في ذكرى رحيل الدكتور حافظ فضل
alshiglini@gmail.com
حالماً عاش بيننا، وحالماً رحل.
لم يرِدْ أن يكلف أحباءه كثير شيء غير الرحيل بهدوء. في عين معارك الدُنيا كان حافظ بلسم الجراح. وكان الجرّاح، في يده مشرط الطيب. نردٌ تدحرج علينا في مُنعطفات العُمر، وكسبنا إنسانية فيَّاضة لم نعرف كيف نُدوّنها. مسّته ريح من يجلسون للصفاء النفسي سويعاتٍ ينهلون منه فوق ما نعرف. لن تجنح سفائننا إن نظرناه كمؤسس حياة عِرفانية لا تعرف لها شريكاً غير روح تخفّت متسربلة عبر قرون ولبست جسده. كمؤسسي الديانات القديمة هو، يمشي بيننا ويمتلك قلوبنا. ونحن لا نعرف كيف تدور الدُنيا بكل رغائبها، وهي على يده خُبزاً يصنعه حافظ من أجلنا دوماً. بين المعرفة والمحبة والصداقة يتخذ حافظ لنفسه الجمع بين كل العلائق الإنسانية ويتجرعها راضياً، ويهبها لجميع معارفه.
(2)
رآني أول مرة على سرير الاستشفاء وكان هو زائراً، فلدينا أصدقاء مشتركين بيننا. أمسك يدي بمحبّة، وبدأ يسرد لي عن الدنيا من حولي يُجملها، ونسيت أنني على حافة رحيل أبدي أو أكاد. من صُنع يديه كان يحضر لي طعاماً (عُزوبياً ) فاخراً، مغموساً بمحبة لا أول لها ولا آخر. يسافر من أقصى برلين إلى أقصاها وأتجمل بمرآه ومُحادثته.
يقول الطيبون من بُسطاء شعبنا:
(يرحل الطيبون عن دُنيانا عاجلاً، أما الأشقياء فيركضون خلفنا.)
رحل الطيّب الإنسان بلغته ولغة العصر، وإنني متفائل بأن مسلكه بما يُضمر عن فكر،
سيبقى بيننا، لم ينته الأمر برحيله. فالذهن البشري خلّاق وقادر أن يقفز من حواجز الجسد وسجونه ويحطّ في جسد آخر، ولستُ مُخطرفاً.
من فاهِك يا حافظ، يخرُج الغُصن،
وتُمسكُه حَمامة .
من نظر مُحيَّاكَ، يأتي الخير برداً رقيقاً على البشرة،
وتأتينا السلامة .
(3)
في البدء لم أكن أعرف أن طائر الرفراف أو الذعرة أوالكناري أو الحسّون جميعاً أقصر عُمراً من العُقاب .أنتَ عصفور حطَّ على دربي ثم طار، ولم أكن أعرف أن عمري اليوم صار أطول ، إلا بعد أن سمعت أنك هادئاً رحلت .شقيٌ أنا بدونك. .تركت لنا رُكن الشقاوة نصطلي بها و غادرتنا هَمساً .
كانت الدُنيا عندما التقينا حزمة عِشق رغم المُصائب من حولنا، ذات سعة وبالناس أرحب. نمُد دفتر الهويّة يوم وأقصاه ليلة، وتفتح لك الأكوان أبوابها.. جيئة، و إن أردت ذهابا .
حين التقيتُك قبل أكثر من ثلاثة عقود، بدوت ناصعاً أنتَ وزوجُك وطفلكما الأول .
مجدٌ يُضاحكني رغم أن في البال شواغل .كنتُ أنا على شفا رحيل أبدي أو أكاد،
وكنت أنت بلسم جراح النفس والبدن.
(4)
من صُنع يداك تذوقتُ طعام موطني، وأنا بعيد عنه، أدفأ ألف مرة من كل الأطعمة الملوكيّة التي تأتي بأطباق العِناية .على سرير الاستشفاء جلست أنا وكنتَ قُبالتي تسرُد الحكاوي المُطربة فتخضرّ أحلامي.
تركب تُرام المدينة من أقصى برلين الغربية إلى أطراف ( اشبانداو )، تحمل قلبكَ على أرجوحة الهوى. طعم حديثك دافئاً، وداخل جسدك طفلٌ صغير وعالِم كبير، عصفورٌ يُرفرِف وراحلة سماوية تطوي السماء طيا .
جئتني كأنك تعرفني قبل ميلادي. كأنك لعبت مع أقراني في الضاحية، أو اشتركنا هوى حين كان العِشق في طفولتنا نقتسمه كقطعة خُبز . كأن الحلاج قد قرأ حُزني حين قال :
عَجبتُ مِنكَ وَ مِني يا مُنية المُتَمنّي
أدنيتني مِنكَ حَتى ظَننتُ أَنَكَ أَني
(5)
أي غمام حملك لموطنك ؟
وأي سِفر قديم دَلَّكَ أن ميعاد الرحيل قد أزِف، وتُراب الوطن خير مرقد للأجساد.
ما أعجب الدُنيا، نودعها بطيب خاطر، وتستقبلها الأجنَّة بالصراخِ .
على الضفاف ضَربت الجُروف ماءها أدمعاً غزيرة، وارتجّ كوننا الصغير أن سامِقاً قد رحل بلا وداع .
لأباريق الجنان بمائها السلسبيل أن تطرَب، و تنسكب بإذن مولاها على مرقدك تُرطبه،
وتُبرّد من على البُعد مواجعنا .
عبدالله الشقليني
28 نوفمبر 2018