في ذكرى المطرب مصطفى سيد احمد: الرحيل النبيل
حسن الجزولي
4 February, 2013
4 February, 2013
الرحيل النبيل*
خطف الموت - بعد طول تربص – الأستاذ مصطفى سيد احمد المقبول، المستشار العاطفي لآمال الجيل الطالع من أولاد وبنات السودان والوكيل المكلف من قبل الآلاف من مستمعيه للتعبير بالانابة عنهم عن آلامهم ومعاناتهم أمام سلاطين آخر الزمان الذين سلطتهم شرورهم لمصادرة كل ما هو سمح سماحة الشعب وطيب طيبة الوطن.
وبرحيل هذا المطرب الوديع والمتماسك حتى مثواه الأخير، فقد تبعثرت موسيقى ناي حزين، لا لكي تدريها رياح العاصمة، وإنما لتستقر في أفئدة الذين سيأتون في الزمن الطالع وخلفهم غبار الحياة من أبناء وبنات الوطن الذين يحفظون عن ظهر قلب كل رفيع من إبداع طلع من بينهم وعبر عنهم. ويحفظون عن ظهر قلب كل رصين من فن لا ينتمي إلى عهر أو رهبة أو رغبة، كما يحفظون عن ظهر قلب كل إسم في السودان أياً كان موقعه منح ذاته لهم كالمحبة ،، وكالورود التي تنشر الشذى، ولقد آن الأوان – بل جاءت اللحظة التي ينبغي لكل مطرب في السودان أن يستعيد خلالها في ومضة استرجاع ما قدم وما أخر لهذا الشعب الوفي الذي ما انتظر أبداً سوى الصدق!.
لله دركيا مصطفى ،، فقد أكرمت شعبك فناً أصيلاً لم يهادن أو ينكسر، حتى في قمة المعاناة الشخصية والأسرية لم تقبل بفتات السلطان تأثيراً للسلامة، ولم تنزوي على ذاتك صداً للأبواب التي تأتي منها الرياح، بل إعتصرت الألم الدفين وشحنت الناي للشدو النبيل لتعمق فينا التماسك والمقاومة وحتمية الانتصار.
يا ضلنا المرسوم على رمل المسافة
وشاكي من طول الطريق
قول للبنية الخايفة من نار الحروف
تحرق بيوتات الفريق
قول ليها ما تتخوفي
دي النسمة بتجيب الأمل
والأمل بصبح رفيق
والأصلو في الجوف إندفن
لا بتمحي ،،
لا بتنسي ،،
لا بنتهي منه الحنين.
عن هدا يقول راحلنا في آخر مقابلة صحفية قيمة أُجريت معه ( من خلال معايشتي للألم يمكنني أن أقول أن الألم قد يجعلك تنكفي على ذاتك، أو تنفلت منها، وفي حالة الانكفاء على الذات تتوارى كوامن الابداع وتندثر وتموت، وفي الحالة الثانية، حالة الانفلات تكتسب قدرة أكبر من الأحساس بالألم الآخرين، ويستحيل هذا الاحساس إلى مشاركة أعمق وأرحب بشكل موضوعي "..." إن الاحساس بالجوع يجعلك تحس بجوع الآخرين، تلتفت إليهم، تتعاطف معهم، تنحاز إليهم، وتتبنى في النهاية موقفاً معارضاً للجوع حيثما وجد).
أي حديث أكثر رصانة من هذا؟! ،، وأي وجهة نظر مسؤولة من فنان مسؤول تؤكد أن فردية المبدع ليست مطلقة؟!،، إن الفنان إبن بيئته ولا يمكن له أن يتكون خارج هذا الاطار، وحقاً قد آن الأوان، بل جاءت اللحظة التي ينبغي فيها لكل مطرب في السودان أن يستعيد خلالها في ومضة إسترجاع ما قدم وما أخر لهذا الشعب الوفي الذي ما انتظر سوى الصدق!، لأننا نقول أن صوت الفنان لن يكون في مطلق الأحوال ذاتياً، بل أن بحثه عن التجارب والتجريب ستربطه وتلقائياً بقضية ما، وغالباً سيعطي نفسه لها حتى الرمق الأخير، وهو ما كانه راحلنا الأستاذ مصطفى.
لقد درج بعض السادة المغنواتية ومن يبررون لهم إلى مقاربة سياسة معينة، لكنهم لا يقولون أن السياسة تضر بمثل هذا الفن " أما إذا قارن الفنان الملتزم إيماءة سياسية في فنه فإنهم يثورون ويولولون ، وهو الأمر الأكثر مدعاة للنفاق ومخاصمة الصدق، حيث أن للفنان الملتزم تجربة أكثر خصوبة بما لا يقاس، وله من التجارب ما يكفي لكي يقدم إبداعاً عن الحياة وعن الناس إلى آخر العمر، أما هم ، أولئك الذين لا يبدعون ويؤذي قريحتهم التي لا تجود أن يبدع الآخرون فإنهم لا يعرفون التجارب!، لذلك يقدمون الحاناً باهتة وأغنيات تافهة".
هذا ما عبر عنه راحلنا في المقابلة الصحفية المشار إليها حينما قال " إنني لا أجد نفسي في مساحة لذلك النوع من الغناء الذي يعطي الناس " التعسيلة " و "الغمدة" ،، لا أجد غناءاً يعطي الآخرين وسائد للخدر اللذيذ والطرب،، فواقعي من واقع أمتي وأمتي واقعها أليم ومفجع ، ويبقى بالضرورة أن تلمس هذا الواقع، تدق على أبوابه لشحذ الهمم والتحريض على التماسك. لقد سقطت بالطبع مقولة أن الفن للفن، وبقيت مقولة أن الفن للانسان والحياة.
خاصمته الأجهزة الرسمية ولجان النصوص والألحان التي تشكلت بفرمان البلاط، لأنهم المتحكمون في أذواق العباد والمتربصون على قمة أجهزة السنسرة والمصادرة، وما انتبهوا إلى أن حسهم قد تكلس، وأن فرضياتهم قد تحجرت فتخطاهم مصطفى، وهو يتحداهم بعنفوان فني واثق وبمشروع إبداعي ثر، فأفسحت له ندوات الشباب منابرها والأحياء دورها العامرة والأزقة الشعبية جنباتها، فدخل القلوب واستقر بالأفئدة والضمائر. وما عرفت أجهزة الاتصال الرسمية وجهابذتها " لو أن العصفور لكي ينشد فطالعهم يلتمس العذر لانطفأ العالم"!.
خاصموه مبدعاً وخاصموه بتشف والألم الممض يفتك بجنبتيه،، تركوه وخالوا أنه وحيداً، إلا أنه قاومهم، قاوم مرضه ومرضهم، وشتان بين مرضين، أما وقد أنبشت المنية أظافرها في جسده الغض، تسارعوا لأجهزة الاعلام التي صادروها من الشعب لكي يتباروا في رثائه، فجاءت كلمة رثاء وزير ثقافتهم هرطقة لا تقوى العقول على هضمها، نعم وهم الذين عودونا دائماً أن عبارات الرثاء في بعض من فارقونا خفافاً، منذ اغتيال الديمقراطية الثالثة، إنما تستفز بأكثر مما تعبر عن التمجيد!.
إن آخر من تحق لهم كلمات الرثاء في رحيل من هم في قامة مصطفى سيد احمد المقبول هم أولئك الذين صادروا الفن واعتقلوا الابداع وعادوا الثقافة والمثقفين الوطنيين، وأطلقوا من مستودعات معارفهم السلفية الجهل مسلحاً بالنبال والنصال الحادة لتغدر بمطربي الجماهير في دورهم الوديعة، وما انفكوا يتحسسون السيخ ومقابض الجنازير كلما طرقت أسماعهم الحاناً عذبة أو أشعاراً نيرة، هم الذين ظلوا يروجون لكل غث وركيك لا تستسيغة الأذن ولا الذوق العام من شاكلة " دفاعنا الشعبي ،، ياهو دي"!.
رغماً عن أنوفهم جميعاً عاش راحلنا موهوباً وأطرب عشاق فنه مسموعاً، بأعذب الألحان وأرق كلمات الأشعار، فرددت جماهيره كل الذي شدى به، وعندما عاد النعش من المنفى كان نبأ الرحيل قد عمً كل الوطن، فتقاطرت جموع الناس لاستقبال الجسد المسجى بعد أن طال عنهم وعن الوطن لآمد طال بالمنفى، كانوا مساجيناً داخل أوطانهم، وكان سجيناً في منفاه ومسكوناً بهم وبدائه العضال.
ذكر ربيب المنافي محمود درويش مرة عن المنفى " إن السجين هو الذي يغني لأنه موجود مع نفسه والآخرين، أما السجان فموجود مع الآخر،، مهنته أن يحفظ ويؤمن عزلة الآخر إلى درجة تجعله ينسى عزلته هو ،، لذا لم نسمع بسجان يغني!"
نترك الدنيا وفي ذاكرة الدنيا
لنا ذكر وذكرى من فعال وخلق
ولنا إرث من الحكمة والحلم وحب الآخرين
ولنا في خدمة الشعب عرق
فها نحن نبكيك بآهات الخليل على الوطن وهو يفارق يا مصطفى،، وبهمهمات عم عبد الرحيم وهو هائم على طرقات المدن الباكية ،، "فوداعاً يا ناي المغلوبين ويا سيد العارفين بالتغيير والثقافة غير مدفوعة الأجر، ونم هادئاً يا ربابتنا الحزينة، وكن مطمئناً أن ذكراك ستطوف حول مخيلتنا كالهامات على رؤوس الصديقين وكالهالات على رؤوس القديسين، فنم قرير العين يا رفيق".
__________
* ضمن صحيفة الميدان نقلاً عن صحيفة الاتحادي الدولية بالقاهرة عشية رحيل المطرب مصطفى سيد احمد.
hassan elgizuli [elgizuli@hotmail.com]