثم إلى " أبوروف" حيث معدّية " شمبات" آخر تطوافه . في سوق أم درمان محلات المنحوتات والتحف والصناعات اليدوية السياحية الأولى في الوطن ، من أخشاب المهوقني والتيك ومن " سن الفيل "، فلم يكن في ذلك الزمان قانون يحمي البيئة أوالحيوان .
تلك محاولة من أم درمان لتثب لتصبح مدينة ولو على كِبر. هذه الفروق بينالمدينة والقرية ، هي التي تزحم حياة طفولتي . ينازعني الحنين: مرة إلى الحضارة بتقدمها في خرطوم تلك الأيام، ومرة أخرى للريف الطبيعي حيث أم درمان . فالمرء في حاجة لأنداده يلاعبهم، وينافسهم، وحتى يتشاجر معهم أحياناً. كانت أيام عودتي من العطلة السنوية من الخرطوم إلى أم درمان،تصحبها حسرة، من فقدان نعيمٍ لن أجده كما أحب، و دلالُ الصغير وسط البالغين ميّزة تستدرجني أن أحزن لفراقها . على خلاف ما رأى الشاعر الفنان " خليل فرح " من أن مفارق أم درمان دائم الحزن والبكاء:
ويح قلبي الما انفكّ خافِقْ
فارق ام درمان بَاكي شافِقْ
يا أم قبايل ما فيكِ مُنافِقْ
سَقي أرضك صوب الغمّام
يا بلادي كمْ فيكِ حاذقْ
غير إلهك ما أمّ رازِقْ
(5)
أعود من بعد كل عطلة، وفي ذاكرتي أريج " الخرطوم " المدينة. أعود إلى أم درمان، وفي النفس شيء من الأسى كما ذكرنا ، إذ أنني سأفتقد أيضاًالشراب الغازي الملون وشراب "ليمونادة " كانت تصنعه " مصلحة المرطبات ". فمطبخ الدار وطن عامر بمثل تلك المشروبات.
يذكر كثيرون كيف كانت " سكك حديد السودان، تتبع لها" مصلحة المرطبات"،التي كانت تخدم كل فنادق الخرطوم على قلتها آنذاك وأيضاً تخدم طيرانالخطوط الجوية بأنواعها، فنكهة الطعام الإغريقي والأرمني والشامي والمصريالمتنوعة ،موجودة أيضاً في مطاعم الخرطوم، وتنعكس على أذواق وبيوت كبار موظفي سكك حديد السودان من بعد " السودنة "، لذا نما عند " سعاد " شغف بتنويع المآكل والمشارب والفاكهة المطبوخة . تتذوق أنت الأطعمة الأجنبيةبيديها بنكهة سودانية ، لها ذات الأنفة والكبرياء ، فالأسرة السودانية لن تستحي وهي تُكرم الأضياف من الطعام الذي تعودوه، ولكن بنكهة سودانية .
كانت " مصلحة المرطبات " تُحيي مناسبات الأفراح والأعياد العامة للموسرين، وتتميّز خدماتها في الأعياد التي اختص بها ميدان " قبة المهدي" ، فكان الجميع أضياف على السيد عبد الرحمن بن الإمام المهدي في عيد الفطر وعيد الأضحى، والسقاة يتمنطقون زي الحفلات الرسمية ، وتتساقى أنت مع الصحاب حتى ترتوي .
أعود أدراجي إلى البيت الكبير في أم درمان. عدة أيام وأخرج عن انطوائي إلى حياة الطفولة العاديّة وزحام المدرسة الأولية ومشاغلها. انتظر حتى تأتِمناسبات الأعياد، فنذهب للمقيل في منزل خالي بالسكة حديد بالخرطوم أول أيام العيد ، ثم نواصل المسير إلى " حديقة عبود " فنقضي بها النهار إلى الغروب. حدايقة زاهية، منتظمة التقسيم ، ومتنوعة الأزاهير، ونافورة تطّل،تُضفي على المكان من طيب الرذاذ . ولشجيرات الصبار وسط الحجارة مرئغريب على النفس. تمتلئ الحديقة بالأطفال مثلنا يتنزهون ويلعبون ويشترون الحلوى من الباعة المتجولين. والشمس دافئة ترقب ، لا يحسها الطفل ساعة المرح .
(6)
تُغلبني الكتابة دائماً ، وأذهب إلى التاريخ، كي تكون السيرة توثيقاً لماضٍ تولى ،لمن يقرأ ولا يعرف السيدة التي عن سيرتها أتحدث . وأهرب من تفاصيل علاقتي الملائكية بالأم الثانية. أتخفّف أنا من الحزن، فربما لا يشاركني الأحزان، إلا من هُم مثلي. وتبقى الجسور تمُد الطريق إلى الذكرى، والنواقيس تدق وقت تشاء.
وعندما شببتُ عن الطّوق في عز الشباب احتفظت بعلاقتي مع الأم الثانية بأفق جديد ،فعندما يكبُر الأطفال تتغير العلاقة ، رويدا تنشأ الصداقة والمحنَّة تختلط بالأمومة ،وتلك من سنن الحياة ، فقد أصبحت ابنها الذي لم تُنجبه في حياتها . وقبل تقاعد الخال " إسماعيل " اشترت الأسرة منزلاً لها في امتداد الدرجة الأولى ، يقع على الطريق رقم (47) وكانت حينها المنطقة خالية من العمران . كنت أزورهم أيضاً في العطلات ، وأقضي في بيت الأسرة الجديد يومين أو ثلاثة . أدخل مكتبة الأم الثانية الخاصة ، وأتخير أعداد من مجلة " حواء " المصرية ،حيث كانت المجلة صديقتها الأسبوعية . وكنت أتتبع القصص القصيرة بالقراءة عن حبٍ وشغف ، وكانت بعض اقاصيصها مستوحاة من دفاتر الشرطة والحوادث. فمصر عالم يمور بالأجناس ، لها إرث طبقي متنوع ، يتمدد في شرائح اجتماعية واقتصادية ، بعضها صنعه التعليم المجاني بتشكيل طبقة وسطى من بعد 23 يوليو 1952 ، وفيها الريف والبداوة في سيناء و فيها شبه الإقطاع في مناطق الزراعة في الأرياف، و فيها النوبيون الذين انشطرت أعراقهم بين السودان ومصر ، وفيها القبط والمسيحيون وغلبة المسلمين وبعض اليهود الذين حملتهم هجرات الاستعمار الاستيطاني إلى فلسطين المحتلة .
هذا التنوع مع الكثافة السكانية المهاجرة منذ العصور الأولى ، ميّزت مصر بتنوعها السكاني ، وبالتالي بدراما الحياة الاجتماعية ، على غير ما نرى ونعرف في الأوطان التي تتحدث العربية العامية بأنواعها . لذا نشأت معي صلة بأقاصيص مجلة حواء المصرية بتنوعها الغريب . وتلك من اللوحات الخلفية التي أنشأت محبتنا للقصة القصيرة فيما بعد .
(7)
كنتُ بعيداً حين رحلت الأم الثانية يوم الجمعة ذاك، تماماً كما كان رحيل الأم الأولى، وكنت بعيداً أيضاً. للمهاجر قسوة لا يعرفها إلا منْ جربها . وكان وعديللأم الأولى بالعودة السريعة من بعد سفرٍ طارئ وعطلة سنوية عادية : شهراً أو شهرين ، وفي النيّة المُضمرة ألا أعود!. ولكنني عدتُ من بعد ثلاثة عشر عاماً . كان عيد الأضحى في الانتظار. تخفّفت العاصمة من ثقل كثافتها السكانية، ووجدت أن الدنيا تبدّلت رغم ذلك . ولم أتعرف على البيت الكبير في أم درمان إلا بعد شدّة . تغيرت الحياة وصارت عسيرةً ، وبانوراما الطرق خليط غرائب لا تجتمع في عاصمة ترغب أن تتطور .و لم تذهب إلى الأفضل ، بل تراجعت وتهدَّم البُنيات . وإنها لحسرة متجددة ،تلاحقنا كل عام يمضي .تتساقط علينا الأخبار الحزينة كالحجارة السوداء ، فيزوي الوطن ونُكفكِف دموعنا عند ساعة الذكرى. هذا حالنا فكيف بالذين هم تحت قبة الجمر !؟.
للأم الثانية نترحم ونقرأ في سيرتها ما يتيسر من آي الذكر الحكيم الذي داومت هي على محبة قراءته صباح مساء . ربِ إني تمنيت لها عفوك وأنت القادر على العفو ، وتمنيت لها رزقاً من ثمرات جنانك الوارفة في دنياها الأخرى، فأنت خير الرازقين . وقد حببت أنت إلينا أن نرفع أيدينا إليك بالدعاء ،فذكرت في قرآنكالمقدس:
{ ادعوني استجب لكم } ، فنعيمك سابق علينا منذ بدء الخليقة .أللهُمّ إليك الملتجأ وإليك المآل ، بك المُبتدأ وإليك المُنتهى. وخير خاتم أن لا إله إلا أنتَ.
عبد الله الشقليني
8 نوفمبر 2015
abdallashiglini@hotmail.com