في ذكرى الإبادة الجماعية .. نجدد المطالب بعدم الافلات من العقاب ..

 


 

 

تأتي اليوم الذكرى العشرين للإبادة الجماعية في دارفور، ولا زالت بلادنا العزيزة تتنكب الخُطى وتتعثر لكن الأمل كبير في تغيير جذري بإذن الله تعالى فإن عهود الشهداء والثوار في الميادين المختلفة بإذن الله لا تضيع هدرا مهما بلغت المؤامرات والدسائس التي يحيكها أعداء الشعب السوداني، فإنهم لزوال كما زال من قبلهم آلاف الطغاة في التاريخ البشري على المدى البعيد والقصير جدا لكن الطغاة دائما لا يتعلموا من عبر التأريخ.
استهل مقالي التوثيقي هذا بالشكر الجزيل للأخ العزيز الأستاذ ابراهيم اسحق رئيس الاتحاد السوداني العالمي بالولايات المتحدة الامريكية على الدعوة والتنادي الوطني للتعبير عن فجيعتنا في ما حاق بأهلنا في دارفور، ولتوثيق وإحياء هذه المناسبة في نفوسنا، وفي القناعة الراسخة أن ما حدث في دارفور حدث مثله في كل مناطق السودان ولا زالت الآلة العسكرية مستمرة في قتل وإبادة أبناء شعبنا.
إن الإبادة الجماعية التي ارتكبها النظام الإسلاموي في دارفور حدثت فيها كل أنواع القتل الممنهج للرجال والنساء والأطفال وحرقت فيها القرى بأهلها بفعل الطيران العسكري القاذف للهب ولم تسلم حتى الحيوانات بل من حقد الحاكمين على أهل دارفور كان يستهدفون آبار المياه حتى يموت الناس جوعا وعطشا من خلال تدميرها بواسطة الطيران، هذه الفعلة الاجرامية التاريخية الكبيرة أصبحت تعرف باسم (الإبادة الجماعية) الأولى في القرن الحادي والعشرين. والإبادة التي جرى تنفيذها ضد قبائل الفور، والمساليت والزغاوة قادت المحكمة الجنائية الدولية (ICC) لتقديم لائحة اتهام عدة لأشخاص منها جرائم ضد الإنسانية، الاغتصاب، الهجير القسري والتعذيب. وبحسب الباحث والمؤثق إريك ريفز، فإن أكثر من مليون طفل "قتلوا أو اغتصبوا أو جرحوا أو شردوا أو أصيبوا بصدمات نفسية أو عانوا من فقدان الوالدين والأسر".
الخلفيات التأريخية
عندما أصدرت رئاسة الجمهورية قرارها في عام 1994م القاضي باعادة توزيع ولايات السودان، وصارت من 9 ولايات إلي 26 ولاية كان نصيب ولاية دارفور الكبرى ثلاث ولايات، وهي شمال وجنوب وغرب دارفور، حيث كان الطيب ابراهيم (الطيب سيخة) واليا على دافور الكُبرى، صدر الأمر بتعيين البرفسيور التجاني حسن الأمين واليا لولاية شمال دافور وعاصمتها مدينة الفاشر، والعميد طبيب بابكر جابر كبلو واليا لولاية جنوب دارفور وعاصمتها مدينة نيالا، والسيد محمد أحمد الفضل المشهور في دوائر الحركة (الاسلامية) بـ(ود الفضل) واليا لولاية غرب دارفور وعاصمتها مدينة الجنينة، كنت أحد الصحافيين المرافقين للوفد الكبير الذي ضم الوُزراء والوُلاة الجدد لولايات دارفور وغاب عنهم ود الفضل والي غرب دارفور، وصلنا مطار الفاشر يوم الجمعة 22 رمضان من عام 1994م وبرفقتنا فريق تلفزيوني كامل بقيادة الشهيد المصور الهادي سيداحمد من تلفزيون السودان.
كنا في انتظار والي غرب دارفور (ودالفضل) ليلحق بنا، لكن في اليوم الثاني ومع بداية عملية التسليم والتسلم وصلنا من الخرطوم ما يفيد بأنه رفض المجئ لاستلام وظيفته، وعلل ذلك بأن المنصب أقل من قامته كثيرا، لكنه فيما بعد أدرك بأنه إذا لم يستلم المنصب فسيتم أبعاده عن أي منصب في المستقبل، فجاء إلى مكان عمله في مدينة الجنينة ولايا لغرب دارفور، كان يشعر بأنه غُصب على المنصب ولم يكن راضيا عنه بأي حال من الأحوال برغم الامتيازات التي حصلت عليها أسرته في الخرطوم، لذلك لم يكن منفعلا بإحداث تغيير ايجابي في المنطقة بل العكس حدث فإن الخلفية التي تأسست عليها أعمال العنف في المنطقة وتطورت إلى أن اصبحت قضبة رأي عام دولي تعود انتقاصه من سُلطات سُلطان قبيلة المساليت أصحاب الأرض، ومنحها لعدد من بطون القبائل العربية الرُحّل الذين يعتبرون ضيوفا على سُلطان المساليت المشهود له بالحِكمة والتسامح.
وعندما صارت تلك السلطات أمرا واقعا طالب أبناء المساليت ضيوفهم بالبحث عن أرض أخرى خارج ديارهم ليمارسوا عليها السلطات التي منحها لهم الوالي، وبعد ذلك تطورت الخلافات بين الطرفين حتى وصلت مرحلة الاشتباك المسلح التي نتج عنها سقوط 108 قتلى بحسب صحيفة (الانباء) الرسمية ( حتى نهاية الاسبوع الاخير من يناير1999م) وعدد لم يُحص من الجرحى والمعاقين، وحرق (100) قرية، ونزوح الآلاف ونهب الثروات والأموال، وتخريب الديار والمزارع.

الممارسات التعسفية

إن الفترة التي اعقبت حدوث المجازر الدموية كانت دارفور تعاني من اشكالات كثيرة، غير ظلم السلطات والممارسات التعسفية التي يقوم بها جهاز الامن في دارفور، كانت هناك خطط ممنهجة لتجويع الناس، وجميعنا قد تابعنا النداءات بين فترة وأخرى التي وصلت للحاكمين في الخرطوم بضرورة اللحاق بالاوضاع في دارفور بسبب خلو الاسواق من الحبوب الغذائية والسلطات أبدا ما كانت تستجيب، وفي تلك الفترة اجتهد أبناء دارفور المتواجدين في العواصم الولائية، وولاية الخرطوم بشكل خاص بعقد الاجتماعات في الهواء الطلق حتى يبينوا لأهلهم ما يجري في مناطقهم، وكانوا من فترة لاخري يلتقوا المسؤولين الاتحاديين ليشرحوا قضيتهم ولا يجدوا إلا الوعود الكاذبة وأحيانا الزيارات عديمة الجدوى والتي تزيد الطين بله، وشخصي كصحافي أشهد على العديد من المبادرات التي قام بها أبناء دارفور قبل اندلاع الأزمة بسنوات، حيث تربطني علاقات حميمة مع أخواني مثقفي ولايات دارفور، وكنت من خلالهم أعرف كل ما يدور في ساحاتهم من مشاكل، وكيف انهم كانوا يسعون لمقابلة رئيس الجمهورية، ويفشلوا في ذلك، وبعد سنوات اكتشفت أن علي عثمان محمد طه كان ومن خلال آلياته التنظيمية والأمنية الخاصة يمنع مقابلة أهل دارفور مع الرئيس بل حتى الرسالة التي يريدون ايصاله له منعت.
الدولة الانقاذية أبدا لم تكن مهمومة بقضايا المواطنين بل كانت مهمومة بنفسها وصراعاتها الداخلية من أجل المكاسب الذاتية لا من أجل الوطن، ويشهد التاريخ على أن فترة حكم عصابة (الانقاذ) هي أكثر الفترات التي اشتعلت فيها النزاعات القبلية وفي امكان كثيرة جدا بالوطن، ذلك لأنها بذلت الجهد الأكبر في إعادة القبلية وتعطيل المؤسسات المدنية بجانب إعطاء المشروعية والمسؤولية للقبيلة بدار فور، وأوكلت إليها المهام الإدارية والأمنية وباركت تحت إشرافها تسابق القبائل في تجميع شتاتها استعدادا للمناطحة في الحق على الأرض والمكتسبات السياسية وحماية ذاتها من أخطار الأخريات، وقد انتظمت هذه القبائل في مؤسسات عرقية بتشجيع السلطة وإشرافها، فأسست أماناتها المتخصصة وهيآتها الاستشارية وتنظيماتها التي أوجدت لها التمويل واستقطبت لها الاشتراكات وإلى جوارها مضت الدولة في تقليص دور المؤسسات المدنية وتشريد كفاءاتها.

أس المشكلة

الدولة قامت بإعادة تقسيم وترسيم الأرض حواكيرا للقبائل، ولم تراع في ذلك خصوصيات الإدارة (الأهلية) بدار فور بما يتطلب مراعاة الحدود القبلية والإدارية للعشائر والمتعارف عليها منذ استقلال السودان، ولم يكن غريبا أن يشاهد الناس فيما عرف ببيعة أهل القبائل لرئيس الجمهورية حيث كانت تحتشد بين الأسبوع والأخر في (القصر الرئاسي) أو (قاعة الصداقة) حشود القبائل لإعطاء الرئيس البيعة وهي بيعة للولاء كما يعرف عنها ويحضرها كل المسئولين في الدولة وكانت تصور وتبث عبر الفضائية السودانية، وتصرف عليها المال الكثير الذي لا يتخيله المواطن العادي، وفي جمع الحشود في زيارات الرئيس للولايات، هذا الاهتمام بالقبلية وتكريس هذا المفهوم لدي الناس نتج عنه الكثير من الخلافات في مناطق كثيرة من السودان، والعديد من النزاعات الدموية جاءت نتيجة لهذه السياسات، وشردت كذلك العشرات من الأسر،، ويبقي الاهتمام بالقبلية و العنصرية من أكبر العوامل الذي فجرت الأوضاع في دار فور وفي كل أنحاء السودان، فإن الجهود التي بذلتها حكومة (الانقاذ) في أرساء قيم القبلية والعنصرية لم يقابلها 1% من أرساء قيم الوحدة الوطنية ونبذ العنصرية والقبلية، وتشهد بذلك أراشيف الصحف من مخاطبات وزيارات.

الفريق الدابي زاد النار اشتعالا..!!

في يوم الجمعة 19 يناير من عام 1999م اندلعت اعمال العنف القبلي في ولاية غرب دارفور وصاحبها قتل ونهب ونزوح، و المنطقة التي شهدت الصراع مشهود لها بالهدوء والتسامح والسلم الاهلي عبر تاريخها، بل في ظل الحروب الاهلية والقبلية التي عرفتها دارفور خلال عقد سنوات الثمانينات وقسما من سنوات التسعينات، ظلت تلك المنطقة مثار اعجاب الكثيرين كنموذج للسلم الاهلي، ونتاج صحي للتلاقح العرقي والثقافي، وفي هذه الحادثة هاجم الرعاة المزارع قبل اكتمال الحصاد، وأوقدوا بذلك شرارة الصراع، واندلعت اعمال العنف، وتوالت، هذا هو السبب المباشر،
وعندما بلغ الامر مبلغا عظيما، كلف رئيس النظام البائد الفريق أول محمد احمد الدابي مسؤولية الامن بالولاية، وصحب معه في زيارته الاولى للمنطقة اللواء طبيب الطيب ابراهيم محمد خير (الطيب سيخة) وزير التخطيط الاجتماعي آنذاك، حاكم دارفور الكبرى السابق لتخفيف حدة التوترات، والفريق متقاعد مهدي بابو نمر وزير الصحة ابن زعيم قبيلة المسيرية أيضا لاستثماره في تخفيف منابع الحريق، وللأسف كما سنعرف لاحقا ان الفريق أول محمد احمد الدابي ممثل رئاسة الجمهورية في دارفور لم يكن في مستوى المسؤولية، بل زاد النار اشتعالا بتصريحات غير مسؤولة وعنصرية استفزت المكون الانساني في المنطقة.
وهنا لا بد من أن نعيد قراءة تاريخ المنطقة التي نشبت فيها البدايات الاولى بشي من التلخيص غير المخل، هذه المنطقة ( غرب دارفور) حيث تاريخ سلطنة المساليت، السلطنة التي تشمل ولاية غرب دارفور الحالية كلها والتي كانت دولة قائمة بذاتها منذ العام 1870، وتقع بين خطي عرض 22ــ 23 شمالا، في اقصى غرب السودان على مساحة 70 الف كيلومتر، تحدها من الغرب جمهورية تشاد ومن الشرق والشمال سلطنة دارفور ومن الجنوب جمهورية افريقيا الوسطى، وأسسها الفكي (الفقير) اسماعيل. ويشكل المساليت (القبيلة الحاكمة) نحو 80% من ساكنيها اضافة الى القمز والتاما والارتقا وكلها قبائل زنجية، فضلا عن بعض البطون العربية، وكل سكانها مسلمون. وانضمت سلطنة المساليت الى دولة السودان طواعية، بعد ان قتل اشهر سلاطينها السلطان تاج الدين (قاهر الفرنسيين) الذي استشهد في معركة (دورتي) في العام 1910 وهي ذات المعركة التي قتل فيها الكولونيل مول قائد القوات الفرنسية في افريقيا الاستوائية، بعد ذلك بنحو 9 سنوات وفي 1919 انضمت سلطنة المساليت الى دولة السودان وفق اتفاقية (قلاني) التي وقعها السلطان بحر الدين (أندوكة) مع دولتي الاستعمار انجلترا وفرنسا ويحق لسلطان المساليت، وفق الاتفاقية ان ينضم الى دولة السودان، أو تقرير مصيره مع من يشاء.
وخاض سلطان المساليت معارك ضارية كتبت صفحة ناصعة من تاريخ النضال الوطني السوداني ضد الاستعمار، وكان المغنون المساليت ينشدون الحماسة ابان معارك السلطان تاج الدين: (تاج الدين، سيفه سنين، يجاهد المشركين، لحدي ما المهدي يبين). ولسلطان مساليت قصر منيف بمدينة الجنينة شيده السلطان بحر الدين في العام 1949، وزاره فيه عدد من الملوك والرؤساء، في طليعتهم الملكة اليزابيث ملكة بريطانيا، والملك حسين ملك الاردن الراحل، والامام عبدالرحمن المهدي مؤسس حزب الامة وأحد قادة الاستقلال، وعلي الميرغني زعيم الختمية والرؤساء ابراهيم عبود، وجعفر نميري، والصادق المهدي وكل هؤلاء تزين صورهم مع السلطان قصره الجميل بالجنينة، وفي العام 2004م عين السلطان عبدالرحمن بحر الدين الذي تجاوز عمره آنذاك الــ 90 عاما ابنه سعد، الذي جاء نتاجا لمصاهرة السلطان لأسرة الهاشماب الشهيرة بأم درمان، عينه سلطانا للمساليت، ليخلفه الحكمة والتسامح عله يعيد إلى دار المساليت سمتها البارزة التعايش السلمي والأهلي.

غياب الدولة

ما جرى في التاسع عشر من يناير 1999م في غرب دارفور من صراع دموي كانت له ردود فعل سياسية سودانية كبيرة، حيث طالب د. علي حسن تاج الدين عضو مجلس رأس الدولة المجلس الرئاسي (السابق) بضرورة فرض هيبة الدولة، في الوقت الراهن باعتبار أنها فوق كل اعتبار سياسي أو قانوني لأن هذا وحده كفيل بوضع حد للمأساة. وأضاف في تصريح خاص بـ (البيان) الاماراتية (الجمعة 125 فبراير1999م) " أن هيبة الدولة محك، ولابد من ايقاف عمليات القتل والسلب والنهب والبحث عن بدائل لحل المشاكل الحالية، والحيلولة دون تفاقم الأحداث"، واعتبر د. تاج الدين "أن الدولة غير موجودة (الآن) في غرب دارفور، وطالب موفد رئيس الجمهورية باعادة هيبة الدولة، والعمل على بحث جذور المشكلة توطئة لحلها، وختم بالقول: يجب على الدولة محاسبة كل المتسببين في الأحداث المؤسفة ووضع آلية ديناميكية للحيلولة دون بروز مثل هذه الأزمات التي تهدد بنسف السلم الأهلي.
الاحزاب السياسية السودانية جميعها ودون استثناء اصدرت بيانات استنكرت فيها ما حدث من قتل ودمار وحريق وطالبت الحكومة بأخذ الاحتياطات اللازمة لمنع اي حوادث مستقبلا، وفي ذات الايام أصبحت الكثير من المنظمات الانسانية العالمية تتابع بدقة ما يحدث في دارفور والبعض منها طالب الحكومة اذا كانت تحتاج الي اعانات ومساعدات انسانية.

الصادق المهدي يُعدد أخطاء للنظام

وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده السيد الصادق المهدي الزعيم السوداني المعارض، رئيس الوزراء (السابق) الذي دعا اليه الصحافة المحلية والأجنبية،حيث كرس انتقادات لسياسات حكومة النظام البائد في الأحداث الدموية التي انفجرت في دارفور (غرب) وتناول المهدي قضية الصراع الدموية في دارفور، موضحاً ان هناك مستجدات في دارفور لم تكن موجودة في السابق زادت من اشتعال الصراعات وعدّد هذه المستجدات في نقاط سبع الأولى هي تظلم أهل الأقليم من الحُكام الذين تم تعيينهم من خارجه في حين ان الاقليم كان في فترة الديمقراطية الثالثة يحكم بواسطة أهله مع تمثيل عادل لهم في المركز، والثانية ان الحكم الفيدرالي تم تطبيقه خطأ واتضح ذلك في التكاليف التي تفتقر للتمويل والتي جعلت حُكام الأقاليم يدورون حول العواصم لتمويل الادارة الاتحادية الفاشلة.
وأضاف ان مؤتمر تقييم تجربة الحُكم الفيدرالي الذي عقد دار حول القضايا ولم يحلها ولم يعترف بها مع الاعتراف الفردي بتعثر التجربة لدى المسؤولين والمشاركين، وقال ان من بين هذه المستجدات التعامل غير المنهجي مع الادارة الأهلية واخضاعها للتكسب السياسي والاسترضاء مما أضعف الكثير من قدراتها على التحرك والفاعلية.
وأبان المهدي نقطة أخرى مهمة تتعلق بما وصفه بنشاط مستحدث خاصة في منطقة جبل مرة يقوم على نمط هجوم بقوات معينة وعلى هيئة معينة وبعتاد معين في فترة معينة لاحراق القرى ووصف هذه الأحداث المستجدة بأنها هجمات نمطية تستهدف قرى بعينها لتحقيق مقاصدها علاوة على ان الميليشيات التي عملت في المواجهات العسكرية بمناطق التماس كانت لها ذاتية خاصة وأصبحت خاضعة لسيطرة الادارة الأهلية وأي جهة ادارية، وأصبحت تستمد سلطتها من بندقيتها وهؤلاء لعبوا دوراً في الأحداث الأخيرة (1999)، والمستمد من محاولات نظام (الانقاذ) التي كانت ترمي إلى تغيير طبيعة الاقليم السياسية ومحاولات استقطاب المواطنين على أساس سياسي لهدم الولاءات القديمة وما أدى اليه ذلك من تنازع على المناصب، واسنادها لغير ذوي الخبرة، وقال المهدي "ان مؤشرات الأحداث الأخيرة بدأت في 18 مايو الماضي2001م بداية الهجمات، وكانت هذه المعلومات والنذر معروفة ومشاعة ولم تقم الحكومة بأي اجراءات وقائية".
في الفترة من فبراير 1999م وحتي مارس من نفس العام استمرت اعمال العنف والقتل في المنطقة برغم التحركات الحكومية والمناشدات السياسية، وشعر أهل دارفور عامة بشئ من عدم الاهتمام وتزايد المشاكل ولم تكن مشكلة غرب دارفور هي المشكلة الوحيدة التي تواجه الاقليم، وكان الوالي السابق لدارفور في الخرطوم يشهد زيارات مكثفة لشيوخ وعمد وزعماء القبايل الدارفورية للبحث عن حلول جذرية لقضايا وهموم المنطقة التي تفاقمت.
كلمة التمرد لأول مرة

عندما اندلعت المعارك في فبراير 2003م استخدمت كلمة التمرد لأول مرة، وعندها عرف كل السودانيين ان ما يجري في ولايات دارفور تمرد وليس نهب مسلح ، ولا مجموعة قطاع طرق، كما كانت تزعم الحكومة ، وفي هذه اللحظة في فبراير 2003م أدرك الناس ان الذي حدث هو ما كان يتخوفون منه نسبة لتجاهل الحكومة في الخرطوم ما يجري في هذه المنطقة رغم النداءات المستمرة والملحة، والتي شهد عليها الجميع ، ويؤمن بها قطاع كبير من مؤيدي الحكومة، المهم أدرك السودانيين باختلاف توجهاتهم أن ما يجري في دارفور تمرد مسلح على النظام الحاكم .
وعندما يتذكر الناس الحوادث الدامية في دارفور فإنهم يجدون العذر لحاملي السلاح هناك، فالمنطقة خالية من المشاريع الانتاجية والمصانع والشركات والمؤسسات التي تستوعب ابناء الولاية، وحينما تتجاهل الحكومة في الخرطوم مطالب أهل دارفور المتكررة لا يبقى أمامهم الا حمل السلاح والتمرد على الاوضاع المزرية، سيما وان السلاح متوافر في كل مكان في أطراف السودان ودارفور بشكل خاص حيث غياب الدولة والسلطات، و يحدث ذلك نتيجة لعدم الانصات الي المذكرات المتعددة التي رفعها ابناء المنطقة لرأس الدولة ويشهد عليها الصحافيون والاعلاميون، فالمركز مسيطر على كل شيء كما هم فارض سلطته على الولايات بشكل تعسفي ، وأقرب وسيلة لحل المشكلات في السودان هي الآلة الأمنية والعسكرية.
كان من الغربي والعجيب ان ملف قضية دار فور بطرف جهاز الأمن ولم يكن من السهولة بمكان تدخل اي سلطة أو جهة آخرى في هذا الموضوع ما لم يتم الاتصال برئيس جهاز الأمن في حينها اللواء صلاح قوش وقد اندهش الكثير من المراقبين والذين حاولوا التوسط بين الحكومة والحركة المتمردة لحلحلة القضية، فوجدوا ان الحكومة كانت متمثلة في جهاز الأمن وليس وزارة الداخلية، ولا وزارة الحكم الاتحادي، ولا حتي رئاسة الجمهورية، والكل هنا متفرج، مؤسسات الدولة الرسمية والشعبية ، ليس لها صلاحيات التدخل الا حين تتنزل الاوامر من أعلى للخروج في مسيرات أو التنديد أو السكوت، والمتحدث الوحيد في الساحة هو جهاز الامن عبر البيانات التي يوزعها على الأجهزة الاعلامية، وفي النهاية توصل الجميع إلى الحلول العادية والحضارية والوطنية ما عادت توقف تطور الاحداث وانهاك حقوق الناس والتنكيل بهم.

تدمير 6 طائرات
لم يكن رد الفعل متوقعا على الاطلاق بالنسبة للنظام في الخرطوم و لم يتأخر ففي يوم 16 و17 ابريل قصف الطيران العسكري مناطق شمال دارفور ، كان الرد من المتمردين قويا ، ومزلزلا ففي يوم الجمعة الموافق 18 أبريل 2003م هاجمت قوات التمرد مطار الفاشر وكشفت البيانات الرسمية الحكومية عن ضخامة العملية التي أسفرت عن تدمير ست طائرات بالمطار، ومقتل 32 من القوات الحكومية بينهم ضابطان، وبلغ عدد قتلى المتمردين 20 شخصا،ثم دخلت قوات المتمردين الطابية واستلموا كل السلاح الموجود في القيادة العسكرية ، وقاموا بأسر اللواء بشرى قائد سلاح الجو السوداني ، ثم أداروا حلقة نقاش في الفاشر ، حول الحركة وأهدافها وتحدثوا عن الظلم الكبير على أهل المنطقة من قبل النظام في الخرطوم. ويبدو ان المتمردين لم يكونوا يستهدفون قتل الناس الابرياء، فقاموا بطرد قائد الدفاع الشعبي من مكتبه وطلبوا منه المغادرة إلى بيته، ولم يكن هذا التعامل مع قائد الدفاع الشعبي وحده بل كان مع عدد كبير من العسكريين والحكوميين ان طلبوا منهم الذهاب الي منازلهم حتي لا يصابوا بأذى، فقط كان همهم الاول البحث عن السلاح، ورغم ان الحكومة على لسان الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة أعلنت الهجوم لكنها لم تقل الحقيقة كالعادة في البيانات الرسمية، إلا ان شهود عيان اكدوا أن الخسائر في صفوف القوات الحكومية فادحة وضخمة تتجاوز الارقام الرسمية.
وبعد ذلك تطور المشهد المأساوي بشكل كبير تناولها الاعلام العالمي، بعد أن استخدمت حكومة الاسلامويون كل الاسلحة الجوية والبرية والمحرمة دوليا في دارفور، فقد ذكرت إذاعة (بي بي سي) لأول مرة عن قضية التطهير العرقي في نوفمبر 2003، كما ذكر مدير من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، أدلى بشهادة أمام الكونغرس، التطهير العرقي و"التطهير السكاني" الذي كان يحدث في دارفور.
في أبريل 2004، صدر تقريرًا عن هيومن رايتس ووتش (HRW) تحدث عن تدمير دارفور: التطهير العرقي من قبل قوات الحكومة والميليشيات في غرب السودان، تقريرا في 77 صفحة التي جمعتها هيومن رايتس ووتش بعد 25 يومًا قضاها في المنطقة،وصرح المدير التنفيذي للفرع الأفريقي لمنظمة هيومن رايتس ووتش، بيتر تاكيرامبودي، بأنه "لا يمكن أن يكون هناك شك في تسبب الحكومة السودانية في جرائم ضد الإنسانية في دارفور". كما يوثق تقرير هيومن رايتس ووتش قتل الجنجويد للدينيين وشيوخ القرآن الكريم داخل المساجد وتدنيس القرآن وتدمير المساجد.

الاعتراف ..!!.
رئيس النظام البائد اعترف في اكثر من مكان بمسؤولية النظام عن قتل مئات الآلاف من مواطني دارفور، وأشهر هذه الاعترافات مؤثقة على شبكة (اليوتيوب) بقوله " قتلنا أهل دارفور لأتفه الأسباب..!.
ود. مصطفى عثمان اسماعيل وزير الخارجية الأسبق عندما كان مستشارا للرئيس نفى مقتل 300 ألف في دارفور قائلا هم " 10 ألف فقط".
الخلاصة أن الذكرى العشرين للإبادة الجماعية في دارفور تجعلنا اكثر صميم وإرادة على ترسيخ مسألة عدم الإفلات من العقاب، ذلك لأن الضحايا سواء كانوا 500 ألف شخص أو 10 ألف شخص هم بشر ولهم أسر وان فقدهم كان كبيرا ومؤلما ولا زال، إن تجديد الذكرى تجعلنا نطالب ونكرر مطالبتنا بمحاسبة كل الذين ارتبكوا الجرائم في بلادنا العزيزة سواء في دارفور أو في الخرطوم أو في النيل الأزرق..فالدم السوداني واحد.
25 يوليو 2022م

khssen@gmail.com

 

آراء