في ذكرى رحيل الشيخ محمد الشقليني الثانية
في ذكرى رحيل الشيخ محمد الشقليني الثانية
تمر الذكرى السنوية الثانية لرحيله ، مرور النسائم المنعشة وقت أن يشتد الحرّ. في صبيحة يوم من أيام العشر الأواخر من رمضان، الموافق 24 من أغسطس 2011م، وفي بيته أسلم الروح.
نقطف من سيرته ويرتد الطرف بزخم الحضور البهي عائداً من لُجَّة الغياب. صورة كاملة تشع في الذاكرة. بدأنا منذ نعومة أظافرنا نتعرف عليه ، من المهد الذي ما كنا نُدرك عنده كل شيء ، إلى أن عرفنا الدنيا فكان هو ملء العين غنياً بخصالٍ نادرة . ما كُنا نحس تلك الأيام أنا نعيش في كنفه ، وهو يرقبنا منذ طفولتنا الأولى ، ونحن نتسلق شجرة العُمر ، حتى عرفنا من بعد زمان طويل وتاريخ وعِبَر، كيف كان هو وكيف كانت صِدق التجربة لديه وإخلاص صاحبها لها .
كان المؤذن لكل الأوقات في مسجد الشيخ حمد النيل بأبي كدوك، عملاً يرجو به أجراً عند صاحب الوقت ومُسير الأرزاق . توجس كثيراً عندما خصصت الدولة أجراً بعد أن صار رفع الأذان مهنة . و توجس خيفة واحتجب صوته بضع أيام ، إذ أن الأذان عنده متعة دينية لا يتعّين أن يشوبها في نظره غرض دنيوي وضيع ، لكنه عاد بطلب من كثيرين ليكن له ما يحب وكما يريد ، بدون أجر الدُنيا ، فصوته حين يرفع الأذان لؤلؤة تعيدك من لهث الدنيا إلى عوالم الروح وإسلام الطاعة لا الجبر .
تربط الراحل " الشيح محمد الشقليني" رابطة جيرة وصداقة مع الراحل الشيخ "الريّح بن الشيخ حمد النيل" ، والد شيخ السجادة العركية الحالي " الشيخ محمد بن الريّح بن الشيخ حمد النيل" . لهما معزة كبيرة عنده ، وتجمعهما سيرة حياة وجيرة و عشرة ونسب. عُشرة ربطت السجادة العركية بالسجادة الإدريسية ، بحور تهفو إليها الأرواح الواجدة . أرواح مختلفة في أذكارها ولكنها متفقة في أصل التأويل ومصادره ومتفقة في التسامُح الديني ، على غير ما نشهد اليوم من غلوٍ وتَطرّف ، الذي ملأ الدنيا احمراراً، فالدم البشري رخيص عند الذين يكفرونَكَ وقت أن تَستنهض عقلك لتُفكر ، ويحبب ذهنك الوثاب أن يستجير عندك المُختلفون . فالتكفيريون وضعوا همّهم التنظيم والضبط وأمن الأتِّباع وقتل المختلفين عنهم . تجدهم يسعون حثيثاً لنيل السلطة بأية وسيلة ، فالغاية تسترخص الوسائل عندهم. تلك السلطة التي لم يأمر بها المعصوم ، ورغم ذلك تجد الذين سعوا إليها في التاريخ قد ذهبوا لسقيفة بني ساعدة ، ولم يجتمعوا في المساجد فهي لله . أحال قساة القلوب اليوم البؤسَ لباساً لحياة الناس، وسقوا البشرزقوم الذّل . يقدسون الفروع ويتركون العِبر ورسائل العقائد، وهي واضحة يقرأها الجميع ،آيات مورقة من الذكر الحكيم ، خمس مرات في اليوم تنبُس بها الشفاه، وترتد عن حوائط الأنفُس الغليظة. يضع التكفيريون دائماً السيف موضع الندى! . فأين العلم مع كراهية الآخر ؟ . كأن نزع المحبة والبسمة من حياة الناس ، مدخلاً للتبشير بالموت الذي يرجزون به عند كل سانحة،و يقولون عن الآخرين الذين تقدموا علينا في ميادين العلم والتنوير : ( هؤلاء مدّ لهم الله في غيهم بنعم الدنيا ، ونحن لنا الآخرة ) !. فعرفنا من أفعالهم وأقوالهم أنهم يبتغون عرض الدنيا ، سيف الباطل، يشهره القتلة والموتورون . فكيف من ترتجي أنتَ له العافية من الغلو والتطرف وهو يحمل في وجهكَ سيفاً ، يطلب رأسك لأنه يرى فيه رخصة لجنان موعودة ، هو في حقيقة أمره أبعد من أن يتأملها!.
(2)
كان أبي الشيخ ،أكثر ما كنا نسمعه في وجودنا من حوله ، محبته أن يتلو آية ( الباقيات الصالحات ) ومستحقاتها من سورة الكهف .(سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا إله إلا الله ، خير عند ربك ثواباً وأملاً ) . بها يبدأ يومه ومعاشه وإلى أن يهجد إلى منامه .
تجده دائماً مشرق الوجه، في إصباحه، حتى عندما نتكدّر في معاركنا فلاحاً في الدنيا ، لم نلحظ من غضبه إلا لطائف في القول ، تُنبِه وتُعاتب .لا ينهر أو يرفع يده على أحد . يحترم رؤى الصغار من أبنائه أو بناته وغيرهم، ويحاورهم ، ليرفع سقف الندِّية ويتعلموا، فهم عصافير صغيرة يكسوها الزغب ،ما قادرة هي على الطيران . يقدِّر طباعهم المدفونة في عقولهم والموروثة ، فلم يكن غليظاً أبداً .
كان قريب الدّمع عند مفارقة الأحبة أو عند اللقاء.وعندما نستقبله من بعد سفر ، تكاد أدمعه تطفر من المُقَل ، ويلحقها بيده .رأيت أدمُعه مرتين بحالة لا تنساها الذاكرة : الأولى عند ما أخذني في حضنه عند قدومي من سفرٍ وعلاج في ثمانينات القرن الماضي، والثانية حين قدمتُ في عيد الأضحى لمنزله عام 2009 م بعد غياب طال ثلاثة عشر عاماً عن الوطن، وكان لقائي الأخير. رغم كل تلك العاطفة وأشجانها ، تجده عند ما تنقضي الآجال ، يقف وقفة الصابرين ، يتجلد بذات الرحمة التي وجدناها في مسلكه بيننا. فقد تتلمذتُ في مدرسته وتعلمت منه تفاصيل تهيئة الميت وتجهيزه إلى المثوى : وضوءه وغسله وتعطيره وتكفينه باللفائف الثلاث،عندما يأذن صاحب الوقت بأن العُمر قد انقضى وأن الساعة قد أزفت. فتلك المآثر ، لما تزل مغموسة في صلب الحياة الاجتماعية عندنا ، اختلطت فيها روح العقيدة بالعادات .لا تجده جزعاً ساعة الموت، يدخل في طقس إعداد الميت كأن بين يديه طفلٌ رضيع . يبدأ باسم الله وينتهي باسمه . ينظِّم التفاصيل وفق السنة النبوية المطهرة، مُضيفاً عليها ما اعتادته العشيرة من الروائح المكنوزة والمصنوعة لعطر الرحيل " الحنوط" ، وهي تتقاطع في التفاصيل .في قمة الصراخ والعويل من حوله ، تجده راضياً بقدر الله مُطمئناً ، متيقناً بأن الدنيا رحلة أولى تعقبها الرحلة الأخرى الأهم، تلك التي يراها تُبشر الصابرين بنعمات لا تزول .
(3)
ما أبعدنا عنه وعن الوطن إلا إحساس بالضّيم ، وطعم الذُلّ الذي كنا نتذوقه في دور العمل العام وفي الطرقات ومن أجهزة الدولة القابضة على أنفاس الأحرار ، وقد لبست إزاراً يشبه إزار العقيدة لتُغطي عِريها من الفكر وخلو المنتمون إليها من أرزاق المعرفة والثقافة .أعادوا الدولة وشعوبها إلى بؤر العصبيات القبلية والعرقية البغيضة و سكبوا عليها ثارات الضغائن دماء تسيل بلا انقطاع، امتدت أرجاء الوطن وأريافه البعيدة ، حمراء كسماء الغروب تلتحم فيها الأرض بالسماء،قبل أن يرخي الليل أستاره . أشاعت "المنظمة" المَفْسَدة وزينت النهب باستغلال آي الذكر الحكيم، مبتورة المبنى والمعنى :(والذين إن مكناهم في الأرض ..).تأويلٌ يحمي الزُمرة صاحبة السلطان . قذفت بالوطن إلى قاع الأمم . وكشف التاريخ مكر الذين يستعمِلون الدِّين مطيةً لإذلال الكرام ، يريدون لأصحاب العُلا و الأنوف العالية أن تمتثل لتأديب الحُسّاد ومُستجِدي النعمة ، وليتها نعمة حلال !
(4)
تمر صفحة الذكرى ، وأذكر طفولتي ، حين كنتُ أحملُ له ولرفاقه في العمل وجبة طعام إفطار رمضان الذي كانت تعُده الوالدة إلى مَرْسَى" أبوروف،" حيث " المعديّة " تصل الناس بين أبوروف وشمبات " مكان عمله العام، الذي يجتمع إليه الجميع . يفرشون السِماط بما يتيسر .ونستكمل نحن رصف الآنية والأطباق التي تتقاطر علينا بطعامها الطيب من عند الجيران ، وطيب عُشرتهم وكرمهم الفواح يملأ المكان .
مُدفَع الإفطار هو السابق ، نسمعه رغم بعده عنا ، ينطلق من ركنٍ قصي في ميدان كرة القدم شرق المدرسة الأهلية الوسطى بأم درمان ،بشقيها الشمالية والجنوبية. فسحة بينها وبين بيت الأزهري الزعيم طريق .
ينتظر الجميع ساعة الإفطار لتصمت ماكينة " المعدّية" قليلاً راحة ليتناول الجميع طعام الإفطار ، واستراحة ، ثم تدور الماكينة مرة أخرى . كان صحن المحبة يسع النفوس جميعاً ، فتستطعم . كان الشيخ، شاكراً نِعمة الإفطار ،يؤم المصلين في المغرب ، ينقع صوته من سلسبيل الذكر الحكيم .
كان للزمان ضابطه ، وميعاد العمل العام لا يتقيد بمنْ حَضر ، بل بميعاد الإبحار إلى مرسى "شمبات" قرب كلية الزراعة وكلية البيطرة جامعة الخرطوم . وقي البرّ عند الضفة الأخرى مدينة أخرى .يعبر الترام فيها قادماً من محطة الخرطوم الوسطى إلى محطة بحري ، وينتقل الرُّكاب عبر ترام " السِّمِع " إلى بقية الأرجاء . كان الكون في بداية الستينات صغيراً ،و كانت العاصمة المثلثة قليلة السكان .
تطور الأمر لاحقاً بإنشاء كوبري شمبات المعروف . حينها جاء الزمان بالبدائل الأفضل والأسرع ولم يعُد الجميع في حاجة لمشرع أبوروف ،فالوصال مأمونٌ للسيارات والناقلات، فانخفضت مكانة أبوروف التي كانت تضجّ بالبشر وتُحيي الأرزاق .
(5)
صلة جميلة نبتت بين والدي وبين أقرانه من حاملي مشعل الفن و التنوير منذ الثلاثينات . كانت بينه وبين الشاعر " محمد بشير عتيق " صداقة ومحبة ، لقاءات وجولات من الحوار . كان والدي يحترم خيارات الذين يختلفون عنه ، يتبادل معهم الطُرف ويتجاذب معهم الأحاديث . فالشاعر كان يأتي في موعد المعدَّية عند الفجر ، تجده ينتظر خيوط الصباح الأولى ليكتُب قصيدة شعر : أنا وإنتَ والنيل والقمر :
الليل هَدَا والجوْ صِفا وغاب الأتر
والنسيم يجيب من تُوتي أصوات المَتَر
فالشاعر من الذين انتقلوا بالقصيدة الغنائية من الأوصاف الحسية إلى الأحاسيس النبيلة وحديث الأرواح، مثل أبناء جيله المبدعين.
كنت اتنصت أصابع " الشيخ " وهي تعتاد النقر بإيقاع منتظم مضبوط ، وهو يدندن ببعض أبيات في المديح النبوي من المادح الملقب بـ "الأراجوز " . تلك من القصص التي حملتها فراشات الموسيقى ، يتوزعنَّ على البشر في زمانهم ذاك و ينشرنَّ لقاح المحبة ، في زمن العفاف الندي ، عندما يطلبه أصحابه ، في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات والستينات.
تلك قبس من سيرة الشيخ الراحل " محمد الشقليني "، تبدّت في عُجالة ، نأتي عليها قطرات وبالنذر اليسير، ألا رحمه المولى وأفسح له من جنانه ، ليجد مُتكاً في صحبة الذين " شواه " الشوق إليهم .
عبد الله الشقليني
24/08/2013
abdallashiglini@hotmail.com
//////////////