في ذكرى العميد م: عُمر خالد الشيخ ود بَدُر

 


 

 

 

لك نُسكُكَ عند الممات يا من أخذت مكانك في دورة الدنيا، في وجهِك مصباحان تُريانك النورَ منذ صرخة العُمر الأولى، ومصباح ثالثً لا يراه إلا العارفون. عَبرة مُثقَلة بدمع الذكرى تُليِّن المآقي أخذتني يوم جمعة. ذات اليوم الذي يُماثل يوم فراقك. سبتمبر هو الشهر، والساعة أقل بساعة ونصف الساعة عن موعد انقضاء عُمرك، وميعاد الروح تلبس ثوب زفاها لعُناب بريق الكتاب المسطور وتقرأ كتابك. رُفعت الأقلام و جفت الصحائف من قبل، حين أُذن للآفاق أن صاحب الوقت يريد وديعته التي أودعها جسد حبيب من أحبائنا طيب الذكر ( عمر خالد الشيخ ود بدُر).

(2)

قبل أن يستَجِير الخاطر بلمحة الحُلم لنكتُب، احترت ماذا أُسميك: أ أنتَ العميد معاش مهندس عُمر خالد كرفيق دربٍ ومِهنة، أم أنتَ الرجل سَمح السيرة الذي جمعنا معه وبعض أصدقاء العُمر وُدٌ ومحبة قبل بدء الألفية الثالثة، أم أنتَ يا تُرى الشيخ عُمر خالد الشيخ ود بَدُر، مُلتفاً بثوب التخفي، كنت بيننا و لم نُدرِك إنك الكنـز إلا ساعة رحيلك ؟ .
ما أعجبها دُنيا !

معاً .. برفقتك أكثر من عامين، مرت من لطافة مُصاحبتِكَ كساعة زمان. نِعمَ العُشرة والرفقة أنتَ. نعمل ونستطعِم ونستأنِس معاً، وتضمنا غرفة واحدة نستريح إليها من مشقة العمل. مُتأخِراً تنام أنت، كنتَ أكبرنا سناً. تُسامِرنا، وتغُض الطرف عن هَفواتنا. تتبسَّم عند كل المُنعطفات ونحن نلهث في شقاوة الدُنيا و جَبر المَنافي.

(3)

أتذكر حين خاطبك أحد الأصدقاء بشقاوة الحديث ضاحِكاً:

- أأنت ابن الشيوخ ؟، .. لِمَ كان القرار بتقاعُدك من القوات المُسلحة السودانية برُتبة ( عميد ) وأنت في قمة العطاء؟ .

تبسمت أنتَ قائلاً :

- تلك مَشيئته تعالى. رُفعت الأقلام و جفَّت الصحائف. لم تكُن سيرتي غير مُجوِّداً عملي مع الانضباط وفق النُظم، وما كنتُ أستحق أن أترجل عن صهوة الجواد الجموح لكن ...، المُعاملة الطيبة مع الأقران وكل منْ عمِلتَ معهم كان نهجي. بيني وبين الجميع على اختلاف مَشاربهم ودٌ لا ينقطع، ولن أتحدث عن الأمر. باب رزق المولى أوسع، والمصائر لا يملكها أحد. جلَّ المالك إن أمر، اندلقت الأسباب ونزع الله المُلك نزعا .

رغم الإلحاح لم تتحدث أنتَ عن الآخرين إلا في الخير المُطلق، ولم تضجرْ. ونعلم جميعاً حال التسعينات وما تمَّ في الخدمة المدنية والعسكرية في السودان. في العمل عندما خَبِرناك، كان الأجر الذي تتقاضاه زهيداً بمقدار عملك، يلهث الأجر يُسابق فضل أعمالك، طالباً اللحاق ولا يصل ! .
كُنا جلوساً ذات مساء و (عمر خالد ) بيننا، نتراشق بألفاظ السَمر ومَكر الحديث البريء بين بعضنا. قال أحدنا :

- أصحيح أنت حفيد الشيخ وَد بَدُر، ومن أهل أم ضَواً بانْ؟
يرُد ( عُمر ) بلُطفه مُتبسماً :

- نعم .

ويقول آخر :

- ما رأينا منك عجباً من تُميِّز الشيوخ عن غيرهم سوى أن الجميع يودونّك !.

ضحكَ الشيخ عمر وقال :

- وحدها محبة الناس نِعمة، قال النبي الكريم ( المرء مع منْ أحب ). ربما لم تعرفونني حق المعرفة، فالوجه الظاهر هو كجبل الجليد كما تقول الأمثال. أهلنا نار قُرآنهم لا تزهد اللّهَب، وإن تيسرت الدُنيا سترون تلك النار لا محالة. ستزورون بيوت أجدادنا وتنعمون " بالقَدَحْ البِكفي " .

(4)

ذهب الحديث بيننا في سَرَبِ المُداعبة والمُؤانسة، حتى جاء اليوم المشهود :
من بعد ظهر الخميس تأخرت وجبة منتصف النهار، التي نعُدها في موقع العمل حتى موعد استكمال إجراءات نقل كفالته وفق نُظم الدولة التي في عباءتها نَعمَل. اكتمل نصف الإجراء وتبقى الآخر و تطلب التأجيل إلى يوم السبت. تعيّن على " عُمر " الانتظار. أيزور هو العشيرة في مدينة أخرى، تبعد أكثر من أربعين ومائة كيلومترا عن موقع العمل، أم ينتظر السبت ليُكمِل الإجراء؟. آثر هو انتظار السبت، وقرر البقاء عُطلة نهاية الأسبوع في السكن المؤقت قرب الموقع. في السادسة مساء وبعد انتهاء الفترة المسائية للعمل ودَّعته ضمن آخرين وغادرت إلى وسط مدينة العين، التي كانت تبعد نيف وثلاثين كيلومترا.

(5)

في اليوم التالي غادر" عُمر " بسيارة صالون صغيرة ضمن رفاقه لصلاة الجمعة في منتصف النهار في مسجد على مقربة في ضاحية ( أم غافة ) على أطراف مدينة العين. عند العودة من صلاة الجمعة و قبل الانعطاف غدرت بهم سيارة أتتهم من الخلف، ولم يتحسب صاحبها الانتباه أو السرعة التي تُناسِب. الجسد نقياً على طُهر وضوئه سليماً ومَغّمض العينين أسلم حبيبنا ( عُمر ) الروح في لحظات بلا خدوش في ظاهر الجسد .

لم تزل الذكرى تنضحُ بوجع الفراق منذ أكثر من ثماني سنوات، ولم نزل نذكر أحد الرفاق يستعجله الغُسل والحمّام استعداداً لصلاة الجُمعة تلك :

- يا عُمر أسرع .. " إنتَ قَايل نَفسَكْ عَريس " ؟

وقد كان عريساً بالفِعل . سبحان المولى !.
من بعد صلاة العصر يوم السبت، وفي مسجد بوسط مدينة العين، كانت الصلاة على جثمان حفيد الشيخ ود بَدُر، قبل مُغادرته ليوارى الثرى في أرض الوطن. تقاطرت الأفواج من كل حدب وصوب. من بوابة المسجد ونحن نهُمّ الخروج بالجُثمان انهمرت السماء أدمعاً من مطرٍ فُجائي كاسِح، غسلتنا المياه بغتة وبلا إنذار وفي غير ميعادها. تخفف الأهل والأقرباء مودعين إلى مطار أبو ظبي الدولي و من ثم إلى الوطن بالطائرة .

(6)

استفردت بنا عَباءة الحُزن من بعد وداعه الأخير. غادرتُ إلى مسكني برفقة زميلنا المهندس صلاح بسيارته. لم نُكمل كيلو متراً واحداً بعيداً عن المسجِد حتى رأينا الأرض جافَّة من حولنا وتعجبنا!. كأن السحابة قد تَخَيَّرت مكان الصلاة عليه فجاءت تُودعه. تَحدثت بلُغتها، وأمسكت قطراتها بلباس رواد الموكب والمودعين!. لم يكن الزمان موسم مطر، فميعاده الشتاء ونحن في أول سبتمبر!. تعجب المهندس صلاح وهمس وهو ممسك بمِقود السيارة التي تُقلنا :

- سبحان الله !

تذكرت ساعتها قول العالِم السيد الغريب أبو عمارة الحُسين بن منصور في خلوة من خلوات صفائه :
إذا دَهَمَتْكَ خُيولُ البِعَـــادِ .. وَنَادَى الإياسُ بِقَطْعِ الرَّجا
فَخُضْ في شَمالِكَ تِرسَ الخُضُوعِ .. وَشُدَّ اليمينَ بِسيفِ البُكَا
وَنَفْسَكَ، نَفْسَكَ! كُنْ خائفاً .. عَلَى حَذَرٍ مِنْ كَمينٍ الجَفَا
فَإنْ جَاءَكَ الهَجْرُ في ظُلْمَــةٍ .. فَسِرْ في مَشَاعِلِ نُورِ الصَّفا
وَقُلْ للحَبيبِ، تَرَى ذِلَّـتي ؟! .. فَجُدْ لي بِعَفْوِكَ قَبْلَ اللِّقـا
فَوَ الحُبِّ، لا تنثَني رَاجِعــاً .. عَنِ الحُبِّ إلاّ بِعَوْضِ المُنَى

(7)

في الخرطوم تقاطر المعارف والأهل والمريدون، وأهل الذكر، وتراقصت الأجساد في مدح المصطفى عليه أفضل السلام، على نهج الأرياف عندنا، وهم يودعونه الوداع المهيب. لم يترك أهل السلطان المكان لأشواق الأحباء وحدهم، بل جاءوا عن بكرة أبيهم يغسلون الماضي إذ كافئوه وهو في قمة عطائه في الأشغال العسكرية في التسعينات بالإحالة للمعاش!. رفعوا أيديهم يقرءون فاتحة الكتاب، فالقلوب البيضاء في سُحب الحُزن والأسى.. تنسى.
*
لتغتسل مرايا القلب الخافق وقد سكن، بماء الجِنان الموعُودة بإذن مولاه، وتُعطر قبره دوماً برياحينها الفوَّاحة كأنفاسه بيننا، حين كانت الروح تَرفُل في حُلَّة الجَسد .

عبدالله الشقليني
12أغسطس2020

alshiglini@gmail.com

 

آراء