في ذكرى الرحيل المر لشاعر الشعب محجوب شريف

 


 

 

نقاط بعد البث
عاشقان وقصيدة
ظل العديد من أصدقاء محجوب ووردي يستمتعون بكلمات القصيدة الثورية " مشتاقلك كتير والله للجيران وللحلة" أكان ذلك عندما يلقيها محجوب على مسامع من يلتفون حوله من أصدقائه مباشرة، أو بالنسبة لأصدقاء وردي في أمسيات السمر التي تجمعه بلفيف أصدقائه الذي يمتعهم بها ملحنة.
كانت القصيدة من أولى الأشعار الثورية التي صاغ كلماتها محجوب شريف وغناها وردي من داخل معتقلهما فترة الاعتقالات الأشهر بعد فشل انقلاب الشهيد هاشم العطا. وقد شكلت القصيدة ترياقاً مضاداً للشيوعيين في صمودهم وتحديهم الجسور للاعتقال وظروفه، وكانت ضمن القصائد التي تناقلها الناس خارج المعتقل سواء كلمات أو تلحين، وقد عبرت تماماً عن مكنون شخصية الشاعر التي جمعت الرقة والنبل وفي ذات الوقت جسارة الصمود والتحدي ورفض الانكسار أمام الجلاد.
وكغيرها من مناسبات القصائد التي الفها محجوب، فقد حدث ذات مرة أن محجوباً ـ وأنا في رفقته لمشوار مسائي بالأرجل كعادتنا داخل أحياء أم درمان ـ ترنم بأغنيته الثورية، فقبعت أستمع إليها منه وطرباً شفيفاً يحتويني، فجأة توقف عن الغناء قائلاً لي أن الأغنية لم تجد نصيبها من الذيوع والانتشار، وكنت أعلم أن السبب هو ما ذكره وردي للراحل محمد سعيد القدال الذي استفسره عنها وعن أغنيات ثورية أخرى من ضمنها أغنية " عبد الخالق هداي المسالك ،، أب قلباً حجر" ، وهن من أغنيات السجن الأسيرة لمعتقلي تلك الفترة، فأوضح له وردي بأن الأحداث قد تجاوزتها!، وهو ما حرص القدال عليه الرحمة على تضمينه في كتابه خفيف الظل "ذكريات في معتقل كوبر"، وكان وردي قد تصرف في اللحن الجميل الذي وضعه لأغنية "مشتاقلك" بأن "شحن" به فيما بعد كلمات لأغنية أخرى هي "يلا وتعال يلا نهاجر في بلاد الله" لشاعرها إسحق الحلنقي، فوجدت ذيوعاً وانتشاراً!.
قلت لمحجوب أنها تعد من القصائد الثورية الأولى له داخل المعتقل، وسألته عن ظروف وملابسات تأليفها.
قال أنه التقى بعبد العظيم عوض سرور داخل المعتقل، وسرور هو الضباط الشهير الذي كان أحد القيادات المنفذة لانقلاب 19 يوليو عام 1971 والذي قام باعتقال النميري وعدد من قيادات مجلس انقلابه، فحوكم بعشرين عاماً. قال أنه تعرف عليه من بين " رقراق" باب الحديد الفاصل بين قسم المعاملة الذي كان يضم المحكومين العسكريين من ضباط وجنود إنقلاب الشهيد هاشم العطا وكان عبد العظيم من بينهم، وبين قسم الكرنتينة "ب" الذي يجمع عدداً من المعتقلين السياسيين من شيوعيين وديمقراطيين من الذين تم القبض عليهم في أعقاب فشل المحاولة الانقلابية وكان محجوب من بينهم.
لم تكن هناك سابق معرفة بينهما سوى ما يتم تناقله عنهما في أوساط المعتقلين بسجن كوبر، وظل التعارف يجري يومياً بين رقراق الباب الحديدي الذي يفصل القسمين، وهكذا تمتنت علاقة اجتماعية حميمة بينهما، واخذت منحى إجتماعياً وسياسياً وأدبياً، خاصة عندما علم محجوب من عبد العظيم أنه يكتب الشعر، وهو من الف القصيدة الثورية الشهيرة والتي ظل يرددها المعتقلون السياسيون ومطلعها " الويل الويل يا خونة" وفيها يمجد الشهداء العسكريين جنوداً وضباطاً، وله كراسة شعرية ظل يخفيها عن أعين حراس السجن، والتي جلبها لمحجوب في أحد الأيام خلسة، حيث اطلع عليها وأعجب بها وظلا يتحاوران يومياً حول موضوعات أشعار الكراسة، حيث عرف محجوب أن جلً قصائد المجموعة الشعرية كتبها عبد العظيم في "سلمى زاهر" خطيبته، وقد كانت هي أيضاً عضوة بالحزب الشيوعي.
وقف محجوب على تفاصيل علاقتيهما، سيما وأنها أصبحت سلوى يومية لهما معاً في ذلك المكان الموحش، فظل عبد العظيم يحدثه عن أدق تفاصيل تلك العلاقة، وحكى له كيف أنه وبعد صدور الحكم عليه حاول إقناع خطيبته بأن تعيش حياتها كما ينبغي لها دون التقيد به، حيث لا يمكن أن يجبرها على انتظار رجل حكم عليه بالسجن لمدة عشرين عاماً!، وأن المنطق يقول أنها في حل من هذا الارتباط العاطفي وأن عليها التفكير بعقلانية في هذا الأمر، إلا أن سلمى رفضت مجرد مناقشة أو طرح الموضوع للحوار بينهما، وظلت في انتظاره ولم تنقص مشاعرها تجاهه مطلقاً وقد ظلت وفية للعلاقة التي تربطهما ، حيث قاومت سلمى وأخلصت الثبات، ساعدت خطيبها ـ وهو بالمعتقل يقضي سنوات سجنه العشرين ـ ليجلس مرة أخرى لامتحان الشهادة السودانية فتوفر له المراجع الدراسية وكذا وهو يدرس الحقوق بالمراسلة ويجلس لامتحان المعادلة فينجح، وهكذا حتى قيض الله لهما بأن يلتقيا بعد سنوات قليلة وعبد العظيم حراً طليقاً!.
قال محجوب أن هذه العلاقة هزت مشاعره، سيما وهو في سجن تتخلق فيه المشاعر الانسانية وتفيض!، وقال أنه لم ينس تلك المناديل ذات اللون الأحمر التي ظلت خطيبة عبد العظيم تبعثها له ضمن هدايا أخرى بالمعتقل.
فهزً ثبات شابة سودانية ، وجدان الشاعر في كونها وهي بتلك المشاعر الصادقة تجاه من ترتبط به لم تلن أو تنكسر أو تتراجع عن علاقتها به وهو شخص أصبح مصيره مجهولاً، فانتج الشاعر تلك الأغنية التي أصبحت من أشهر الأغنيات الثورية للمعتقلين الذين ظلوا يرددوها ضمن أخريات ثوريات في كل اعتقال ومحبس ومنها يستمدون أكسير الصمود والتحدي الذي ظل محجوب ينتجه لهم!.
يقول محجوب أن قصيدة في داخله بدأت تتشكل وهي ترسم ملامح هذه العلاقة التي اختلط فيها العاطفي بالثوري، فبانت أولى أبيات وكلمات قصيدة يتبن فيها محجوب هذه العلاقة ويتخذها قضيته الشخصية التي يواجه بها الجلاد وهو يدافع بلسان المحب الولهان عن عشقه للمحبوبة فيعبر عن كل ذلك في قصيدة "الحب والثورة" والتي مطلعها :ـ
مشتاقلك كتير والله للجيران وللحلة.
فيما بعد حدث وأن تم ترحيل مجموعة من المعتقلين السياسيين من سجن كوبر إلى سجن شالا بأقصى الغرب، وكان ضمنهم كل من محجوب وعبد العظيم عوض سرور، قال محجوب أن الترحيل تم بواسطة القطار، وتلك كانت "غلطة الشاطر" بالنسبة للمسؤولين بجهاز أمن النميري، ولم يكرروها مطلقاً، حيث أتاحوا للمعتقلين السياسيين "فرصة العمر" بأن وجدوا فرصة ثمينة لا تعوض بمجرد تحرك القطار من محطة السكة حديد بالخرطوم بحري، حيث بدأت هتافاتهم تشق عنان السماء في كل محطة من محطات تخوم غرب البلاد والتي يتوقف فيها القطار الذي يقلهم، ليتجمع الناس لدى سماعهم الهتافات المدوية، فكانت "فرصة مجانية" منحتها السلطة للمعتقلين من أجل تعبئة الجماهير وتأليبها ضد النظام الديكتاتوري العسكري"، وهو الترحيل الذي كتب محجوب في مقابله القصيدة الأشهر له فيما بعد بسجن شالا " ودانا لي شالا وعزتنا ما شالا ،، نحنا البلد خيرا وعزت أحفادا"!.
من داخل ذاك القطار يبدأ محجوب صياغة الأبيات الأولى لقصيدته "مشتاقلك كتير والله"، ليكملها بسجن شالا فتصل لوردي بسجن كوبر ليستمع المعتقلون لذاك اللحن الجميل لها بصوت الراحل وردي.
***
يعبر الشاعر الراحل د. جيلي عبد الرحمن عن ما يمور داخل أبيات هذه القصيدة العذبة فيوضح ضمن دراسته النقدية بعنوان " الشاعر ضمير عصره" والتي قدم بها ديوان محجوب "الأطفال والعساكر" والذي ضم هذه القصيدة ضمن قصائد ثورية أخرى:ـ
" محطة... محطة بتذكر
عيونك ونحن فى المنفى
وبتذكر مناديلك
خيوطا الحمرا... ما صدفة
وبتذكر سؤالك لي
متين جرح البلد يشفى
ومتين تضحك سما الخرطوم
حبيبتنا ومتين تصفا؟"
فيقول جيلي عن ذلك:ـ
" مثل هذا الحب ينبع من قلب إنسانى، لا يتسع لإنسانه فقط... ولكنه يستوعب هموم الفقراء الذين من أجلهم سيق الى السجن، إنه الحب، القضيَّة، الموقف... وليس ثمة عموميَّة فقد نسج العلاقة بالخيوط الحمراء، بسؤالها عن الجرح الأحمر، وسماء الخرطوم التى يعكر صفوها الإكفهرار... وتفيض إنسانيته فيصفح عنها حتى لو نسيته أو ذرفت على غيمته الدموع... ولكنه يحرضها عليه إن القى سيفه وخان الثورة... ولعمري ليس من إلتزام أوثق، أو إنسانيَّة ثوريَّة أصفى من ذلك السمو... وطرح السؤال في حد ذاته تعبير دراماتيكي عما يكابده... إنه يضوى النقيض بالنقيض... ويتغلغل داخل الحدث فيمنحه تأثيراً وبلاغة نفاذتين..."اننى سوف أصفح عن ضعفك... ولكن إياك أن تقبلي ذلتي وهواني
أسامحك لو نسيتيني وأهنتيني
وبكيتي علي
لو في يوم رميت سيفي
ورفعت إيدي
وخنت الثورة... جيت والذلة في عينىَّ
حرام عينيك بناغمونى ويرحبو بىَّ
حرام إيديك ينومن تاني فى إيدىَّ"
***
يتم إطلاق سراح الضابط عبد العظيم لاحقاً فيخرج من السجن وهو يهفو بجناحيه لخطيبته سلمي بعد ما عُرف بالمصالحة الوطنية التي تم بها اطلاق سرح المحكومين والمعتقلين السياسيين عام 1977 ليتكلل صموده وصمودها نجاحاً هزم مؤسسة الاعتقال والجلاد "حيث غنى العشاق المحبين وهم في أسره، بينما ظل هو يرجف داخل قصره"!.
تزوج عبد العظيم عوض سرور من سلمى زاهر فيشتغل بالمحاماة لفترة ويغادر بعدها مع زوجته ضمن الآلاف الذين شردهم نظام الانقاذ كلاجئ سياسي بكندا التي فها ترعرع أبنائهما وتزوجوا وأنجبوا كل من وليد وعمر وعزة، وليصبح عبد العظيم وسلمى أجداداً أيضاً وهما يستمتعا بالذكريات المفعمة بشتى الانفعالات لسنوات السجن وليردد معهم أحفادهما:ـ
مشتاقلك كتير والله
للجيران وللحلة
زمان قطر النضال ولى
وغالي عي أدلى"
أمد الله في أيامهم جميعاً ورحم محجوب شريف ،، شاعر الشعب عن حق وحقيقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل من كتاب " محجوب شريف ،، نار الحكاوي ونورها، د. حسن الجزولي، تقديم الشاعر محمد المكي إبراهيم، عن دار المصورات 2022.
* لجنة تفكيك التمكين كانت تمثلني وستمثلني لاحقاً أيضاً.

hassangizuli85@gmail.com
////////////////////////////

 

آراء