في ذكرى الفنان والرسام :عيون كديس (1940 -2017)
اسمه : " محمد عثمان صالح الاغا "
(1)
تأثرت طفولتنا ، عندما نزور سوق أم درمان في خمسينات القرن الماضي ، ونحن نتطوَّف على المقاهي التي كانت حول السوق . نرغب أن نشرب كوب عصير بارد من الليمون أو التفاح أو الجوّافة باللّبن . أخلاط جديدة علينا في ذلك الزمان.
نقف داخل تلك المحال التجارية إن تيسر أن نكون من زبائنها . ننظُر زينتها من الداخل ، وتفاجُئنا لوحات بتوقيع " عيون كديس ". نتأمل جماليات الرسم ، ونُضاهيه في مُخيّلتنا بالنماذج التي نعرفها في الحياة .
كانت لوحات تحوي موضوعات شتى : المناظر الطبيعية ، من خُضرة ومياه وسماء وغُيوم وحيوانات وطيور .وفيها أوجه النساء والرجال وسفائن الصحراء ، وبيوت الطين والأشجار والشجيرات ومُغطيات التُربة .صور من الحياة السودانية ، دونتها ريشة فنان ، كافح من خارج مؤسسة تعليم الرسمي الأكاديمي .مرسومة تلك النماذج بخيالٍ واسع يهتّم بدقائق التفاصيل . فالمياه ساكنة إلا من موجٍ حدد مكانه " الفنان " بصورة مموهة . رسوم حالمة . أخذت تقاطيع صورها من الواقع . وأكسبها الفنان من خلال تقنيّته في الرسم ، صفاء وودِاعة . رسوم ربما كانت ترتفع بالواقع كثيراً ، تُنضره من التشويش . وتأتيك الرؤى لمجتمعات الماضي بأيقوناتها الحياتية . أوجه المرأة في رسومه، وتقاطيع وجهها تكاد أنت تلمحها في حياتك اليومية . الأوجه صافية التكوين ونظرات شخوصها الريفية هادئة ، هُلامية الملمس . ننظُر تلك الشخوص التي يختارها الفنان " عيون كديس " ،تجد البيوت الريفية حول تلك النماذج الحيّة ، فنراها أجمل كثيراً من الواقع ، فتعيد النظر في البيئة بعاطفة ورقّة جديدة .تُحيط الأشجار الباسقة بالمساكن ، رغم أن بيوت الطين كانت هي الغالبة في منطقة أم درمان، وكثير من أشباه المدائن والقُرى . وننتبه أن الفن لدى " عيون كديس " جزء من قماشة الأحلام أكثر مما هو تصوير للواقع . هو لم يُجلِّس النماذج الإنسانية ساكنة أمامه لينقلها في لوحات الرسم . إن التعقيد الاجتماعي لم يُتح له تلك الفُسحة أو ذاك البراح ، إضافة للإرث الثقافي السالب ، الذي يقف أمام تساؤل كبير ، حول جدوى الرسم ، رغم أنه موجود في نقش الثياب وفساتين النسوة والفتيات بألوانها الصارخة ، والنقوش الزاهية التي تزخر بها طقوس المناسبات وفي الصناعات المحليّة " كالدمَّور " الذي كان من الأقمشة المُحببة إلى الرئيس الأزهري في أيامه . تناقُض كلها مفاهيم اجتماعية ، تشرئب من الستر ،تحاول التقييد والحظر ،وبلا ضجيج . تلك التناقضات الذائبة في بعضها ، تمنع التطور في ابداع فن الرسم عامّة وفن النحت خاصة . وذلك تاريخ موروث منذ دولة المهدية . طابع الحياة قبل حملة " اللورد كتشنر" عام 1898 م التي قضت على تاريخ ما قبلها ، أدخلت الحداثة بمدافع القتل ، ابتداء بعد هزيمة " كرري " .تدريجياً بدأت الحياة المُتسامحة تختلط بالغليظة .تمشيان معاً في رفقة غريبة !.
(2)
كانت عينا الفنان " عيون كديس " الثاقبة حين تنظر ، تنقل كل التفاصيل . يصوِّر الحياة كما يراها هوّ ، ويُعيد تكوينها وفق تجربته وممارسته ورؤاه . ربما كانت تجربة " عيون كديس " منذ نشأة طفولته في " حي العرب بأم درمان " في أربعينات القرن الماضي ،تختلف جودَّة وممارسة ودقّة تفاصيل ،عن تراث الرسم والنحت الذي ورثناه من عمالقة عصر النهضة في الضفة الأخرى من العالم ، مثل " روفائيل " أو" جيتو " أو " فيليبو برونساشي" أو " تتيان " أو " مايكل أنجلوا " أو " دافشي " وغيرهم ، حيث كانت الحياة الاجتماعية في زمانهم تُبيح رؤية تفاصيل الأجساد الآدمية عن قُرب ، ولا تمنعهم التقاليد ولا الأعراف الاجتماعية ولا التصورات الدينية .
(3)
لم تكُن حياتنا الاجتماعية في الخمسينات أو الستينات في أم درمان جاذبة للحياة العصرية المتقدّمة . ولكنها خطوة في ظل نمو قرى ومدائن دول الاستعمار . كانت أم درمان تُصنف كأكبر قرية في العالم عام 1948 ، رغم أنها كانت مُهملة في ظل نمو " الخرطوم " المدينة المُجاورة ، وقد اعتبرها المُستعمر نموذجاً صارخاً للحُكم الوطني الذي اغتال " غردون باشا " ، إلا أن دخول التُجار من الشوّام والأرمن والهنود واليونانيين وغيرهم من الأعراق التي وفدت عند اكتمال البنية التحتية في السودان لأغراض تجارية واقتصادية ، أسهمت في انفتاح الحياة الاجتماعية عند بداية الحُكم الثنائي . تغيرت الحياة الاقتصادية وتعددت المِهن وانفتحت على رؤى جديدة ، وتطور فن الغناء من " الدوبيت " و " الحُمبي " إلى غناء شعبي أكثر حداثة ، كله ،غير ما كانت عليه الحياة أيام حكم " الخليفة عبدالله " .
أسهم ذلك كثيراً في فك الحظر على الفنون عامة من قبضة قيّم الدولة الوطنية السابقة لدخول الحُكم الثنائي .بدأ تطور الحياة التجارية بعد تأسيس تخطيط للمدائن الناشئة ، بتحديد المساحات السكنية وتسجيل ملكيتها وشقّ الطرقات وتنظيمها ، وتدريجياً دخلت صنابير المياه إلى البيوت والكهرباء بعد السكك الحديدية في العاصمة ،لكن بنمو بطيء. كان ذلك في مدن : مدني ، الخرطوم ، أم درمان ، وبورتسودان وغيرها.
بدأت الحياة الاقتصادية في مجتمع عاصمة السودان .ونمت الحِرف اليدوية مع الاهتمام بالديكور الداخلي للمحال التجارية الجديدة والمتنوعة والسلع المستوردة وعلاماتها التجارية المُكثفة بالرسوم والألوان والصور . في أم درمان كان التطور أقلّ من مدينة " الخرطوم ". أحدث ذلك كله أثره الفاعل في طفولة " عيون كديس ".
قامت سينما " برمبل بيه " في سوق أم درمان لعرض الأفلام ، ونشأت الإذاعة السودانية أثناء الحرب العالمية الثانية .وكذلك نشأت سينما " العرضة " وسينما " الجيش ببانت " وجميعها في أم درمان .كان لها جميعاً دورها في تنوير الأبصار التي تنظر التصاوير والديكور وأزياء المُمثلين والممثلات ، والسيارات والطرقات والحدائق والمباني ذات الطبقات المُتعددة واللغة وطرائق حديثها .
(4)
في بطن مباني سوق أم درمان التجارية ، نشأت أسواق لصناعة التُّحف والتماثيل من الأبنوس أو من العاج. تجد تماثيل الحيوانات من بيئة الصحارى أو الغابات أو من القُرى . هي في أحجام صغيرة تحملها أنت بين يديك . وتجد أيضاً " سوق النساء " بأم درمان مغروزاً في وسط السوق . تجد أنت لديها الأعمال اليدوية المتنوعة للأغراض المُستخدمة ، كحافظات النقود و"البروش" و " الطُباقة " والسجّاد المصنوع من سَّعف النخيل بعد تلوينه .و تجد الأطباق والسلال بأنواعها ،و"الطواقي " ذات الألوان البُرتقالية الصادحة، وهي صناعة يدوية تقوم بها النساء في منازلهم في مرحلتها الأولى .ونقوم نحن ُ ببيعها في " سوق النساء " ، حيث يتم إكمال نسيجها لتصبح " طواقي " التي يرتديها العامة والخاصة ، ضمن العمائم أو بدونها .
في خمسينات القرن الماضي نشأت وتشكّلت طفولة " عيون كديس " .
ربما يطول الحديث عن الحرف اليدوية. ولها طبيعة مُغايرة بسبب الاستخدام ، والتي كانت تمُد ذاكرة جيل رسامنا بإرث بصري غني . تلك كانت طبيعة مُغايرة لنمط الحياة الاجتماعية التقليدية التي شقّت طريقها في الحياة كما أوضحنا. و علمنا من تاريخ أم درمان في مطلع القرن الماضي كيف نهضت الأحياء بوظائف الحِرف اليدوية ، كصناعة سروج البغال والحمير " ، أو صناعة " المراكيب " وأنواع العِصي والسياط ، وخياطة الصدري والجلباب والقميص البلدي والسراويل الشعبية . تلك صناعة ترتبط بصناعة الجَّمال . وكانت صناعة يدوية مُزدهرة على أيام استخدام الحيوان للتنقُل ، قبل هيمنة السيارات . فأم درمان وطن المهاجر القديمة ، خاصة الهجرة التي أمر بها " خليفة المهدي " للقبائل من غرب السودان للرحيل إلى عاصمة المهدية . وتلك قصة مُتشعبة أخرى، تكتشف أنها كانت تقف وراء تقاليد وأعراف وثقافات متنوعة ، تواثبت مع الزمن لتُشكل ثقافة أم درمان .
(5)
كانت الحياة في وسط السودان تعُج بالنماذج التي تتلقفها عيون "الفنان" ، إضافة لمصادر التجارة في زمن الاستعمار ، ودور السينما ،في تطوّر الذائقة الفنية لدى بعض الناس الذين يمتهنون الحِرف اليدوية ، لكن عينا الفنان " عيون كديس " تقف مُنتبهة عندها،تنظر التفاصيل بمحبة ، ففي ذهن الفنان الخلّاق ، تستعصي هي على الضياع .
خامة صناعة الرسم كانت تُوفرها الأسواق في العاصمة . ومحل " جورج مشرقي " في أم درمان، دار يلتقي عندها الكثيرون من الذين يتوثبون للخروج من مُجتمع البداوة إلى الحياة العصرية في منتصف القرن الماضي وما بعده .
"مدرسة النقل " وفق نظرية المنظور و طبيعة العيون البشرية ، تعرّف عليها الفنان " عيون كديس " دون تعليم أكاديمي . كان التجريب والمِران هما المدرسة التي صقلت موهبته . واستحسان القلّة كان الدافع . وتجارة بيع اللوحات للمقاهي والمطاعم وصناعة اللافتات للمحال التجارية، كانت من مصادر بقاء تلك الموهبة ، وديمومة تواصلها ، ومدّها بأسباب الحياة.
(6)
رحل الفنان التشكيلي " عيون كديس " في أغسطس 2017 ، بعد حياة صاخبة بالإبداع ، إذ تنقل بلوحاته لبعض مدن السودان وفق ما يتيسر . هو نموذج لأبطال حقيقيين ، كرّسوا حياتهم للعمل الإبداعي المُتميّز . وعلى الطرف الآخر من مُعادلة الحياة ، نجد اليوم محاولات مُستميتة تتواثب لمحو الذاكرة الشعبية من أناس قدموا الكثير من أجل الوعي في صمت. وشهدنا اليوم تشكيك في جدوى الإبداع ، وسيرة تدخل كلها في كساء الظلام الذي يحاول البعض إلباسه للناس.
تمجَّدت سيرتك سيدي ، بطلٌ من أبطالنا الأماجد .
عبدالله الشقليني
31 أغسطس 2017
عبد الله الشقليني
alshiglini@gmail.com